عمّار ديّوب

متجهماً يتكلم، لغته صعبة المنال عادة، وهو سيد في المفاهيم والمصطلحات. عكس ذلك بدا المفكر #طيب_التيزيني في ندوة في #المغرب مؤخراً.. بدا رجلاً عجوزاً، متعباً مرهقاً، يتكلم بصعوبة، ويؤكد أن كل ما يطرحه يستدعي البحث مجدداً؛ قدّم أفكاراً أوليّة عما يحدث في بلاده، وقد بكى مرتين بلاده الممتدة في التاريخ لأكثر من سبعة آلاف عام، وقال: لقد سقطت #سوريا.. انهارت سوريا. ليست المرة الأولى التي يبكيها وفقاً لما نقل محاوروه عنه في العام الأخير. حين يبكي المفكر بلاده، تكون بلاده ليست بخير أبداً.

 

أسّس لموضوع ندوته بدءاً باستقلال سوريا 1946، وركّز على التعددية الثقافية والقومية والدينية فيها، وأن رجل كفارس الخوري تسلّم وزارة الأوقاف في نادرةٍ لن تتكرر في تاريخ العرب أبداً. أما تأسيس الواحدية السياسية والفكر الواحد فتمّ  مع عبد الناصر؛ فمعه بدأ القضاء على التعددية التي اشتهرت سوريا فيها. ثم جاء نظام قانون الطوارئ والذي امتد لسبعة عقودٍ متتالية. عقوداً اتسمت بالإفساد العام والشمولية، وفيها انحط المجتمع بأكمله، فبدلاً من النزوع القومي والاشتراكي والتعددية قبل السبعينات ساهم النظام بعد هذا العقد بإنشاء طوائف منغلقة على ذاتها، وكأنّها تؤهل نفسها لدولة مستقلة عن بقية الطوائف.

مع حكم الطوارئ تأسّس عهد الفساد الأكبر، فأصبح الجميع فاسدين ومفسدين، وكل من لا يوافق على ذلك مصيره الموت أو الهجرة، وبالتالي لكي تضمن الأمان والسلامة لا بد أن تصبح فاسداً؛ هذه كانت السياسة العامة للدولة الشمولية.

يرى التيزيني، أن ما يحدث في سوريا يفتح تاريخ العالم ولا سيما بعد القرن التاسع عشر، وكأنّه يريد القول أن الصراع الامبريالي والإقليمي في سوريا يعبر عن مأزق حقيقي للعالم بأسره ومنذ ذلك القرن. دون شك فحجم التدخل العالمي ومنذ بداية 2011 وإلى جانب النظام أولاً كان واضحاً، ولاحقاً دخلت بقية الدول عبر دعوة المعارضة لها، وكذلك لضمان مصالحها، وهو الأساس. فالوضع السوري تزامن مع انتقال أمريكي نحو مواجهة الصين ودخول الروس إلى المنطقة لفرض تقاسم دولي، ولا سيما أنهم خسروا في #ليبيا و #العراق من قبل.

العالم يحكمه السوق العولمية المطلقة، وكل شيء يتشيّأ فيه، أي انخفضت قيمة الإنسان وارتفعت قيمة الأشياء، بل إن الإنسان أصبح شيئاً مبتذلاً. في هذا يرى مفكرنا، أن الجماعات المتقاتلة في سوريا أصبحت قضية السلطة ذاتها ليست الأساس لها، بل قضية الإفناء المتبادل، وفي هذا تتوضّح المؤامرة على سوريا والمنطقة بأسرها. فسوريا الآن عبرة لبقية شعوب المنطقة،  وبالتالي فإمّا الانصياع للتقاسم الدولي الجديد، وإمّا إفناء لا يبقى ولا يذر.

يطرح التيزيني قضية خطرة، هل من أسّس لتاريخنا ينتمون للجنس البشري حقاً، أم هم أقل من بشر حقيقيين؟!. ويصيغ الفكرة ذاتها، في سوريا هناك جدلية الوجود والموت، أو الانتقال من الوحشية إلى الإنسانية، وبالتالي ما زال التاريخ البشري ما قبل الإنساني، ومن هنا يعيد السؤال: لماذا لم نصل إلى الإنسانية؟!

يتناول قضية خطرة، قضية شاغلة الناس ومالئة حياتهم، وهي مسألة الحقيقة الدينية. ويؤكد أن الشيء في ذاته، المقولة التي تنسب لكانط، تقول لا أحد يعرف هذا الشيء، بل يعرف الجميع الحقيقة الخاصة به، وبالتالي كل جماعة دينية لديها حقيقتها الخاصة بها، وأما الشيء في ذاته فهو حكر على الله ذاته، وذاته لا يمكن لأحدٍ أن يعرفها. يريد القول ليس من حق جماعة مصادرة القول الإلهي، وإن كل جماعة لديها فهمها الخاص لحقيقة الدين، وبالتالي لا يمكن اعتبار جماعة صحيحة وبقية الجماعات الأخرى خاطئة.

يمكننا صياغة الفكرة بطريقة مختلفة ووفقاً لما ارتأى علي عبد الرازق، حيث أكد في كتابه الإسلام وأصول الحكم، أن الحكم الإسلامي ولا سيما بعد الخلفاء الراشدين، ويمكن القول من وفاة الرسول، أصبح حكماً مدنياً، ولصالح الجماعات الأكثر نفوذاً، وهذا ما يتوضح مع الأسرة الأموية والعباسية. الأسر التي سخرت الدين لضمان مصالحها وانتقال الخلافة بشكل سلس، وبما يعزز من سيطرتهم على الدولة الإسلامية.

الادعاء بالحاكمية لله، والتي تشهرها الجماعات الطائفية، هي مصادرة حق بقية أفراد وجماعات الشعب بالحكم، وهو ادعاء فاسد، فحكمها يتوافق مع شكل فهمها الخاص للدين، ولا يعبر عن الدين في ذاته، وبالتالي هو تحكم جماعات سياسة ولها أمير أو خليفة أو زعيم ما ببقية الناس. يطرح الموضوع بقوة في سوريا، والتيزيني يجد أن الطوائف التي انغلقت على ذاتها بالتدريج شكلت رؤيتها الخاصة وظهر ذلك حالما تأزم الوضع فانكفأت معاديةً للطوائف الأخرى.

الإشكال الأكبر، فالدولة التي وجد ابن خلدون أنها سبب للتطور العام، فهي ذاتها من كانت سبباً في انحطاط المجتمع ودماره، فبتراجعها يتفكك المجتمع دفعة واحدة. هذه قضية إشكالية بحق، فهي إذاً لا تمثل تراكماً في التطور ولا في أي شكل من أشكال الحداثة. فزوالها يفكك المجتمع ويذره.

سوريا كما الدول العربية، تواجه مشروعين، فالأول وهو المشروع الوطني الديمقراطي التنويري، والثاني المشروع الطائفي المذهبي التكفيري، وإذا كانت الغلبة للثاني فإن الأول سيخوض صراعات مستمرة إلى أن يسيطر مجدداً، فيعود التاريخ إلى سياقه الطبيعي وصيرورة الحداثة.

شارك طيب التيزيني، في أوائل الاحتجاجات في دمشق، واعتقل من أمام وزارة الداخلية لساعات قليلة وفج رأسه حينها، ولاحقاً شارك بالحوار الذي أشرف عليه فاروق الشرع، ولكن الأخير غيّب، وكذلك أي حوار، وكان التيزيني قد أصدر رأيه بالدولة الأمنية وبالفساد قبل 2011 بأكثر من عقد.

المثقف السوري، طيب التيزيني والآخرون مدعوون إلى إطلاق مشروع وطني ديمقراطي من أجل كل السوريين، فسوريا تكاد تخرج نهائياً من التطور الحداثي والأيدي السورية، وتصبح رهينة مشاريع إمبريالية وإقليمية وجهادية، ويسودها التفكك إلى مناطق نفوذ وربما حروب مستمرة.

سوريا ليست بعيدة عن مصير الصومال أو أفغانستان إن لم تنته الحرب، وإن لم ندخل مرحلة الانتقال السياسي، إلى بلد للجميع، ومحاسبة كافة من رفض هذه المرحلة، وحكّمَ الخارج في مآلاتها الكارثية.

 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة