البصرة_ ودق ماضي

لا تزال آثار التخندق القبلي تؤثر على مجتمعات المدينة في محافظات العراق الجنوبية، لا سيما مظاهر “الفصل العشائري” الذي يُعد ظاهرة واسعة الانتشار في مناطق (النجف، الناصرية، كربلاء، العمارة، البصرة والديوانية)، وتتمسّك بها العشائر والقبائل العربية ذات النفوذ والسلطة الأخلاقية والمجتمعية، كنوعٍ من “المتاجرة” بالمشاكل، بحسب مراقبين.

إذ تنظر العشائر في جرائم القتل والسرقة والشجار والطلاق والزواج والإرث، وقضايا جنائية واجتماعية مختلفة، لدرجةٍ أنها تجاوزت في حالات عديدة على القانون العراقي، ولعل مجتمع جنوب العراق بات يُفضّل أحكام العشيرة على اللجوء إلى المحاكم القضائية.

بعد إصدار السلطات العراقية قانون تجريم “الدكة العشائري” وهي إحدى مظاهر الفصل العشائري، نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، انحسرت ممارسة “الفصل” نسبياً جنوبي البلاد، خصوصاً بعد إعلان عقوبة مرتكبيها بقانون “مكافحة الإرهاب”.

من أحد مظاهر الدكّة العشائرية في العراق- أرشيف غوغل

وتتخلص “الدكة”، بإقدام مسلحين ينتمون إلى قبيلة معينة على تهديد أسرة في بيتها تنتمي إلى قبيلة ثانية، فتتم “الدكة” عبر عملية إطلاق نار بمختلف الأسلحة بما فيها الثقيلة أو إلقاء قنابل يدوية أحياناً على منزل الجهة المستهدفة، كتحذير بهدف دفعها إلى الجلوس والتفاوض لتسوية الخلاف، ومن ثم دفع المال الذي تجاوز في كثير من الأحيان مئات آلاف الدولارات.

وأكدت مصادر قضائية من محكمة البصرة العامة، أن “ممارسة الفصل العشائري في المحافظات الجنوبية، قلّ بنسب جيدة مقارنة بالأعوام السابقة، وتحديداً بعد قيام القوات الأمنية باعتقال العشرات من مرتكبي الدكة العشائرية، ومحاكمتهم وفق قانون الإرهاب، ومنهم من حكم عليه بالمؤبد ومنهم من حكم بعشر سنوات”.

مبيّنةً لـ”الحل العراق”، أن “معظم الذين اعتقلوا كانوا متلبسين بالجرم المشهود، أي أن السلطات الأمنية ألقت القبض عليهم، في نفس اللحظات التي كانوا يعتدون فيها على منازل تابعة لعشائر أخرى، على خلافٍ معهم”.

وأضافت، أن “غالبية شيوخ العشائر اجتمعوا مع إعلان القانون الجديد، مع القادة الأمنيين في المحافظات الجنوبية، ومنهم من اجتمع مع وزير الداخلية السابق قاسم الأعرجي من أجل تثبيت التعهدات بمنع أبنائهم من ممارسة الدكة”.

موضحةً أن “الدكة هي بالأصل جزء لا يتجزأ من الفصل العشائري، وإن تجريم الأول يعني حسر الثاني”.

من أحد مظاهر الدكّة العشائرية جنوبي العراق- أرشيف غوغل

من جهته، أشار المسؤول المحلي في محافظة ذي قار حسين الغالبي، إلى أن “القانون العراقي كان قد ضعُف كثيراً بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، حيث أدت العشيرة غرض الدولة، وصارت تحكم بين الناس بأحكام عرفية تستند إلى قواعد قبلية لا تتناسب مع القانون الأصلي للبلاد، ولكن بعد الأزمة التي استهدفت كل مفاصل الدولة العراقية، وتحديداً بعد عام 2014 وهجوم تنظيم “داعش” الإرهابي، جعل الدولة تراجع أوراقها بما يتعلق بتثبيت الأمن والقانون في جميع مناطق البلاد، وما أصاب الجنوب كان تحجيم ظاهرة الدكة العشائرية”.

وتابع الغالبي في حديثٍ مع “الحل العراق”، أن “الدولة تعمل على إرجاع هيبتها، عبر العناصر الأمنية وإشاعة الاعتماد على المحاكم وليس على الأحكام العرفية التي يتعامل بها المجتمع في حل قضاياه”.

لافتاً إلى أن “الكثير من عشائر الجنوب تعاونت مع الدولة، وهناك مَنْ تمرّد عليها، وتسعى الدولة حالياً إلى إقناع العشائر المتمردة بالسبل الهادئة وليس اتباع الأساليب القوية والعنيفة، لأن عشائر جنوب العراق تمتلك سلاحاً لا يختلف عدده ونوعه مع ما تملكه القوات الأمنية”.

في غضون ذلك، قال أحد وجهاء العشائر في “مدينة الصدر” ببغداد، لموقع “الحل العراق”، إن “العشائر التي تمارس الفصل العشائري، هي لا تتجاوز على الدولة إنما من أجل منع استمرار استهتار بعض أفراد العشائر، وفي حقيقته، هو أداة لحفظ دماء الناس والعرض والكرامة، ولكن هناك من عمل تخريب هذه الصورة المهمة ضمن التكوين الاجتماعي للمجتمع العراقي”، مؤكداً في الوقت ذاته، “تراجع السلوكيات السيئة التي كانت تنتهجها بعض العشائر”.

من أحد مظاهر الدكّة العشائرية جنوبي العراق- أرشيف غوغل

اجتماعياً، رأى الباحث باسم الخيكاني، أن “الحكومة العراقية تسعى لمنع الفصل العشائري وحظره، وتوجيه تعاملات المواطنين في مشكلاتهم مع القانون، ولكن الحكومة في نفس الوقت، تخشى أن تصدر قانوناً بحق الفصل العشائري مباشرة، لذلك هي تعمل على تحجيم مظاهر الفصل، شيئاً فشيئاً”.

مبيناً أن “منع الدكة حالياً وتجريم مرتكبيها، قد يشهد تطوراً خلال الفترات المقبلة، وقد تشتد العقوبات أكثر وتُمنع مظاهر أخرى، ومع مرور الزمن ستنتهي ظاهرة الفصل بالكامل”.

وتغالي العشائر العراقية في التعويضات المالية التي تأخذها من المخالفين لها، أو المعتدين على فرد من أفرادها، إذ تطلب مبالغ تصل إلى مليار دينار عراقي (حوالي 850 ألف دولار) على اعتبارها ديّة لأحد أبنائها.

وينطبق الأمر على بعض السياسيين، حيث سبقت لعشيرة السياسية والنائبة السابقة في البرلمان العراقي حنان الفتلاوي (رئيس حركة إرادة)، أن غرمت عشيرة المتحدث باسم كتلة المواطن (التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى) بليغ أبي كلل، على خلفية تصريحات متلفزة مبلغ /100/ مليون دينار (حوالي 85 ألف دولار)، خلال الفصل العشائري الذي حصل في مدينة الحلة جنوب بغداد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.