*د. أحمد يوسف (الحل) – دخلت الأزمة السورية عامها الثامن حاملة معها كل مقومات الانهيار الاقتصادي في بلدٍ يطفو على بحر من الثروات الطبيعية والبشرية، ويعد مصدراً غنياً لسلة الغذاء السورية، المحققة للأمن الغذائي الذي يشكل بدوره أساساً  متيناً لتحقيق الأمن الوطني الشامل لجميع المجالات. وأخطأت بوصلة الحراك السوري السلمي بتضافر مجموعة من الجهود المحلية والخارجية، ورسمت مساراً معاكساً للمطالب الشعبية المعبرة عن الواقع بصورةٍ أكثر مصداقية، وأدت إلى بروز نتائج كارثية يتلمسها كل سوريٍ دفع الفاتورة الضخمة لهذه الأزمة التي أفقدته معظم قيمه الإنسانية ومكاسبه الاقتصادية.

اقتصادياً، لا يمكننا منح التعبير الحقيقي عن كارثية الوضع السوري، إلا بعد أن ندرك حقيقة المأساة التي حلت بجميع مفاصل الاقتصاد على المستوى الكلي. ويمكن إظهار تلك الحقيقة من خلال بعض المعطيات الهامة والمتعلقة بالناتج المحلي والتغيرات الحاصلة في مستوى المعيشة على النحو التالي:

 

أولاً: انهيار الناتج المحلي الإجمالي

يعبر الناتج المحلي الإجمالي عن واقع التطور في القطاعات الاقتصادية الزراعية والصناعية والخدمية من خلال إجراء المقارنات بين أحجام النواتج في تلك القطاعات سنويا؛ أو عبر سلسلة زمنية. لذلك لن يكون من الصعوبة معرفة حجم الانهيار الحاصل في الناتج المحلي الإجمالي السوري من خلال تتبع التطورات التي شهدتها القطاعات الاقتصادية في سنوات الأزمة، ومقارنتها بما قبل الأزمة، حيث نلاحظ تراجع هذا الناتج من 60 مليار دولار أمريكي في عام 2010 إلى 20 مليار دولار تقريباً في عام 2016، ولا شك أن ذلك انعكاس مباشر لتدهور القطاعات الاقتصادية الذي يمكن توضيحه من خلال بعض التطورات السلبية في المجالات التالية:

  • تضرر القطاع الصناعي والبنية التحتية:

إذا كان القطاع الصناعي العام يعاني من نقاط خلل كثيرة في المرحلة التي سبقت الأزمة السورية، وتحقيقه لخسارات متتالية نتيجة المشكلات المتعلقة بالسياسات الإدارية والتقنية فيه، فإن القطاع الخاص كان يسير وفق منحى آخر أكثر تطوراً ومواكبة للثورة العلمية والتكنولوجية، وذلك بعد صدور قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 وتعديلاته اللاحقة، وقد ارتفع نسبة مساهمته  في تكوين إجمالي الناتج المحلي في سوريا إلى 60% في بعض السنوات، وهو ما يعني أن دور القطاع الخاص كان قد ترسخ في المنظومة الاقتصادية السورية.

لقد أدت الأزمة السورية إلى انهيار شبه كامل في هذا القطاع عبر عمليات التدمير والتفكيك الذي بلغ ما يعادل 80% من إجمالي المنشآت الصناعية الخاصة. كما أن عملية التدمير تلك قد شمل مؤسسات الخدمات العامة مثل محطات توليد الكهرباء وشبكات إمداد المياه والطرق العامة، ولعل المحطة الحرارية في حلب يشكل مثالاً واضحاً يعبر عن حقيقة ما جرى للبنية التحتية.

  • انخفاض الإنتاج الزراعي:

على الرغم من التطورات التي شهدها القطاع الصناعي في سوريا، إلا أن القطاع الزراعي ما زال هو السائد فيه، وتتجاوز نسبة مساهمته في تكوين الناتج المحلي الإجمالي 50% مقارنة مع مساهمة القطاعات الأخرى. ولقد تراجع الإنتاج الزراعي نتيجة الأزمة السورية بمعدلات تتجاوز 50%، وهو يعني أن تراجع القطاعالزراعي لوحده ساهم في تحقيق تراجع في الناتج المحلي الإجمالي بما يعادل 25%.

  • نمو الاقتصاد الأسود:

إذا اعتمدنا تعريف الاقتصاد الأسود؛ أو الخفي على أنه كل نشاط مولد للدخل ولا يتم احتسابه في الناتج المحلي الإجمالي، إما بسبب التهرب من الضرائب وغيرها من الاستحقاقات، أو لعدم قانونيته، عندئذ يمكننا القول أن هذا القطاع قد شهد تطوراً هائلاً في سورية، نتيجة خروج الكثير من المنشآت الصناعية ومصادر الطاقة من سيطرة الدولة، وعدم قدرة الجهات الإدارية المتخصصة بالاقتصاد متابعة تلك النشاطات وتوثيقها وتنظيمها، لذلك تذهب بعض الدراسات بعيداً في التطورات التي شهدها الاقتصاد الأسود في سوريا، حيث بلغت نسبته ما يعادل وفقاً لبعض الدراسات 60% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وبناءً على ذلك يمكننا توصيف الاقتصاد السوري بأنه الاقتصاد الأسود في ظل سيطرة آلة الحرب.

 

ثانياً: تراجع مستويات المعيشة

لم تكن سوريا ما قبل الأزمة من الدول ذات متوسط العالي للدخل، إلا أن حجم الطبقة المتوسطة الدخل كان واسعاً، وهو ما يعبر إلى حدٍ كبير عن عدالة اجتماعية جزئية. وقد قارب متوسط دخل الفرد السوري (3500) دولار أمريكي سنوياً في نهاية تلك الفترة. إلا أنه شهد تدهوراً كبيراً خلال سنوات الأزمة ليتراجع إلى مستوى (1000) دولار أمريكي سنوياً في الجغرافيا التي يتحكم بها النظام وإلى ما دون ذلك بكثير في جغرافيا مناطق المعارضة باستثناء مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية التي يعيش سكانها بمستويات معيشية أعلى نسبياً. ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل المساعدة مثل ارتفاع ساعات التزود بالطاقة الكهربائية وانخفاض تكلفة الحصول على المشتقات النفطية الضرورية للحياة، إضافةً إلى توفر فرص العمل برواتب أعلى من تلك السائدة في مناطق سيطرة النظام.

يمكن إبراز التراجع الحاصل في مستويات المعيشة من خلال ما يلي:

  • ارتفاع معدلات البطالة، حيث أن عمليات النزوح والهجرة والانتقال إلى المخيمات أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة في المجتمع السوري من 8% تقريباً من إجمالي القوى العاملة السورية في 2010 إلى 54% بعد ثماني سنوات من الأزمة، وذلك حسب بعض المصادر التي تؤكد أن معدلات البطالة في سوريا تعد الأعلى عالمياً.
  • التضخم وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين:

لا يمكن وصف ما حصل لليرة السورية أمام العملات الأجنبية إلا بالانهيار، حيث تجاوز قيمة الدولار الأمريكي الواحد مقابل الليرة السورية أحد عشر ضعف قيمته في عام 2010، بينما ارتفعت كتلة الرواتب والأجور بالليرة السورية مقدار الضعف فقط. مما أدى إلى انهيار كبير في القدرة الشرائية للمواطن السوري في ظل انتهاء ما كان يسمى بالطبقة الوسطى والتي كانت تشكل غالبية المجتمع السوري وانتقال معظم أفرادها إلى ما دون خط الفقر الذي يشمل بحسب بعض الدراسات 71% من سكان سوريا.

  • ارتفاع في آليات التأقلم السلبي:

ترفض المجتمعات في ظروف السلم الأهلي الحالات التي تساهم في تراجع مستويات العدالة في جميع المجالات، بينما ترتفع في ظروف الفوضى ميول المجتمع نحو الحالات غير الطبيعية والبعيدة عن القيم الإنسانية وتزداد معدلات التأقلم مع العمليات الجرمية والفساد ومختلف أشكال السلوكيات المنحرفة. وقد برز ذلك من خلال ظهور المجموعات المسلحة التي تستهدف السرقة وارتكاب الجرائم الجنائية، والولوج في أسواق المسروقات التي انتشرت كالنار في الهشيم في عموم المناطق السورية. ولا شك أن ذلك شكل دعماً قوياً لنمو الاقتصاد الأسود في البلد.

  • انخفاض قدرة الوصول إلى الاحتياجات الأساسية:

تشير الإحصائيات إلى أن قيمة السلة الغذائية السورية للمواد الأساسية لأسرة مؤلفة من خمسة أشخاص في الربع الأخير من عام 2018 تعادل (310) ألاف ليرة سورية. فإذا كان ما يعادل 71% من سكان البلد قد وقعوا في فخ الفقر، وفقدوا في الوقت ذاته مقومات الخروج من خطه، فلا شك أن ذلك سيؤدي إلى تحقيق البيئة المناسبة لانخفاض قدرة المواطنين على تأمين احتياجاتهم المعيشية الأساسية، لا سيما المستلزمات الطبية الضرورية الأطعمة الخاصة بالأطفال. وقد برزت نتيجة هذه الحالات الغربية عن المجتمع السوري الكثير من السلوكيات السلبية لدرجة ترك الأطفال دون مأوى أو قتلهم بسبب الفقر المدقع وعدم القدرة على تأمين المستلزمات الضرورية لحياتهم، والتي تتجاوز قيمتها متوسط دخل الفرد للمواطن السوري عموماً، وذلك في ظل بلوغ العبء العائلي للشخص الواحد خمسة أشخاص.

بين النتائج الاجتماعية والاقتصادية للأزمة، ما زالت سوريا تسير وفق البوصلة التي أخطأت الطريق، وتمهد بذلك لمجاعات وكوارث إنسانية قد تؤدي بالبلد إلى الظهور في مقدمة دول المجاعات وغياب الأمن والأمان. فهل ذلك أمر وارد؟ لنترك الإجابة للزمن لعله يؤكد عدم صحة ما هو متوقع؟ وهذا هو المأمول.

 

* الدكتور أحمد يوسف كاتب وأكاديمي كردي سوري، عمل عضواً في الهيئة التدريسية في جامعات سورية في الاقتصاد المالي والنقدي، وله العديد من المقالات والأبحاث والكتب المنشورة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.