*د. أحمد يوسف (الحل) – تثير الكارثة السورية، الكثير من القضايا الهامة الوليدة من صلبها، وذات الأبعاد المختلفة في تأثيرها على الأوضاع العامة في البلد، ولعلّ تلك المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والإنسانية كانت الأكثر حظوةً في سجل اهتمامات المتابعين لشأن الأحداث السورية الدامية، لما لها من آثار مباشرة في حاضر ومستقبل البلد المنهك تحت وطأة قوى الشرخ والتفسخ للروابط الجامعة للتكوينات الأساسية في الجغرافيا السياسية السورية.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة تبرز شمولية الأزمة السورية، التي تضع المرء أمام حالةٍ من التشتت الفكري، وانعدام الوعي أمام مخرجاتها التي لا تقل هولاً عن مجازر الهوتو والتوتسي الراوندية. فإذا كانت السمة المميزة لهذه الأزمة إنسانياً هي النزيف الدموي الذي وضع حداً لحياة ما يتجاوز نصف مليون نسمة من سكان البلد من مختلف الفئات العمرية، وفقدان نصف السكان لما كان يأويهم قبل الأزمة، فإن السمة التي تميزها اقتصادياً لا تتوقف عند انهيار البنية التحتية، وفقدان نسبةٍ عالية من أهم الموارد الاقتصادية على الإطلاق من خلال ضياع نخبة الموارد البشرية، التي تؤكد معظم النظريات الاقتصادية، إن لم نقل جلّها، على دورها المحوري في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة، وذلك عبر عملية استنزاف مستمرة للأدمغة العلمية، نتيجة نضوج الظروف الطاردة لها مع دخول الأزمة عامها الثاني بعد إعلاء صوت السلاح والنار، وبروز قوى فاعلة على الأرض تلقي بقضايا التنمية البشرية في مهب سطوتها الجنونية.

نزيف الأدمغة ظاهرة ملازمة للتخلف

تؤكد الوقائع المتعلقة بالتطورات الحاصلة في الدول المتخلفة اعتباراً من النصف الثاني من القرن العشرين على وجود إجماع شبه مطلق على أن تلك الدول لم تكن قادرة على الحفاظ على مواردها البشرية الكفوءة، وظلت تواجه نتائج عملية استنزافها عبر سلسلة الهجرات المستمرة للكفاءات العلمية والتقنية نحو دول الجذب. لذلك عملت بعض تلك الدول على البحث في سبل توقيف ذلك النزيف الخطير وحققت نتائج إيجابية أدت إلى تفعيل استراتيجيات التنمية الشاملة، وساهمت في ترسيخ عوامل الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي فيها، ولا شك أنه لا استقرار اقتصادي واجتماعي في الدول المتخلفة إلا من خلال بناء منظومة سياسية مستقرة.

لا أولوية لقضية نزيف الأدمغة السورية

سورياً، لم يكن الاهتمام بنزيف الأدمغة ضمن أولويات المؤسسات السورية ذات الصلة بهذه القضية المحورية في أدبيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولم ترتق تلك المؤسسات إلى مستوى رسم الاستراتيجيات اللازمة للمحافظة على الكفاءات السورية المستنزفة، لذلك لن يكون غياب الاهتمام بهذه القضية أمراً خارج إطار المألوف للسلطات السورية في المرحلة التي تتراكم فيها حجم المخرجات السلبية لكارثتها الدموية، سواء من حيث دراسة أسبابها، أو حجمها أو من حيث آثارها المختلفة، وكذلك لن يكون في إطار أولوياتها في المراحل التالية للأزمة، وذلك من حيث أهميتها ودورها المحوري في عملية إعادة الإعمار. وما يؤكد على غياب الشبه الكامل لاهتمامات مؤسسات الدولة بقضية نزيف الأدمغة هو الضعف الذي يترجم من خلال ندرة المعطيات المتعلقة بهذه الظاهرة إلى درجة تكاد تكون فيها شبه معدومة، وذلك على الرغم من هولها وأهمية كل النقاط المتعلقة بها في وضع الاستراتيجيات التنموية الشاملة.

أياً كانت الظروف التي تتحكم بالبلد ومهما كانت المعطيات المتعلقة بنزيف الأدمغة السورية ضعيفة، وخاصةً في مرحلة الأزمة، إلا أن المتابعة الميدانية والحسية إلى جانب القراءة الصحيحة للتاريخ السوري الحديث يؤدي بالمرء إلى استنتاج حقائق سلبية فرضتها الظروف السورية، وأدت إلى تشتت الكفاءات السورية وانتشارها خارجياً على مراحل متعاقبة، ومتدرجة إلى أن وصل الحال إلى ما هو عليه الآن.

تجارب النزيف السوري القاسي للأدمغة

على الرغم من غياب احصائيات دقيقة أو تقريبية تُظهر حجم الكفاءات السورية التي خسرها البلد في كل مراحل التهجير التي بدأت بشكل واضح مع نهاية القرن التاسع عشر، فإن الحقائق التاريخية تؤكد على أن الكفاءات السورية تحمل في جعبتها تجارب قاسية في عملية نزيف الأدمغة نتيجة صعوبة تأقلمها مع الظروف السلبية التي باتت ملازمة لحياة السوريين في معظم مراحل تطور هذا البلد، بسبب انعدام الاستقرار السياسي فيه، والتي أدت إلى نزيف موارده البشرية.

لقد شهدت نهاية الحقبة العثمانية والفوضى المترافقة لها أول موجةٍ من نزيف الأدمغة السورية نحو الغرب وخاصة نحو الدول المتشاطئة غرباً على الأطلسي، أما الموجة الثانية فقد دشنتها السلوكيات «الناصرية» الإقصائية وما تلاها من السياسات الاقتصادية التي سارت نحو المركزية بموازاة الشمولية السياسية في نهاية الخمسينيات وكامل عقد الستينيات من القرن الماضي، والتي أدت إلى استنزاف ثنائي للموارد البشرية ورؤوس الأموال المادية إلى دول الجوار والدول الأوربية، ولقد أدت تلك الموجة إلى إحداث سبات مخفي خلف ستار الشعارات الممجدة لتلك السلوكيات ومناهلها الفكرية التي أغرقت المؤسسات والمواطنين في أعماقها التي بدت في حينها جاذبة لرواد المدارس اليسارية ومناهضي الإمبريالية العالمية على موائد السلطات وصالات التصفيق الحارة.

أما الموجة الثالثة، الكارثة، هي تلك التي نعيشها بكل تفاصيلها السوداوية، وبدأت تجرف طاقات الإنماء في البلد نحو المجهول في ظل غياب أدنى قواعد التعامل الأخلاقي، التي تستند إلى المنظومة القيمية الدافعة إلى التمسك بتراب البلد، من معظم الأطراف المحلية النافذة في طرفي الصراع. إن هذه الموجة تستحق تسمية الكارثة نظراً لشمولية الحدث السوري الذي أدى إلى خلق قناة غير آمنة في غالبها لتصريف الكفاءات وتدمير البنى الاقتصادية والثقافية والأخلاقية في البلد إلى جانب استعاضتها بمنظومة قيمية متوارثة في بعض جوانبها عبر استغلال جهل المجتمعات لولادة منظومة متوحشة، تستقي أفكارها من رجالات (الدين) منذ العصرين الأموي والعباسي لغاية يومنا هذا مروراً بالعهد العثماني، ومتوارد في بعض جوانبها الأخرى من دهاليز الأقبية السوداء في مراكز القرار، وإن كان يبرر البعض للحدث وقساوة فصوله من مرارة الحياة في المراحل السابقة له.

إن الأرقام التقريبية المتعلقة بنزيف الأدمغة السورية في مرحلة الكارثة لن تكون صادمة للمتابعين أمام هول ما حصل لسوريا الجغرافية والاقتصادية والسكانية، وذلك على الرغم من ضخامة تلك الأرقام. إن في ذلك دلالة على أن السوري لم يعد يفكر في استنزاف الموارد البشرية من زاوية الخسارة التي يحققها البلد من تلك العملية، وإنما ينظر إليها من زاوية قدرة المستنزف وطنياً على انقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث تحول البلد الطارد للكفاءات في باطن عقول السوريين إلى مقصلة الموارد البشرية، ومجرد جغرافيا فاقدة لمقومات الحياة.

حقيقة الكارثة في ظل غياب الأرقام

تشير بعض الإحصائيات إلى خروج ما يعادل 30% من إجمالي الأطباء العاملين في البلد. ولا شك أن ذلك يسري على باقي الفئات العلمية من المهندسين والعلماء والمفكرين والتقنيين والفنيين.

نعتقد أن النسبة الحقيقية لهجرة الأدمغة السورية في ظل هذه الكارثة التي حلت بالبلد أعلى من النسبة المذكورة أعلاه ونستند في ذلك إلى أن الفئات المشكلة للأدمغة هي الأكثر تأثراً بتغيرات الظروف والأقل قدرة على التأقلم مع الظروف التي تتشابه مع تلك السائدة في سوريا. فإذا كان أكثر من ثلث سكان سوريا قد هاجر البلد مكرها، فإن نسبة الكفاءات المهاجرة ستكون أكثر من ذلك بكثير، نظراً لحساسية تلك الكفاءات تجاه العوامل الطاردة، وهي تتجاوز نصف الكفاءات العلمية التي كانت تعمل في الفترة التي كانت تسبق الأزمة مباشرة، والتي كان حجم الناتج المحلي الإجمالي فيها تعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحلي بعد ثماني سنوات من الأزمة.

إن المحور الممثل لحركة الأدمغة السورية نحو الخارج يسير في اتجاه التصاعد، ويرسخ لفكرة فقدان البلد لأهم موارده في المدى الطويل الذي قد يمتد لعقود، تفقد خلالها سوريا مقومات إعادة الإعمار والانطلاق نحو بناء منظومة جمعية تحترم الخصوصيات والإمكانيات، ولنا في المثال العراقي أفضل تبرير لذلك.

 

*كاتب وأكاديمي كردي سوري، عمل عضواً في الهيئة التدريسية في جامعات سورية في الاقتصاد المالي والنقدي، وله العديد من المقالات والأبحاث والكتب المنشورة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.