لبنان (الحل) – قصة العمالة السورية في لبنان قديمة جداً، فرضها واقع البلدين، ونوعية الاقتصاد التي اختارها كل بلد لنفسه، فسوريا كانت لعقود طويلة قبل حكم البعث وخلاله بلداً زراعياً، مع بعض الصناعات الخفيفة، أما لبنان ومنذ ما قبل الحرب الأهلية فقد اختار قطاع الخدمات والمصارف والتركيز على السياحة. وبينما كان اقتصاد الدولة في سوريا أيام البعث اشتراكياً -رغم الشوائب التي تعتريه والفساد الذي ينخره- كان الاقتصاد اللبناني ليبرالياً على طريقته.

هذا التباين بالإضافة إلى فرق مساحة البلدين وتعداد سكانهما، والفرق في كلفة المعيشة بين دمشق وبيروت، ثم الفرق المهول في سعر العملة الوطنية لكلا البلدين، أدى إلى حاجة لبنان منذ القديم إلى العمالة الأجنبية: سورية ومصرية وشرق آسيوية وأفريقية، فانخرط العمال السوريون في مجالات الزراعة والبناء بالدرجة الأولى، وهي مهن خف إقبال اللبنانيين عليها بمرور الزمن.

بطبيعة الحال التحق السوريون بمهن عدة غير تلك المتعلقة بالزراعة والبناء، ولكن بقيت النسبة الأكبر منهم مرتبطة بهذين القطاعين.
قدرت أعداد العمال السوريين في لبنان في سنوات ما قبل ثورة 2011 بما معدله 400 ألف عامل، يرتفع عددهم في مواسم الحصاد، ويتراجع شتاءً، ولا شك أن كثيرين من العمال السوريين استفادوا على نحو مباشرٍ أو غير مباشرة من سطوة الجيش السوري إبان احتلاله لبنان، وعمل بعض منهم قد كمخبر لدى المخابرات السورية، ما ألصق تهمة عنصر المخابرات بالعامل السوري التقليدي في لبنان.

مع اندلاع الثورة في سوريا وتفاقم أحداثها عمد كثيرون من السوريين إلى اللجوء إلى لبنان، وبالتالي دخل قسم منهم سوق العمل المتعثر أصلاً، بالإضافة إلى استقدام العمال السوريين التقليديين في لبنان أقاربهم وعائلاتهم.
وبدأ لبنانيون لم يشعروا يوماً بمنافسة العمالة السورية لهم، كالموظفين من حملة الشهادات الجامعية وغيرهم، بالشعور أن مهنهم وفرص عملهم باتت مهددة، فهم اعتادوا على منافسة السوريين في مهن كالمحاسبة والطب والهندسة والتسويق وهندسة الكومبيوتر… إلخ في دول الخليج حيث يسافر السوري كما اللبناني للعمل، ولكنهم لم يعتادوا هذه المنافسة في وطنهم. وبالفعل بدأ بعض أرباب العمل اللبنانيين بتوظيف السوريين على حساب اللبنانيين بسبب انخفاض أجور السوريين وقبولهم بشروط عمل أقسى من تلك التي يقبل بها اللبناني، ورغم أن عملهم هذا مخالف للقانون اللبناني الذي حصر عمل السوريين في المهن التي عملوا فيها تقليدياً على الأراضي اللبنانية، أي الزراعة والبناء والنظافة.

ومع قرار مديرية الأمن العام اللبناني مطلع عام 2015 فرض قيود على دخول السوريين إلى لبنان وإقامتهم فيه، جرى ربط توفر أذن عمل بنيل بطاقة الإقامة على الأراضي اللبنانية، ما زاد من أعداد السوريين الذين لا يحملون بطاقة إقامة سارية.
بطبيعة الحال لم تتطور أعداد فرص العمل المتوفرة في مجالات الزراعة والنباء والنظافة، ولكن كثرة السوريين الذي هم بحاجة عمل جعل العرض أكثر من الطلب، وأشعل المنافسة التي انعكست سلباً على السوريين وإيجاباً على المشغلين اللبنانيين لجهة الأجور، وفي الوقت نفسه بدأ السوريون بافتتاح مصالحهم التجارية الخاصة بهم أو العمل ضمن قطاعات يمنع عليهم العمل فيها.
علت أصوات الشارع اللبناني وبعض السياسيين ضد عمل السوريين في قطاعات غير معتادة، أحياناً بسبب تضرر لبنانيين فعلياً من هذه العمالة التي شكلت منافساً غير عادل لهم، وأحياناً أخرى بسبب العنصرية وعدم الرغبة في تغلغل السوريين إلى سوق العمل اللبناني بغض النظر عن المنافسة. أما السياسيون فقد استغلوا الأمر ليحققوا مكاسب انتخابية أو ليصوروا أنفسهم كوطنيين أبطال على حساب ضحية هي الأضعف: اللاجئ السوري.
آخر تلك الحملات كانت الحملة التي قام بها التيار الوطني الحر الذي يرأسه وزير الخارجية جبران باسيل، والذي يكون في الوقت عينه صهر رئيس الجمهورية ميشال عون الرئيس المؤسس للتيار الوطني الحر، والتي قام على أساسها شبان من التيار الوطني الحر بتوزيع منشورات في الطرقات وضمن المحلات التجارية ضد العمالة السورية، مقتحمين أماكن عمل السوريين بالكاميرات، مصورين إياهم دون إذن منهم، ومطالبين إياهم ترك العمل والعودة إلى سوريا التي أصبحت آمنة برأيهم.
رافق هذه الحملة تغريدات لجبران باسيل بلغ فيها مستوى العنصرية حداً غير مسبوق من قبل، مما أشعل نقاشاً في وسائل التواصل الاجتماعي حول العنصرية تجاه السوريين ورفض عمالتهم وانتشار خطاب الكراهية.

في المقابل، قام وزير العمل كميل أبو سليمان المحسوب على القوات اللبنانية، المنافس المسيحي الأقوى للتيار الوطني الحر، بإطلاق حملة رسمية بعنوان “ما بيحرك شغلك غير ابن بلدك”، لتشجيع أرباب العمل على توظيف اللبنانيين بدل العمال الأجانب، في حملة لدعم اليد العاملة الوطنية في لبنان، دون أن تتوجه ضد عامل أجنبي معين على وجه الخصوص.
كانت مقاربة وزير العمل محترفة ووطنية في وجه المقاربة الشعبوية والعنصرية للتيار الوطني الحر. صحيح أن حملة وزارة العمل لتنظيم العمالة الأجنبية ستؤثر -إن طبقت- على نحو سلبي خطير على العمال السوريين، ولكن المشكلة لا تكمن حقيقة في الحملة بقدر ما تكمن في القانون اللبناني الذي يحرم السوري، كما جنسيات أخرى، من العمل في العديد من المهن.
على أرض الواقع، أفاد عمال سوريون في قطاعات غير قانونية أنهم باتوا يشعرون بقلق أعظم تجاه استقرار حياتهم وضمان دخلهم الرئيسي للمعيشة، فقالت شابة سورية تعمل كبائعة في متجر ألبسة في سوق في ضاحية بيروت الشرقية، إن صاحب المتجر لن يتردد في التخلي عنها رغم جودة عملها إن تعرض لضغط مباشر من البلدية أو وزارة العمل.

وفي المشهد العام بدت لافتات بسيطة ملصقة على واجهات المحال تطلب عمال أو موظفين لبنانيين أكثر إنتشاراً عما قبل، وهو الأمر الذي تبين أنه في كثير من الحالات مجرد تمويه من أرباب العمل وإثباتاً لحسن وطنيتهم وأنهم بصدد تشغيل موظفين لبنانيين، ولكن في الحقيقة هم مكتفون بعمالهم السوريين ولا رغبة لديهم بتوظيف آخرين من أية جنسية كانوا.
في هذا السياق يقول صاحب “مستودع أدوية” في بيروت أن المواطن اللبناني سواء أكان رب عمل أم لا، يفضل من حيث المبدأ توظيف اللبناني لا الأجنبي بغض النظر عن جنسيته، لأسباب وطنية وأخرى تتعلق بسهولة التفاهم والتواصل، لكنه يضيف أن سوق العمل تحكمه أمور أخرى، فميزان الربح والخسارة هو الفيصل، وعندما يجد رب العمل عاملاً لبنانياً بمهارة وتواضع وأجر العامل السوري أو حتى أكثر بقليل، فإنه سيوظفه بدل السوري، ولكن واقع الحال مخالف لذلك. من جانب آخر يربط صاحب المستودع استمرار توظيفه وغيره للسوريين بحجم الضغط الذي يطبق على أرباب العمل من الدولة وأجهزته بهذا الخصوص، وهو ضغط لا يمكن ضمن التركيبة اللبنانية أن يكون قوياً أو أن يستمر طويلاً.
بين هشاشة الواقع الاقتصادي وحصر القانون اللبناني أغلب المهن باللبنانيين، وضعف تطبيق القانون، يقع اللاجئون السوريون ضحية العنصرية والاستغلال، وموظفون وعمال لبنانيون ضحية منافسة غير عادلة أضرت بهم وأثرت على فرص عملهم.

رجا أمين

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.