مرَّ تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ضمن قائمة عديدة من العناوين الإخبارية المُركزة على الفيروس التاجي، مرور الكرام خارجياً. لم يعد هناك اهتمام بتصريحاتٍ رسمية تؤسس لمخاطر جمّة ومديدة.

هذه التصريحات، التي توضّح الكثير من رؤية المشهد المستقبلي لسوريا من عين الحكومة التركيّة، هي المطرقة التي تدق أسس الحالة العامة في الجزء الشمالي من بلدٍ منهكٍ أصلاً.

الرئيس التركي الذي تحدث عن أنهم سيظلون في سوريا ريثما ينعم “شعبها” بالحرية، هو إقرارٌ رسمي عن سنواتٍ طويلة قادمة من الاحتلال التركي هناك. وهو تصريحٌ رسمي يوحي بأن تركيا تنظر إلى المناطق التي تسيطر عليها في سوريا على أنها بؤرة جغرافية ينعم سكانها بالحرية المُتخيلة، وإن كانت تلك الحرية التي يروّج لها أردوغان على أنها الحل لقضية البلاد المُدمرة بصورة كبيرة، والتي لبلده دور كبير في ذاك التدمير، إلا أنها حريةٌ ترتكز على احتلال أراض، وطرد سكانها الأصليين، وتوطين آخرين بدلاً عنهم!.

هو شيءٌ من النموذجية التركية في الهندسة الديمغرافية التي عايشها الأكراد لعقود في تركيا، ويعايشونها حالياً في سوريا أيضاً. هذه الهندسة، وهذه التصريحات، لا يعني كما هو ظاهر أن هناك أية رؤية تركية حالية عن حل لمصير تلك الأرض التي تحتلها. وإن كان الجميع يدرك أن التجربة التركية في التدخلات لم تكن يوماً في العقود الأخيرة مثال على التراجع.

فقبرص القريبة مثلاُ، لم تستتب الأمور بها رغم مرور كل هذا الوقت، وبقت تركيا فيها، وتقودها حسب مصالحها. شيءٌ من السوداوية ترسمها تلك التصريحات لسكان المناطق التي تحتلها تركيا في شمالي سوريا. السكان الأصليون طبعاً،  لا مَنْ جيء بهم بعد الاحتلال التركي، وزاحموا الناس على بيوتهم تلبيةً لمُراد أنقرة.

لم يكن التصريح يستهدف الرقعة الجغرافية التي يتم التفاوض عليها في الفترة الأخيرة أي إدلب، فحديث الرجل هو عن عموم المنطقة التي لجنوده فيها وجود. والترويج الثانوي لتلك التصريحات على أنها تخصّ قضية الحوار عن إدلب؛ هو ترويجٌ مناقض لحقيقة التصريح.

المنطقة الوحيدة التي “قد” يشاهد الناس انسحاباً تركياً، هي إدلب نفسها. أما باقي المناطق التي حصلت عليها تركيا في الشمال السوري؛ فهي مناطق ما تسمى “المقايضات” التي تعتبرها أنقرة من حصتها التي لا تتزعزع.

باقي المناطق التي قد تتحول إلى منطقة مقايضات أيضاً في حال تمت المساومة عليها لن تكون إدلب التي قد تتحول إلى منطقة مقايضة في حال كان هناك تواصل مع روسيا للمساومة على بعض الرقع الجغرافية في ليبيا.

لكن، تأطير التقايض بين الروس والأتراك داخل سوريا، يشير إلى أن إدلب قد تكون الهدية التركية لروسيا، مقابل إكمال السيطرة على ما تبقى من مناطق في شمالي حلب لاتزال لوحدات حماية الشعب وجودٌ فيها.

عندها فقط قد تنتهي رحلة إدلب مع الأتراك، وتبدأ رحلة الانتظار لينعم الشعب السوري في المناطق الأخرى بما يسميه أردوغان الحرية المنشودة. هذه الحرية التي لن تأتِ قريباً، وحتى لو كانت هناك ملامح لظهورها؛ فإنها ستتعرض لطعناتٍ تركيّة مُتعمّدة بغية توفير الملاذ القانوني لتصريح قادتهم حول مسوّغات البقاء.

سيماءات السياسة التركية التي تتمحور حول العدائية التامة لأي نموٍ في القدرة الكردية في الجوار؛ تدحض نظرية البقاء المؤقّت للأتراك في سوريا. هذه الملامح تعزز ضرورة الحذر كل الحذر للقوات المحلية في شمال شرقي سوريا تجاه مخاطر الظهور التركي في الشهباء أو تهديد بوابة منبج البعيدة.

تلك النقاط، هي مرامٌ واضح للأتراك الباحثين من خلال تهديد الاستقرار في تلك المناطق وزرع الخوف المستمر لسكانها عن وصول السوريين إلى الحرية والسلام المنشودين!.

قدرة تركيا في الوصول إلى ليبيا، وسّع من الخوف على الجغرافية المُتاخمة لنقاط الاحتلال التركي في سوريا بدل مما يروّجه البعض عن زيادة في حمولة تركيا الإقليمية، تلك القدرة، تعزّزت لصالحها مع سرقة روسيا ملف الحوار من جديد هناك.

فالروس يعتبرون أن التسلط على ملف الحوار والتنافس والحل، في ليبيا كما هو في سوريا، وخاصة مع عدم اهتمام كبير من واشنطن لتلك القضية، والخلاف الأوروبي في الرؤى عليها، هو توسيعٌ لقاعدة الظهور بمظهر السيد في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، والترويج لنفسها على أن بيدها كل مفاتيح الحل لقضايا المنطقة.

أما تركيا التي تستفيد من فتح روسيا الطريق لها لتكون بصورة المقابل لها في سوريا وليبيا بهدف ابتزاز الناتو، تدرك أن موسكو على دراية بما تطمح له. لكنها أي (أنقرة) تستفيد من ظروف دول العالم الحالية. وتعتقد أيضاً أن روسيا سعيدة بتأطير البوصلة التركية في سوريا بما يناسب ويشبع العدائية القومية التركية تجاه الأكراد وحلفائهم العرب في شمال وشرق سوريا.

شيءٌ من سياسة إزعاج وتخويف للأكراد المُتّهمين بالتقارب مع أميركا أكثر من روسيا، ودفعهم تحت يافطة التخويف من أنقرة، إلى الإقرار بالتسليم التام لدمشق.

وبناءً على التقارير والحقائق على الأرض، فإن التأسيس في أراضٍ احتلها جيش صاحب التصريح، هو تأسيسٌ مديد لا يتوقف على قضية الحل السياسي في سوريا ووصول الشعب السوري إلى ذاك الحل.

إظهار تلك القضايا ودفعها إلى الواجهة، هو ما يجد فيها قادة تركيا المنفذ القانوني لتشريع وجودهم أمام الخارج المُراقب. وهي وسيلة لتمرير الحجج لمناصري الأردوغانية في العالم العربي والإسلامي، وحتى في بعض مراكز القرار في الغرب.

شيءٌ من الهلوسة المناسبة لعالمٍ مهووس بالفيروس التاجي حالياً، ولا يكترث بما كان يسمى لعقود “الخطوط الحمر للسياسة الخارجية” لعديد الدول  ذات الثقل، مع ظهور سياسة الانكماش، وانتشار الشعبوية السياسية، وترهّل الاقتصادات والشعوب على حدٍّ سواء في العديد من الدول التي كانت تقود ولاتزال افتراضاً حسب تصريحهم، هم ما يسمى “العالم الحر” والذي بدأ يهزه قادة مستبدون جُدد يتبجّحون بالمؤتمرات المشتركة بينهم والمليئة بالابتسمات الخدّاعة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.