يَعزو العالِم الاجتماعي “علي الوردي” في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) وبنصٍّ تفسيري، حول الغضب الكامن في الشخصية العراقية وبروز تلك الطاقة الغاضبة إلى صراع الصحراء والنهر- البداوة والحضارة، إلا أن الغضب السياسي؛ قد يكون الأبرز كظاهرة قد غيّرت الكثير من الواقع العراقي.

الغضبُ السياسي، كان مُلازِماً لمراحل التاريخ السياسي العراقي ولمختلف النُظم السياسية التي تعاقبت على حُكمه، فقد شكّلت ثورة النجف عام 1918، وثورة العشرين، قاعدة وبداية الغضب الشعبي السياسي ضد سلطة الاحتلال آنذاك، إلا أن الغضب السياسي ما بعد تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي، صار موجّهاً للدولة والحكومات المتعاقبة، فشهدت الدولة العديد من الحركات الاحتجاجية والانتفاضات والانقلابات العسكرية والثورات (عسكرية_ مدنية)، ويمكن تحديد فواعلها الأساس، بالغضب من صانعي القرار ودوائر الحكم أو نتيجة صراع إرادات وطموحات شخصية.

العراق (الديمقراطي) عراقٌ غاضِب، فلم يسهم هذا النظام بخفض منسوب الغضب لدى شعبه تجاه السلطة وطبقتها السياسية، كونهما لم يعملا على تفادي الإحباط المتراكم من الأخطاء السابقة؛ بل اتّسعت مديات سوء الإدارة والفساد والإقصاء وعادت من جديد أدوات التجاهل والقمع لهذا الغضب، لذا شهد الشارع الديمقراطي عدة حركات احتجاجية سياسية غاضبة توزّعت على الحكومات المتعاقبة، لتتوَّج بانتفاضة تشرين التي أسقطت حكومة “عادل عبد المهدي” سيئة الصيت.

جسّدت انتفاضة تشرين ذلك الغضب الغائر تجاه الأحزاب التقليدية ومعادلاتها السلطوية، من انعدام الإصلاح وتأصيل الفساد والاستحواذ على كل الفُرص خلاف حقوق الشعب وانعدام الخدمات وعودة السلاح كطرفٍ حاكم، ورغم أنها نجحت بإزاحة حكومة القتل والاستبداد، إلا أنها لا تزال تختزن الغضب ذاته وتتوعّد بالعودة للشارع.

إذ ترى أن هذه الأحزاب وأغلب الحكومات هي من أوصلت الدولة إلى الإفلاس، والمواطن إلى الذل والجوع، وفي حال لم تُلبّى مطالب المحتجين ولم تُغيّر تلك القوى من نهجها واستمرت متمسّكةً بالمشهد بطرقٍ غير شرعية، عندها سيُعاد إنتاج غضب المُحتجين من انتخابات مُبكّرة قد لا تتوفّر فيها أدنى درجات النزاهة، وسيتفجّر الغضب بصيغة عنف سياسي لن يتوقّف إلا بسيناريو قريب لما شهدته ثورة 1958.

الأحزابُ التقليدية التي تجاوزت صدمة تشرين، تَشكَّل لديها غضبٌ مزدَوَج، فهي لم تتقبّل الغضب السياسي للشعب وعملت بكل طاقتها، ليس لاحتوائه؛ بل للثأر منه وبهدوء، وذات القوى الخاسرة لمعادلة السلطة؛ غاضبة أيضاً من الحكومة الحالية وإصرارها على  إجراء الانتخابات المبكرة التي ستؤدي إلى تقويض جُزءٍ من نفوذها، وهذه القوى التقليدية المدعومة من الدولة العميقة والمسنود عددٌ منها بقوة السلاح، على استعدادٍ تام لخلط الأوراق وإشعال الأزمات حتى لو كانت النتيجة سقوط الدماء والنظام.

وفي مشهدٍ غاضبٍ آخر، يبدو أن حلفاء “الكاظمي” بكل عناوينهم الحزبية والطائفية والقومية وأصدقائه القدامى، غاضبين ويشعرون بقلقٍ عميق من التأييد الكامل أو الانقلاب التدريجي عن الدعم وعلى المستقبل السياسي لهم، وهم أيضاُ مهيئين للانفجار ضده أو معه.

قائمةٌ طويلة من الغاضبين، (الشعب- مؤسسات الدولة- الموظفون- السلاح خارج إطار الدولة- العاطلين عن العمل- القطاع الخاص- الطقس وأرصفة الطرقات)، وحتى داعش غاضبٌ لخسارته ويحاول الثأر لها، لذا فإن الكاظمي منذ نيسان 2019، يتعامل مع غضبٍ متعدّد الجهات، وكل غاضب يضع عدة سيناريوهات لترجمة انفعالاته، لذلك؛ يعجُّ العراق بأحوالٍ قابلة للانفجار في كلِّ مكان، خاصةً خلال المدة الأخيرة، في ظل التدهور الاقتصادي وأزمة كورونا وما تركته على حياة الناس من فقر وبطالة.

السؤال الأهم: هل من الصحيح أن يظهر الكاظمي غاضباً أيضاً؟

ليس صحيحاً للكاظمي أن يعود إلى لحظات غضب السلطة، كما في لحظة (غضب القائد) في عهد صدام حسين أو لحظة غضب حكومة القتل التي تبنّاها عادل عبد المهدي للشعب، فهناك من يعمل على استدراجه لهذه المساحة؛ بل سيكون صحيحاً ومن أهم واجباته كرئيس وزراء، الاستمرار في جهود التهدئة وأن يُقدّم مقاربة تمنع الانزلاق نحو المجهول وانفلات البلد نحو العنف ونزع فتيل الغضب السياسي والشعبي والتبشير بتغييرٍ سياسي من خلال إجراء انتخابات نيابية مبكّرة والدعوة للمشاركة الواسعة فيها، رغم التساؤلات حول الأسس التي ستجري عليها تلك الانتخابات والتشكيك بها، لإنتاج طبقة وعقول سياسية جديدة، تؤسس لعقد سياسي واجتماعي رافع للعراق من أزماته وينهي غضب شعبه الدائم.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.