حالةٌ فريدة تمرُّ بها ديمقراطية أحزاب السّلطة في العراق، حين يتبنّونَ منهج ازدواجية المواقف وثنائية السلطة_ المعارضة، فهذه القوى في الوقت الذي تُحْكِم قبضتها على مفاصل وقرارات مؤسسات الدولة (والحكومة واحدة من هذه المؤسسات) وفق عرف المحاصصة (الحزبي_ العائلي)، إلا أنها تعارض أداء المؤسسات خارج نطاق هيمنتها إذا ما مُسّت بؤر فسادهم  ومصالحهم، ما يدفعهم إلى التلويح بالمعارضة وممارسة الدور الرقابي وإشعال الأزمات، وهم يقدمون بذلك أداءاً شاذاً يمكن أن يوصف بأنه «ازدواجٌ ديمقراطي» رغم عدم إيمانهم بالديمقراطية.

إن المنهج الخاطئ للقوى الجاثمة على النظام السياسي الحالي، هُزّت أركانه وصار يعاني الاعتلال وفقدان الثقة من الشعب، والغريب أن ذات القوى هي من ترفع شعارات الإصلاح وإعادة هيكلة النظام في محاولةٍ للإيغال بتسطيح وتجهيل سياسي أكبر للجمهور، وتناست هذه الأحزاب القاعدة التي تقول: «لا يمكن الوثوق بحلول العقول التي أنتجت الخراب والدمار في كل مستويات الحياة».

لذلك، يرفضون أيّة خطة أو رأي وإصلاح خارج إطار صندوقهم العميق، ويحتكرون الفشل المستدام ويعملون على تأصيل الإقصاء لأيِّ صوتٍ وفكر هدفه إنقاذ العراق، بل يتحوّلون إلى معارضة بنّاءة لتصحيح انحرافهم، وهي معادلة غريبة حين يقبضون على السلطة والفشل والحلول الأفشل.

كتب الصديق الدكتور “علي وجيه محجوب” وصفاً دقيقاً، عما تقدم، بأن هذه «الطبقة والعملية السياسية، تتسم بالغباء حين تعمل على تحويل معارضيها إلى أعداء»، وهذا ما يجري بالفعل، فالأحزاب والقوى والتيارات تساهم بتغييب المعارضة الخارجة عن نطاق أحزابهم، في إيجاد خارطة طريق جديدة رافعة للنظام السياسي من أزماته، وهذه الأحزاب لا تدرك بأن ما تقدمه من سلوك؛ لم يعد مقبولاً من الشعب ونُخَبهِ، وليس لديهم القدرة على الخروج من دائرة الفشل والفساد والعجز.

العراق بحاجةٍ لتيارٍ معارِض صلب نخبوي_ فكري_ إعلامي، غير ملوّث بالانتماء لأحزاب الاستبداد أو كان ضمن تنظيماتها الفاسدة، ويشكل حالة ضغط سياسي على كافة السلطات الاتحادية والزعامات والطبقة السياسية، ويكون هدفه الأسمى الوقوف بوجه الانحراف والأخطاء التي تُرتَكب بحق العراق وشعبه، ويعمل على كشفها للرأي العام العراقي، وتضع هذه المجموعة مقاربات رصينة للأزمات والانسدادات، وتكون قادرة على تحقيق اختراق في العقلية السياسية المتكلّسة وتكون الممثل الحقيقي لصوت المواطنين المُغيّب.

إن مرتكز الثقة لهذا التيار المعارض لدى الجمهور (الذي فقد الثقة بكل مسرحيات معارضة أحزاب السلطة)، هو التزامه بعدم الانخراط بالعمل السياسي كحزبٍ رسمي طامحٍ للوصول إلى السلطة، أو أن يكون باحثاً عن مكاسب أو مساحة نفوذ أو امتياز أو يكون قريباً من القوى والجهات المُتصدّرة للمشهد السياسي.

المعارضون الأنقياء، هو الوصف الدقيق لهذه المجموعة أو التيار، والذي قد يبدو طرحه، من وجهة نظر المراقبين، ترف فكري أو مثالية نخبوية لا يمكن أن تتحقّق، رغم أنه يكفيهم شرف المحاولة، لكن بعودةٍ سريعة لقراءة التاريخ ومفاصل تغيير النظم والمجتمعات؛ سنجد هؤلاء الأنقياء كانوا المُحفّز الأساس لرسم مسارات التصحيح.

ستقاوم أحزاب وطبقة الفساد مثل هكذا موج نخبوي وستبذل جهداً يتّسم بغباء سياسي لتُحويل معارضيها الأنقياء إلى خصوم وأعداء، كما ستستخدم كل أنواع التسقيط والاختراق لتهديم أيّة محاولة تعريهم أمام شعبٍ غُلب على أمره، لكن الإيمان بأن البلد بحاجة لأبنائه الأنقياء والشعور بالمسؤولية الوطنية المجتمعية تجاه العراق، سيُعزّز من فُرَص نجاح الأنقياء ويوسّع دائرة التأييد الشعبي لهم، لأنهم يبحثون عن الخلاص والبدء بعقدٍ سياسي جديد. هي دعوةٌ للعمل الوطني.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.