مع اقتراب موعد الذكرى السنوية العاشرة على اندلاع الاحتجاجات السورية، ويبدو المشهد اليوم شديد المأساوية؛ فالثورة انتهت منذ أن تَعسْكَرَت وتَطيّفَت وتأسْلَمَت وارتهنت للدول الداعمة، وبات السوريون خارج دائرة الفعل منذ سنوات، وبات النهوض مجدداً شديد الصعوبة، مع وجود احتلالاتٍ متعددة تجثم فوق الأراضي السورية وتتقاسمها إلى مناطق نفوذٍ ذات حدود، انتهت من رسمها منذ قرابة العام، بعد صراعاتٍ دامية عبر وكلاءٍ سوريين متخاصمين، بطابعٍ مليشياوي.

لم ينضج الاتفاق على الحل السياسي بين الدول الفاعلة في الشأن السوري، فكل طرف غير مستعد للتنازل عن مصالحه؛ فروسيا ضمنت السيطرة على الساحل السوري، حيث الموانئ، وحيث حصة سوريا من نفط شرق المتوسط وغازه، وسيطرت على أغلب المطارات، وتريد إكمال سيطرتها على الطرق الرئيسية، بانتظار إيفاء تركيا بتعهداتها حول اتفاق موسكو العام الماضي بخصوص إدلب وفتح الطريق إم-4، فيما فشلت محاولاتها في السيطرة على تتمة الطريق نفسه باتجاه الحدود العراقية شرق الفرات، مع المنع الأميركي لهذا المسعى، ولطموح روسيا باستعادة النظام السيطرة على منابع الطاقة شرق الفرات.

تستمر الولايات المتحدة بعرقلة مساعي الروس حول فرض حلٍّ سياسي منفرد، بإبقاء نظام الأسد، وتتشدد في سياسة العقوبات على رجالات النظام، ومصرفه المركزي، وعلى من يدعمه من دول وشركات، عبر قانون قيصر، وبالتالي تمنع انطلاق إعادة الإعمار دون حل سياسي، وتستمر في دعم حلفائها في قوات سوريا الديمقراطية لمحاربة تنظيم داعش؛ وهي ترغب في التهدئة، لكن حلّ الملف السوري ليس في أولوياتها، مع تركيزها على نشر جيوشها في المحيط الهادئ وفي أوروبا، وتقنين هذا الانتشار في الشرق الأوسط، حسب من ما ورد في وثيقة البيت البيض مؤخراً.

تركيا مهتمة ببناء كونتون شمالي سوريا، وترسيخ تواجدها شرق الفرات بين تل أبيض ورأس العين، وإحداث تغيير ديمغرافي لضمان ولاء الفصائل الإسلامية المتحكّمة في الشريط الحدودي.

وعلى ذلك، تسعى لدمج هيئة تحرير الشام، التي تضم جبهة النصرة المصنفة إرهابية، مع الجبهة الوطنية للتحرير في إدلب؛ وهذا يتوافق مع مساعي زعيم هيئة تحرير الشام لتغيير صفتها الإرهابية، والظهور بمظهر معتدل، ومحاربته التيارات الأكثر تشدداً، وأهمها حراس الدين.

إسرائيل مهتمة بالتنسيق مع روسيا حول جعل منطقة الجنوب السوري خالية من تواجد مليشيات إيران. تدرك الأخيرة أن سوريا ليست أرضاً خصبة تماماً لنشر التّشيّع، رغم محاولاتها هنا وهناك، وتدفع مبالغ كبيرة لتجنيد مليشياتها لترسيخ تواجدها، وذلك لكسب أوراق تلزمها للتفاوض مع المجتمع الدولي حول ملفها النووي؛ وتركيزُها الأهم على الممر البري من البوكمال على الحدود العراقية، وحتى الحدود اللبنانية التي تسيطر عليها كلياً، لضمان استمرار الدعم لحليفها اللبناني، حزب الله.

النظام يتصرف على أنه منتصر في معركته ضد الشعب السوري، ويهدّد بنيّته استعادة إدلب وشرق الفرات، وهو عاجزٌ عن إطعام السوريين الواقعين تحت حكمه، ومعظم مناطق الثروات النفطية والزراعية والغاز خارجة عن سيطرته، والليرة تهوي إلى قيمة 4000 ليرة مقابل الدولار الواحد، ولا يملك مصرفه المركزي القدرة على التدخل مع نفاذ احتياطيه من القطع الأجنبي (700 مليون دولار في 2016، حسب تقديرات البنك الدولي).

وهو عاجز عن اجتذاب القطع الأجنبي بسبب عقوبات قانون قيصر، خاصة على قطاعات الطاقة والبناء؛ وسياساته الاقتصادية تعتمد على التجارة الحرة وليس الإنتاج، ويستمر في سياسة هدم ملامح العاصمة وذاكرتها، وتطويعها لمصلحة المافيات التي دعمته، ولا يملك من الحلول الاقتصادية غير سياسة التمويل بالعجز، عبر طباعة المزيد من الأوراق النقدية بكبسة زر. ورغم كل ذلك؛ يصرّ الأسد على المضي بانتخاباته الرئاسية بصورةٍ فجّة، من حيث انفصالها عن هذا الواقع.

ملفات إدانة النظام بارتكاب جرائم الحرب، ما زالت تلاحقُه قبيل انتخاباته الرئاسية، وهناك ضغوط أميركية- فرنسية- بريطانية مستمرة لدى مجلس الأمن لعدم الاعتراف بتلك الانتخابات، وحديث عن 900 ألف وثيقة حكومية جُمعت خلال سنوات الحرب وهرّبت إلى الخارج، تدين النظام بتلك الجرائم، وملف الكيماوي ما زال مثاراً وموضع خلاف مع روسيا، والولايات المتحدة مستمرة بفرض حزم عقوبات قانون قيصر، وربما هناك قوانين جديدة بهذا الإطار.

المعارضة السورية المكرسة، سقطت لدى جمهور الثورة، بعد ارتهانها لتركيا ولمسارات روسيا، منذ أستانة 2017، والموافقة على مناطق خفض التصعيد، ثم المصالحة، ثم المشاركة في مسار اللجنة الدستورية، كبديل روسي عن مسار التفاوض في جنيف.

هذا العجز السوري انتهى بمعارضين سوريين إلى العودة إلى خيار قديم حول تشكيل مجلس عسكري يحكم سوريا؛ هذا الحل الذي لا يحظى باهتمام الروس وبقية الدول الفاعلة في الملف السوري إلى الآن، لكنه يبدو مقبولاً لدى السوريين من كل الأطراف، رغم المغامرة من تسليم الحكم للعسكر، مع عدم وجود جسم سياسي مدني قوي ومدعوم شعبياً، يُفترض أن يقود المرحلة الانتقالية، لحصر مهمة العسكر في ضبط الأمن وإنهاء الحالة المليشياوية المنتشرة على الأراضي السورية.

ما يجري في سوريا مأساةٌ كبرى؛ فخسائر الحرب قُدرت بنحو 1.2 ترليون دولار، حسب تقرير لمنظمات دولية، وهناك 15 مليون لاجئ سوري مشتتون في أوروبا، أو في مخيمات في دول الجوار، ونسبة الفقر في الداخل السوري فاقت 90 بالمئة، ولا تصل المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، مع منع النظام وروسيا دخولها عبر المنافذ الحدودية الخارجة عن سيطرتهما، والمجتمع السوري بات أكثر تفككاً، حيث تتكرر مؤخراً ظاهرة انتحار الشباب السوري، مع غياب أي أفق للمستقبل.

هناك حقيقة وجب التوقف عندها، وهي أن السوريين بعد آذار 2011 ليسوا كقبله؛ فقد كُسرت في نفوسهم هالة القداسة التي أحاط النظام بها نفسه، مع أول صورة مزقوها للأسد الأب أو الابن، ما فتح العقول أمام التفكير والحلم، وظهور إبداعات في مجالات شتى لدى الشباب اللاجئين في أوروبا.

مؤخراً، صدرت محاكمة إياد غريب، الصف ضابط المنشق عن النظام، بالسجن أربعة سنوات ونصف، بسبب مشاركته في اعتقال سوريين تعرضوا للتعذيب، ورغم ما أثارته المحاكمة من مواقف متناقضة، ورغم رمزية أثرها، لكنها تشكّل خطوة وتمريناً لترسيخ مبدأ المحاسبة مستقبلاً؛ ولا يمكن أن يتحقق استقرار في المستقبل دون عدالة انتقالية، يتولاها قضاة سوريون، وفي دمشق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.