«لا يمكنني أن أفعل كل ما أرغب به كفتاة، أشعر أن هناك دائماً رادع ذاتي بداخلي، بالرغم من أنني في أحيان كثيرة أرغب بشدة أن أستمتع بأفعال بسيطة وطبيعية كركوب دراجة نارية مثلاً أو حتى الخروج ليلاً لأرى المدينة في هذا الوقت، إلا أنني أفكر بهذا فقط دون أن أنفذه، حتى أنني لا أفكر بالأسباب التي تمنعني أو الحلول التي بإمكاني فعلها لتحقيق غايات بسيطة كهذه، فأنا مقتنعة بأنني ولدت فتاة ولا يمكنني أن أفعل ما يفعله الرجال».

“سلمى العمر”(اسم مستعار) ذات 28 عاماً، تتحدث لـ(الحل نت)عن حياتها كفتاة ضمن المجتمع السوري، حيث أنها تعمل في صالون تجميل للنساء، وتدرك تماماً بأن لديها عدة أفعال محددة لها مسبقاً عليها القيام بها كفتاة وأفعال أخرى محرمة عليها.

وتتابع: «لم أتلقى تلك الفكرة من محيطي بشكل مباشر، ولم أُمنع عن شيء بعنف، إلا أنني أعلم من رؤيتي وخبرتي وتجاربي في هذا المجتمع أنه لا يمكنني القيام بأفعال لا تقارب أنوثتي، وإن فعلت ذلك سأخسر مكانتي الاجتماعية أو سأفشل».

معظم النساء في المجتمع السوري تتشارك مع “سلمى” هذه الحالة، الامتناع عن القيام بأفعال معينة نتيجة معرفة تلقينها في مكان ما، وهذا  لا يتناسب مع كونهنَّ نساء.

هناك نوع من المنع لسلوكيات محددة لدى النساء، يتشكل منذ طفولتهنَّ عبر الكثير من الأساليب والدلالات التي يتلقينها ويتطور ليصبح جزءاً من كيانهنَّ ويقبلنه بإرادتهنَّ وبنوع من القناعة، يمكن أن يرد هذا المنع والخضوع الذي يلحق به إلى ما يسمى “بالعنف الرمزي” و الذي عرَّفه العالم الفرنسي “بيير بورديو” أنه عنف ناعم خفي وغير محسوس ولا مرئي حتى من قبل ضحاياه، و الهيمنة الذكورية التي تسيطر على مجتمعنا تعتمد العنف الرمزي كواحد من الأساليب لفرض هيمنتها، حيث تمرر نفسها من خلال رسم الإدراك لدى النساء وتقييم أفعالهنَّ وضبط سلوكياتهنَّ عبر رموز ودلالات معينة تفرضها الأيديولوجيّة المسيطرة والنظام الاجتماعي، فيما يدعمها الدين بشرعنة هذه المفاهيم.

أساليب العنف الرمزي

«في سن الثانية والعشرين، بدأت أفكر بالزواج بشدة، أصابني رعب غريب من فكرة أن أكبر سنة أخرى ولا أجد شريكاً أستطيع الزواج به والعيش معه، كان ذلك الأمر يسبب لي ضغطاً شديداً خاصة أنني في سنتي الجامعية الأخيرة في كلية التربية، كنت أشعر بتناقض غريب بين ما أدرسه و أقتنع به، وبين هذه الرغبة اللا شعورية التي تدفعني بشدة للبحث عن رجل أتزوج به».

تصف “ريم عبود”(اسم مستعار) شعوراً خفياً بدأ يتحكم بها بعد أن أصبحت في عمر معين، يتمثل بخوفها من عدم الزواج وبناء أسرة، دون أن تعرف مصدره.

فتقول لـ(الحل نت): «بقيت على هذه الحال لسنوات وكانت- في أحيان كثيرة- تصيبني حالة من الاكتئاب بسبب ذلك، كنت أعلم أنه لا يمكنني فعل شيء في الحياة إن لم أتزوج، أكثر ما يمكنني القيام به هو التدريس، في سن التاسعة والعشرين تزوجت بشاب بعد أن تعرفت به بشهر واحد وأنجبت منه طفلة، لم تنجح علاقتي به ولكن ذلك الخوف والرغبة اختفيا ليحل محلهما محاولات لإبقاء علاقتنا مستمرة».

تختلف أساليب العنف الرمزي ولا يمكن إدراكها من قِبل الأشخاص الذين يمارس عليهم، فمعظم النساء يشعرن بأنهنَّ بحاجة لوجود رجل ليعشن بالأمان، مع قناعة داخلية بأن لقدراتهنَّ حداً معيناً لا يمكنهنَّ تجاوزه وفعل شيء أكثر أهمية، حتى وإن كنَّ ينتمين لبيئات وعوائل منفتحة لا تمارس العنف أو التمييز.

يعود ذلك إلى سلوكيات وأساليب عنفية رمزية متغلغلة في البنى الاجتماعية، تفرضها علاقات القوة، والأشخاص المهيمنون (الرجال في هذه الحالة) هذه الهيمنة تنطبع عميقاً في الأجساد والأفعال وتصبح النساء أنفسهنّ لهنَّ دور في الحفاظ عليها ونقلها للأجيال الأخرى، ويعتبر التبخيس والإنكار القيمي والاستلاب النفسي أشكالاً من العنف الرمزي تمارَس بشكل مستمر على النساء منذ طفولتهنَّ في الأسرة والمدرسة والمجتمع، عن طريق دلالات معينة تشعرهنَّ بأن الرجل أعلى قيمة منهنّ وإنكار قدراتهنّ ومهاراتهنّ، ومنعهنّ من تحصيل حقوقهنّ، ويعتبر العنف الرمزي من أخطر أنواع العنف إذ أنه يمارس على النساء بموافقتهنّ وقبولهنّ وتصبحن غير راغبات بتغيير تلك القناعات التي تنتج عنه حيث أنهنّ يقبلنها تحت تأثير سلطة المهيمن وإعجابهنّ به ويقصين أنفسهنّ تلقائياً عن فضاء الرجل ومساحته التي يعتبرن أنفسهنّ غير قادرات على الدخول بها ومساواته إن دخلنها.

كيف يمارس العنف الرمزي على النساء؟

لا يقتصر العنف الرمزي على الأفكار التي يتلقينها أو الأفعال التي يجبرن على القيام بها، وإنما يتجلى أثره في بنى متكاملة من الأشياء والسلوكيات التي تحيط بهنّ، (الأكل ، المشي، اللباس، العلاقة الجسدية والعاطفية، الأسلوب الذي يتعاملن به مع محيطهن)، هي تركيبة متكاملة من البنى التي ستشكل فيما بعد شخصية الفتاة والتي انبثقت عن قوانين أخلاقية وضعها الرجل ليحدد مكانة المرأة ودورها معتمداً على الخطاب السلطوي والثقافة القائمة والدين.

يرتكز العنف الرمزي في عمقه على اللا مساواة وعلى الطبقية الاجتماعية والتمييز بين الأفراد، ولا يمكن إحداث تغيير وانقلاب على هذا النوع من العنف إلا بإنهاء الاستعداد النفسي الموجود لدى النساء لقبول هيمنة الرجال، والناتج عن شروط اجتماعية واقتصادية تجبر هاته النسوة على قبول نظرة المهيمن وتبنيها، كما أنه يتفرع  عبر الكثير من المؤسسات أهمها الأسرة والمدرسة.

“صفاء محمود”(اسم مستعار)، مُدرّسة لطلاب المرحلة الابتدائية، تتحدث لـ(الحل نت) عن المناهج التعليمية وطبيعة السلوكيات والتربية التي يخضع لها الأطفال، وتحديداً الفتيات في المدارس السوريّة، وتقول: «هناك تقسيم أساسه جنسي للمهام إن كان في المدرسة وحتى في الحياة، منهج كامل يدرَّس لأطفالنا مبني على هذا التقسيم، يبدأ من التربية العامة من الملاحظات التي توجه للفتيات عن كيفية جلوسهنّ وتحدثهنّ مع الآخرين، وتنسحب للمحتوى العلمي للكتب التي ترسخ لبعض السلوكيات بشكل عميق كتقسيم الأدوار الجندرية،  مثلاً(المرأة تنظف وتطبخ وتعتني بالأطفال، أما الرجل يزرع ويحارب ويعمل) تحتوي المناهج التعليمية كماً كبيراً من التصنيفات اللغوية والأفعال التي تكرس التمييز».

تقبل الفتيات ما يتعلمنهنَّ برضى ويسعين لإتقانه والمغالاة في ذلك في بعض الأحيان، نظراً لأن كل ذلك يتم تلقينه لهنّ في عمر صغير لا يمتلكن فيه الوعي الكافي لمحاكمة الحقائق ونفيها أو قبولها، في الوقت الذي تبتعد فيه المناهج التعليمية عن الموضوعية والحياد، باعتبارها تابعة لأيدولوجيّة سلطوية متكاملة تسعى للسيطرة على كافة أفراد المجتمع وإلغاء كافة أشكال التواصل بينهم عن طريق فرض طبقية وتمييز بين الأفراد، وهنا يمكننا أن نرى بأن عملية التربية والتعليم، لا تعتمد على زيادة الوعي وحرية الفكر والتصرف، وإنما هي عملية إدماج للنساء في هذه المنظومة و بثقافة السلطة الحاكمة وضبط أفعالهنّ بما يتناسب معها.

للعنف الرمزي الكثير من التأثيرات على حياة النساء، فعدا عن تقييدهنّ ضمن حدود واضحة ومرسومة لهنّ، وإنكار ذواتهنّ والتعامل معهنّ كأشياء تابعة للرجل يتم تحريكها من قِبله، يؤدي أيضاً إلى سيطرة شبه تامة على الحالة النفسية والروحية للنساء وخضوع تام له من قبلهنّ مع عدم قدرة على التغيير أو الرفض، ويمكن لهذا العنف أن يتحول في حالات معينة من الرفض والممانعة إلى عنف جسدي وجنسي يُمارَس على النساء.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.