أجسادٌ منكمشة متكومة على نفسها، تخطو بسرعة، يزداد إيقاعها مع كل نظرة مراقبة، خوف خارجي يحكم خطواتها وانفعالاتها، أجسادٌ أخرى متباطئة منغمسة بعالمها الداخلي، يتملكها خوف من نوع آخر ذاتي المنشأ يفصلها عن ما حولها.

“الجسد” هو الصورة الحية لما نحن عليه في الأعماق، توازنه وانفتاحه دليلنا المادي على توازننا النفسي، لماذا تتسم أجساد النساء بالانكماش على نفسها، حركتهنَّ في الشارع تكشف خوفهنّ، كيف يرافق الخوف حياة النساء هنا؟ وما الأسباب التي تكمن خلف هذا الخوف؟

«أتذكر تماماً ارتجاف صوتي ونبض قلبي المتسارع، كان عليَّ أن أكتم أنفاسي وأشد جسدي بأكمله كي لا ينتبه زملائي في المدرسة بأنني خائفة، لم أكن أدرك مصدر ذلك الخوف أو سببه حتى أنني لم أكن أعرف أنه خوف».

“هيا السعيد” (اسم مستعار)، تعمل في التمريض، تصف خوفها الذي رافقها لسنوات، جاهلة السبب وراءه وتتابع لـ(الحل نت): «كنت أنكمش على نفسي لا شعورياً حين يخاطبني أحد الأساتذة، ويبدأ جسدي بالارتجاف مع شعور دائم بأن كل ما أقوله حماقة، لم أستطع الاختلاط بالآخرين أو التعامل معهم».

يبدأ الخوف بالتشكُّل عند المرأة منذ سنواتها الأولى، التعلق بالأم يشكل الصورة الأولى له، يتطور مع السنوات ليصبح عجزاً عن الفاعلية في سنوات الدراسة الأولى، وترافقه مشاعر الإحساس بالدونية تجاه الجنس الآخر (الذكر)، يلعب دوراً هاماً في تشكل هذا الخوف حرص الأمهات على بناتهن، وتكريس تفوق الأبناء الذكور على الإناث وتميزهم، فينشأ شعور داخلي لدى الفتاة بأنها أقل ويعمل خوفها من الفشل على كبح أية محاولة لديها للقيام بفعل ما، لتتحول طاقتها إلى عطالة مستمرة، تزيد من فرص خضوعها وتبعيتها.

المراهقة والخوف

تتسم فترة المراهقة بأنها فترة تمتلك حساسيةً خاصة، حيث تبدأ هوية الإنسان وميوله بالتشكل و تترافق بتغيرات جسدية عند كلا الجنسين تتمثل عند النساء بنمو الأعضاء الجنسية الثانوية، وتشكل أولى ملامح الأنوثة لديهنَّ، عن تلك المرحلة وبعض من الخوف المرافق لها.

تحدثت “رحيل الأحمد” (اسم مستعار) لـ(الحل نت)، طالبة في كلية هندسة الاتصالات، قائلة: «لم أفهم تلك التغييرات التي حصلت في جسدي وكانت أمي تتعامل بتحفُّظ مع هذه التغيرات، أضفى سلوكها هذا على جسدي ارتباطاً بالعيب وأصبحتُ أمشي أشد أكتافي للأمام محاولةً إخفاء صدري بيدي، كان لدي خوف فطري من الذكور ،كنت أتجنبهم، وأصبح ذلك مبدأً في حياتي، إنهم مخيفون!»

تفتقد مجتمعاتنا للتربية الجنسية التي تساعد الفتيات على فهم ذواتهنَّ وأجسادهنّ، بينما يكون خوفهنَّ في الصغر من الآخر يتحول فيما بعد لخوف من أجسادهنّ، فارتباط العار والضغط من قبل المجتمع من أجل حفاظهنَّ على أجسادهنّ، يؤثر سلباً ليصبح منبع خوفهنَّ ذاتياً، فتتحول رغباتهنَّ وأجسادهنَّ إلى عبء يشعرن بسببه بالذنب وارتكاب الخطيئة بأي فعل يقمن به، غالباً ما تتشوه المشاعر المتقدة لدى الفتاة في هذا العمر وتتحول إلى برود بفعل الخوف من التعبير عنها، البيولوجيا هنا تحكم وتصبح سبباً للتمييز ويتم تحديد الفتاة من خلالها وإسقاط كافة الجوانب الأخرى في شخصها وتكريس أنوثتها كعامل أساسي يتحدد من خلاله وجودها وحركتها.

متى يتوقف الخوف

بعد فترة المراهقة والضوابط والمنع اللذان يمارسان فيها على الفتاة، تجد نفسها فجأة أمام مهمة أن تكون امرأة، عليها أن تحرق مراحل حياتها وشبابها، لتحصل على رجل وأسرة، يدفعها إلى ذلك خوف خفي من أن تبقى وحيدة وأن لا تحظى باستقرار الزواج والمكانة الاجتماعية التي يحققها لها، هذا الصراع بين خوفها من عدم تحقيق الصورة النمطية للمرأة وبين رغباتها الذاتية في عمر الشباب يؤدي إلى كبت مؤقت لدوافعها الذاتية والتي غالباً ما تعود للظهور في صورة أفعال عصبية غير مضبوطة.

«عشت في السكن الجامعي منذ سنتي الأولى في الجامعة، لا يوجد فتاة هناك تهتم بجامعتها ولديها رغبة حقيقية عدا استثناءات قليلة أما الأخريات يواظبن على البحث عن شريك طوال سنوات الدراسة ويتعاملن مع الشهادة كوسيلة لذلك».

“منى علي” (اسم مستعار)، متخرجة من قسم اللغة العربية في دمشق تتحدث لـ(الحل نت) عن فترة دراستها الجامعية وتقول: «بعد سنة أصبحتُ مثلهنَّ أستيقظ و لديَّ خوف عميق من أن أتخرج من الجامعة ولم أحصل على شريك، كانت تتحول جلساتنا دائما إلى معاناة ورثاء لحالتنا هذه، أن تكوني في الجامعة و لم تحصلي على رجل تلك مشكلة، يصبح الخوف يرافقك مع كل سنة أخرى ستنتهي أيامك هنا ويصبح الأمر أكثر صعوبة».

يتحول الخوف حسب الحاجة التي تتطلبها المرحلة من وجهة نظر المجتمع، وعلى الفتاة إثبات جدارتها بالأنوثة التي غُرست بداخلها، هنا ينتفي الشخصي ليصبح الآخر هو المحور الذي تدور حوله حياة الفتيات، الفشل في الحصول على أسرة خوف يرافق كل شابة تعدت العشرين من العمر، يتحول هذا الخوف بعدها عند الزواج إلى خوف على الأولاد والزوج ومن ثم خوف من الشيخوخة والموت، اللاوجود أو الانتفاء الذاتي يحكم حياة المرأة لتكون امتداداً للآخر منذ طفولتها، ذلك الانكماش في الأجساد والخوف من الظهور دلالة مادية لعدم الإثبات الذاتي والوقوف خلف الآخر الأكثر قوة من منظور المجتمع والدين.

الحرية مخيفة

تختلف درجات الخوف والتبعية لدى الفتيات في المجتمع السوري تبعاً للكثير من العوامل، المجتمعية والثقافية والأسرية، تعيش بعض الفتيات في حالة من الاستقلال والحرية بقراراتهنَّ الشخصية وأفعالهنّ وبالرغم من ذلك لا يتخلصن من خوفهنَّ فالانفتاح الذي يعشنه قد يواجَه بالعنف من محيطهنَّ في أية لحظة، بالإضافة إلى خوف ذاتي من إمكانية فشلهنَّ في الحفاظ على تلك الاستقلالية وتحمل مسؤولية حياتهنَّ وحيدات، تتابع “منى”: «حاولت أن لا أنساق خلف هذا الخوف فبعد تخرجي من الجامعة وجدت عملاً وقررت العيش وحدي، الآن و أنا في عمر الثلاثين بدأت أعيش الخوف بشكل آخر، فماذا لو أصبحت عاجزة عن العمل وبقيت وحيدة، وكيف سأعيش تقدمي في العمر دون شركاء أو أولاد، لا يمكنني تجاهل هذا القلق الذي أعيشه».

هذا ما يدفع معظم الفتيات للتخلي عن أحلامهنَّ من أجل الحصول على حياة آمنة لا خوف فيها، لا يمكن لفتاة تربت ضمن مجتمع يرتكز في خطابه على تخويفها ووضعها في مرتبة أدنى من الرجل، وتلقينها المستمر أن أمانها بتبعيته، لا يمكن لهذه الفتاة الخلاص من الخوف في أعماقها، ولا يتوقف ذلك على الخطاب المجتمعي والأسري، بل يرافقهما خطاب ديني يفرض التحريم على معظم رغباتها وجسدها، وينهيها عن الاستقلال بحياتها وقراراتها، فتصبح منابع الخوف بداخلها متعددة لا يمكنها بتجاوز أحدها أن تتحرر من خوفها وأن تعيش حياتها كما تريد، إنه خطاب متكامل تتلقاه النساء منذ الطفولة ليصبحن سجينات خوفهنَّ طوال حياتهن.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.