انهيارُ الإدارة الذّاتيّة.. الهَدفُ الحالي لعدة قِوى

انهيارُ الإدارة الذّاتيّة.. الهَدفُ الحالي لعدة قِوى

بعد ما يزيد عن العام على انتهاء المعارك العسكريّة بين فُرقاء الحرب في سوريا، باتت مناطق السّيطرة داخل البلاد هادئة نسبيّاً، على غير عادتها، مقارنة ببداية الحرب قبل عشر سنوات، وبات رهان الأطراف مختلفاً عن ذي قبل، حيث أصبح كُلّ منها يسعى إلى تحقيق مكاسب بالاعتماد على دعم حلفائه الإقليميين والدوليين، واستغلال نقاط ضعف الخصوم، دون اللجوء إلى العمليات العسكرية.

وتسعى “الإدارة الذّاتيّة” لتثبيت حالة الأمر الواقع حاليّاً، والتخلّص من شبح هجوم تركيّ آخر، أو من صفقات إقليميّة ودوليّة تقوّض سلطتها وتعيد المنطقة للحُكْم المركزيّ في دمشق، وذلك بعد أنْ تآكلت سلطات الحكومة السّوريّة في أقصى الشمال الشرقي شيئاً فشيئاً، بعد تفاهمات “حزب الاتّحاد الدّيمقراطيّ” مع دمشق عام 2012 والتي  سمحت حينها بتقاسم السّيطرة بين “وحدات حماية الشعب” (الكُرديّة) والجّيش السّوريّ على المناطق ذات الغالبية الكُرديّة في ذلك الحين.

أمّا تركيا، فتتطلّع إلى جَلاء موقف الإدارة الأميركيّة برئاسة “جو بايدن” من مسألة بقاءها في سوريا من عدمه، ومن مقاربتها لمشروع “الإدارة الذّاتيّة”، خاصّة بعد أنْ بدأت الولايات المتّحدة، منذ عهد الرئيس السّابق دونالد ترامب، محاولات إشراك فُرَقاء “الإدارة الذّاتيّة” في الحُكْم، ولاحقاً التقريب بينها وبين المعارضة السّوريّة، ومن ثَمّ بناء جسور العلاقة مع الحكومة التّركيّة، سعياً لإعادة تشكيل المعارضة السّوريّة على أسس جديدة، بعد سنوات من استئثار ثلاثي أستانا (روسيا وتركيا وإيران) بتمثيل السوريين (حكومة ومعارضة) في محادثات السّلام، وكذلك في التفاهمات العسكريّة.

وفي نفس الوقت تخشى الحكومة التّركيّة من جنوح القيادة الأميركيّة إلى توسيع علاقاتها مع الكُرد السوريين، وتثبيت الحُكم القائم في مناطق “الإدارة الذاتيّة” وهو السيناريو الذي تحاول أنقرة منع حدوثه منذ بداية تعاون الولايات المتّحدة مع “وحدات حماية الشعب” عام 2013 إبّان تشكيل التّحالف الدّوليّ لمحاربة تنظيم “الدّولة الإسلاميّة”، ولاحقاً التحالف مع “قوات سوريا الدّيمقراطيّة”.

بَل تسعى أنقرة، بكُلّ ما أوتيت من قوّة، لإبعاد الولايات المتحدة عن تقديم الدّعم السّياسيّ لـ”الإدارة الذاتيّة” وتطمح لقطع العلاقة العسكريّة المضطردة بينهما، وكذلك تحاول منع حدوث استقرار سياسيّ في هذه المناطق، بالضغط على حلفائها لضمان عدم الوصول إلى اتفاق مع سلطات “الإدارة الذاتيّة”، إضافة إلى استغلال أيّ حراك شعبي مناهض لها.

الحكومة السورية بدَورها، تحاول إعادة ما تبقّى من مناطق “الإدارة الذّاتيّة” إلى سلطتها المُطْلَقة، خاصة أنّ جُلّ الموارد النّفطيّة والمائيّة موجودة في مناطق “الإدارة” بالإضافة لقسم كبير من الموارد الزّراعيّة، وأنّ الوضع الاقتصاديّ في مناطق سيطرة الحكومة السوريّة هو الأسوأ في سوريا، نتيجة العقوبات الدّوليّة المفروضة عليها، وتغلغل الفساد داخل نظام الحُكْم.

تسعى دمشق إلى استخدام ورقة النّزاع العرقيّ بين مكوّنات المنطقة، عن طريق بعض العشائر الموالية، واستغلال النّقمة الحاصلة نتيجة الفساد المُستَشري داخل مفاصل “الإدارة الذّاتيّة” والتي وصل بها (دمشق) التخبّط إلى اتّباع إجراءات اقتصاديّة من شأنها خَلْق مجاعات في المنطقة التي لطالما اعتُبِرَت السّلّة الغذائيّة لكُلّ سوريا، بالإضافة للثّروات الباطنيّة الكبيرة فيها.

تعاني “الإدارة الذّاتيّة” من ترهّل مبكّر في منظومة حُكْمها، ويكاد الفساد يشكّل القاعدة في مفاصلها، ولم تحاول، إلى الآن، التخلّص من هذه المعضلة، رغم الوعود الكثيرة التي أطلقها القيّمون عليها، والتي بقيت دون تنفيذ فعليّ على الأرض، وكذلك فإنّ غياب الديمقراطيّة عن “الإدارة الذّاتيّة الديمقراطيّة” إلا في مُسمّاها الرّسميّ، هي إحدى أكبر العقبات في مسيرة السّلطة الوليدة، ويمكن استشفاف ذلك بكُلّ سهولة من غياب إجراء الانتخابات التشريعيّة والتنفيذيّة في هذه المناطق منذ نشوئها عام 2012 وإعلانها الرّسميّ عام 2014 والاقتصار على إجراء انتخابات صوريّة للمجالس المحليّة ومجالس الأحياء، وهي انتخابات شابها الكثير من شبهات التزوير.

روسيا وإيران تحاولان كذلك حشد ولاءات داخل مناطق “الإدارة” إنْ على المستوى الشّعبيّ، أو من خلال التنظيمات السياسيّة والعسكريّة والعشائريّة، أو استغلال أيّ خلل في علاقة “قوّات سوريا الديمقراطيّة” مع الولايات المتّحدة.

تعاني “الإدارة الذّاتيّة” من غياب الاعتراف الدوليّ، أو الدّستوريّ السوريّ بها، وكذلك ضعف الاستقرار السّياسيّ، إضافة إلى الخلل الأمنيّ في بعض مناطق سيطرتها شرقيّ شرق الفرات، وهي أسباب مهمّة تجعل من الصعوبة بمكان، خَلْق ظروف صحّيّة لاقتصاد نامٍ، وإبعاد شبح استغلال الأطراف المتربّصة لأيّ خلل في الوضع القادم.

إضافة إلى ما سبقَ ذِكْره من الفساد، وغياب رؤية استراتيجيّة لمستقبل المنطقة، والإبقاء على عقلية حُكم الحزب القائد للإدارة وللمجتمع، وهي حالة من شأنها أنْ تُشكِّل أرضيّة مهيّئة لتدخّل عديد القوى الساعية لإسقاط “الإدارة”.
إن الطريق الأسلم لسدّ الذرائع أمام هكذا محاولات، هي بالاحتكام للحُكم الرشيد، وتطبيق مبدأ الشفافية في السلطة، والتوزيع العادل للثروة، واستيعاب مطالب الشعب، وبذلك تتحقق المواطنة الحقّة، التي كانت الهدف الرئيسيّ لانتفاضة السوريين عام 2011 قبل أنْ تتحوّل إلى حرب أهليّة.

سوى هذه الإجراءات، وسواها فقط، فإنّ مصير المنطقة سيبقى مُعَرّضاً لسيناريوهات قاتمة، الجميع في غنىً عنها، ولن ينفع حينها البحث عن الأسباب والمُسبِّبات، ولا الخوض في جدالات عقيمة حول الطّرف الذي أوصلَ الحال إلى ما وصلتْ إليه.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.