انتهت الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية، مثلما انتهت قبلها خمس جولات سابقة، على مدار السنتين الأخيرتين، بنتائج صفرية، لم يتم خلال هذه الفترة التقدم ولو بوصة واحدة، مجرد ثرثرات وجدالات يمارسها أشخاص فائضون عن الحاجة، يتناقشون بمسائل وقضايا لا تمت للدستور بصلة، فيما روسيا تتسوّل على هذه الاجتماعات شرعية لنظام الأسد وما تيسر من انفتاح تبديه دولة هنا ودولة هناك، كل بحسب إمكانياته وقدراته وما تجود به النفس!.

منذ جرى اختراعها، كأحد مخرجات ما سمي حينها” مؤتمر سوتشي” الذي صمّمته روسيا غداة تأمين سيطرتها على أكثر من 60 بالمائة من الأراضي السورية، أُريد لهذه اللجنة أن تعكس موازين القوى المتغيرة على الأرض، وأن تضع اللاعبين المحليين في أوزانهم الحقيقية، وبالتالي إعادة هيكلة  محددات التفاوض المقررة في قرار مجلس الأمن 2254 وإلغاء ما جرى تسميته ب” سلال التفاوض” التي  قيل أنها تقسيم إجرائي لتسهيل تطبيق القرار المشار إليه، والتي كانت تضع في بداية تطبيقاتها “هيئة الحكم الانتقالي” التي تهدف إلى تأسيس حكم يمثل جميع مكونات الشعب السوري.

ورغم أن روسيا أفرغت قرار مجلس الأمن 2254 من محتواه، واختزلته بمجرد مناقشة دستور، غير معروف ما إذا كان دستوراً جديداً أم إصلاح لبعض فقرات الدستور القديم الذي وضعه نظام الأسد لنفسه في عز حربه على السوريين سنة 2012، إلا أن طموحات روسيا يبدو أنها أبعد من ذلك بكثير.

كان ملفتاً حجم التفاؤل الذي عبرت عنه بعض أطراف المعارضة السورية في بداية انعقاد اجتماعات الجولة السادسة، وحديثها عن إمكانية حصول خرق ينهي حالة الجمود في أعمال اللجنة، بل ذهب بعضهم إلى حد التغزل باللغة المؤدبة لوفد النظام، وكأن من المفترض والطبيعي أن يستخدم وفد النظام لغة الشتائم والتخوين، فيما الطبيعي أن وفد النظام الذي بيته من زجاج أن يخبئ رأسه ويتحاشى الدخول في سجالات، فهو عدا عن كونه يمثل نظاما مجرماً، باع سورية بالقطعة والمفرق لمن أمن له البقاء على كرسي السلطة، لدرجة أن إيران وروسيا باتتا تعتبران السيطرة على الأصول الاقتصادية والإستراتيجية السورية حق مطلق من حقوقهم، في حين ذهبت تركيا إلى اعتماد مبدأ  “ما في حدا أحسن من حدا” عبر التأكيد أنه طالما يحق لروسيا وأميركا الوجود في سورية فإنه يحق لتركيا أيضاً، أي منطق دولي هذا!.

وكان واضحاً منذ الجولة الأولى أن هذه اللجنة مجرد واجهة لتغطية عصبوية النظام ومجرد أداة لتسويق أن النظام يبحث عن حلول، أرادت روسيا تسويق نظام الأسد على انه نظام سياسي طبيعي يبحث عن مخارج فعلية لإخراج سورية من دوامة حرب دمرت البشر والحجر، وفي سبيل ذلك ينخرط هذا النظام في مفاوضات مع الذين من المفترض أنهم يمثلون معارضي هذا النظام، الطرف الأخر، عبر التفاوض الذي يفترض أن يصل الطرفان من خلالها إلى مقاربة جديدة تؤدي للوصول إلى حل سياسي، وهذا يستلزم من الطرفين تقديم التنازلات التي تساعد على الوصول لهذه الغاية.

تثبت الأوراق التي تقدم بها وفد النظام ، كمبادئ دستورية، أن ما يريده الأسد من اللجنة الدستورية، ليس مناقشة دستور يرضي كافة السوريين وإنما وثيقة براءة من دم السوريين الذين قتلهم، ويطلب توقيعهم واعترافهم على حقه باستقدام الميليشيات والمرتزقة لحماية كرسيه وقتل السوريين، فيما كل الأعمال التي قام بها الآخرون هي ضد مبادئ السيادة والاستقلال وتقع في خانة الخيانة العظمى.

 فهو يركز على الإرهاب والتنظيمات الدينية، ليتمكن من تكييف جرائمه تحت هذا البند، لا زال يعتبر نفسه في معركة ضد الأكثرية، يريد تجريم الأكثرية، إذ من المعلوم أن العديد من الفصائل المقاتلة أطلقت على نفسها أسماء دينية، إما بهدف الحصول على دعم خارجي أو لجذب أكبر عدد ممكن من الناس في ظل حرب طائفية فرضتها إيران وقوات النظام على المجتمع السوري، في المقابل ينسى أن العصابات التي قدمت من إيران وباكستان وأفغانستان كانت ترفع رايات طائفية بالعلن وتقتل السوريين بذريعة أنهم أحفاد يزيد وقتلة أل البيت!.

ليست المسألة أن النظام يجرّم ” داعش” و” النصرة” و “الإخوان المسلمين”، لكن النظام سيضع تحت خانة “كل من يتبنى أفكارهما” كل الثورة السورية، بما فيها المتظاهرون الذين كانوا يصرخون “الله أكبر” كلما سقط شهيد برصاص الشبيحة ، أما المنظمات المذكورة فكان أثرها السلبي على الثورة السورية بما لا يوصف.

وفي ورقة ما يسمى “السيادة والاستقلال” يخوّن النظام  جميع السوريين، بذريعة تعاملهم مع قوى أجنية أو لسعيهم، حسب إدعائه، للانفصال عن سورية، وفي الواقع لم يذهب السوريون لأي قوّة ويطلبوا منها احتلال سورية، وإذا كان المقصود تركيا فهي فرضت نفسها كقوّة أمر واقع، بناء على ما تدعيه من حماية لمصالحها الأمنية بالإضافة لكونها طرف له مشروعه الجيوسياسي على حساب السوريين، مثلها مثل روسيا وإيران تماماً، في حين أن القوات الأمريكية جاءت لمحاربة داعش، وقد كانت بالفعل، بالإضافة إلى قوات “قسد” الأداة التي هدمت دولة تنظيم داعش، وحولته إلى مجرد خلايا متفرقة في الصحارى، وأما من يقصدهم ب”الانفصاليين”، والواضح هنا أنهم الإدارة الذاتية الكردية، فلم يصدر أي إعلان من أي جهة كردية أنها تريد الانفصال عن سورية وتأسيس كيان مستقل، بل المطالبة بنظام لا مركزي، وهي مسألة باتت تطالب فيها الكثير من المناطق السورية.

ما يجري مناقشته في اجتماعات اللجنة الدستورية، ليس له علاقة بالدستور، سواء الأوراق التي تقدمت بها المعارضة عن “الجيش والأمن”، أو ما تقدم به وفد النظام عن الإرهاب والسيادة والاستقلال، فهي إما أنها قضايا من نوع البديهيات التي يتضمنها كل دستور عصري، أو من نوع القضايا التي يجري النقاش بشأنها بين السلطات التشريعية والتنفيذية، أما أن يقترح النظام نصوص مواد دستورية تتضمن ما هو طارئ واستثنائي فرضتها ظروف الحرب، ويغفل عما هو أساسي، مثل طبيعة الدولة والنظام السياسي والفصل بين السلطات، فهذا إما يدل على غباء وضعف في الخبرة الدستورية، وإما خبث مقصود بهدف تبديد الوقت وإيصال السوريين إلى مرحلة اليأس من إمكانية الحصول على تنازلات تحفظ حقوقهم وطموحهم في رؤية سورية مختلفة عن مسار حكم العائلة منذ نصف قرن.

وهذا ما أرادته روسيا بالفعل، تيئيس العالم من المطالبة بتغيير نهج تعامل النظام مع السوريين، ويبدو أن روسيا تجد لديها الوقت الكافي للتسلي بهذه الألعاب، وسط موت السوريين الكثيف جراء ظروفهم الحياتية التي لا يستطيع بشر تحملها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.