على مدى ثلاث سنوات صمدت مدينة حديثة العراقية أمام الهجمات المتواصلة من قبل تنظيم “داعش”، بعدما عانته من قذائف الهاون والسيارات المفخخة وحصار استمر ثمانية عشر شهراً قبل أن تنتصر في النهاية على التنظيم.

تتحدى حكاية هذه المدينة المنطق العسكري، في الوقت الذي اجتاح فيه داعش مناطق واسعة ودفع العديد من الفصائل إلى الاستسلام، إلى جانب تهديد مدن أربيل وبغداد. والأهم من ذلك، سعى التنظيم بشكل كبير للسيطرة على مدينة حديثة واستعمل موارد كبيرة لحملاته عليها.

فما الذي جعل حديثة تبرز من بين عشرات المدن والبلدات العراقية، التي استسلمت لتنظيم داعش بدون قتال؟

أجرت مجلة “نيو لاينز” مقابلات مع شهود عيان في حديثة، حيث تذكّر هؤلاء ما حل بمدينتهم في الأيام التي سبقت الهجمات الأولى للتنظيم، وكيف نجحوا في حماية أراضيهم في حين فشل الكثيرون في ذلك.

ما بعد سقوط الموصل

بدأت تلك الهجمات بعد وقتٍ قصير من سقوط مدينة الموصل في أيدي تنظيم داعش في العاشر من شهر حزيران في العام 2014 دون أي مقاومة تذكر من القوات العراقية. وقبل أشهر كان تنظيم داعش قد سيطر على الفلوجة في ظروفٍ مماثلة في الثاني من شهر كانون الثاني.

استفاق زعماء قبائل حديثة على جملة مكتوبة على الجدار: “هجوم تنظيم داعش بات وشيكا”. ولكن بعكس المدن الأخرى، قرر وجهاء المدينة أن حديثة لن تستسلم، وأنهم سيقاتلون مهما حدث.

“كانت مدينتنا أول مدينة تحفر خنادق وتبني سواتر رملية بدءاً من الحادي عشر من شهر حزيران من العام 2014، بعد يوم واحد من سقوط مدينة الموصل”، يقول الشيخ عبد الله الجغيفي، والذي ينتمي لأحد أبرز القبائل في حديثة بما يزيد عن 110 آلاف فرد. ويُعد الشيخ عبد الله أحد الشخصيات البارزة في قبيلة الجغيفة، وأصبح أيضاً قائداً ميدانياً بارزاً لقوات قبائل حديثة المكُلّفة بمحاربة التنظيم.

كانت حديثة حتى منتصف الثمانينيات مركزاً حضرياً يفتقر إلى الطابع القبلي القوي. وبدأت العلاقات القبلية تصبح متكاملة بالنسبة لتشكيل مجتمع محلي فقط بعد تدفق آلاف العائلات من القرى الواقعة على ضفاف نهر الفرات، بسبب بناء سد حديثة والذي عُرف قبل عام 2003 باسم سد القادسية.

بعد ثلاثة أيام من سقوط الموصل، وتحديداً في الثالث عشر من شهر حزيران، أصدر الزعيم الشيعي الأعلى في النجف علي السيستاني دعوة لـ “الجهاد الكفائي”، وهي فتوى تعلن الحرب على تنظيم “داعش” في أعقاب توجيه كان قد صدر في وقتٍ سابق من قبل الحكومة العراقية في نفس السياق.

إلا أن الأراضي الخاضعة لسيطرة التنظيم استمرت في التزايد خلال الأسابيع التالية، وانتقلت جنوباً إلى مدن في محافظات أخرى مثل كركوك وصلاح الدين وديالي والأنبار ولم تواجه أية مقاومة على طول الطريق الواصل إلى العاصمة بغداد.

في حين تابع قادة حديثة هذه التطورات عن كثب وتحققوا من أن تلك المدن قد سقطت من الداخل بفضل الخلايا النائمة لداعش والسكان المتعاونين معهم، بحسب ما يتذكّر مبروك حميد مهيدي، رئيس بلدية حديثة. ومهيدي هذا كان ضابطاً سابقاً في الجيش العراقي ومقاتل بارز في قبيلة الجغيفية، وفي العام 2014، شغل منصب رئيس اللجنة الأمنية في الحكومة المحلية لمنطقة حديثة.

ويتابع مهيدي قائلاً: “كنا متأكدين من أن داعش لن يرحمنا وسوف يقتلنا جميعاً إذا ما نجح في اقتحام المدينة والسيطرة عليها”. مشيراً إلى أنها كانت “معركة وجود”، فإما النصر أو الموت.

تأثير علماء الدين في حديثة

ساعد عدم قبول علماء الدين في حديثة إيديولوجية تنظيم داعش على مواجهة التنظيم. حيث اعتنقوا الإسلام السني المتأثر بالصوفية والذي يتعارض بطبيعته مع النهج السلفي الجهادي المتشدد الذي يتبناه التنظيم.

وبحسب مهيدي، “لم يكن هناك أئمة وخطباء يدعمون تنظيم داعش، وكان الاعتقاد السائد أنه إذا ما سيطر التنظيم على المدينة فسوف يدمرها ويهجّر السكان”، مؤكداً بأن العديد من رجال الدين.

وفي الوقت ذاته، نادى بعض العلماء مثل إمام وخطيب مسجد التوحيد الشيخ أسامة زين العبيدي، وهو مسجد صوفي معروف بعدائه للسلفية المتشددة، الناس من على المنبر إلى محاربة داعش، بينما كان يحمل مدفعاً رشاشاً واصفاً إياهم بالكفرة الذين يتوجب محاربتهم، وذلك في خطبة الجمعة الأولى بعد سقوط مدينة الموصل.

حتى بعد سقوط الموصل، حافظت حديثة على كامل طاقتها وكانت خدمات الحكومة المحلية ونظام التعليم والإدارات الصحية تعمل بكامل طاقتها. ومع ذلك، كان واضح للقيادة أن خط الدفاع الأول يتمثل بمعالجة الدعاية المتنامية للتنظيم والتي بدأت بالانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي وبين السكان المحليين وفي الشوارع والمقاهي.

في غضون ذلك، كان جواسيس حديثة داخل التنظيم يراقبون تحركات الجهاديين في المدن في جميع أنحاء الأجزاء الغربية من محافظة الأنبار. وقد تلقى قادة حديثة رسالة بعد سقوط الموصل مفادها أن تنظيم داعش بات عملياً على أعتاب منازلهم. وبالفعل، فإن الهجوم الأول جاء في 14 حزيران بخرق من الجانب الغربي لمدينة حديثة.

الهجوم الأول لداعش كان عبارة عن رتل من أقل من عشرة مركبات تقل رجال مسلحين بأسلحة خفيفة ومتوسطة المدى وعدة قاذفات صواريخ من طراز آ ربي جي 7 بقيادة ناجح خلف الجغيفي، قيادي داعش من قبيلة الجغيفية.

حيث لجأ التنظيم إلى هذا التكتيك لزعزعة استقرار صفوف القوات المعارضة والذين ينتمي معظمهم إلى نفس عشيرة زعيم هجوم داعش على المدينة. كما كانت تلك أيضاً طريقة لإثبات ولاء هؤلاء الأعضاء القبليين للتنظيم.

أهداف داعش

تتمتع حديثة بأهمية عسكرية حيوية بفضل موقعها على بعد أقل من 20 ميلاً شرق قاعدة عين الأسد العسكرية والتي كانت تستضيف القوات الأمريكية. وهي تقع كذلك على بعد ساعتين بالسيارة من المركزين الحضريين الرئيسيين في الأنبار في الرمادي والقائم. ويشكل سد حديثة، السد الأكبر في العراق، قوساُ شمال المدينة ويخدم حوضاً مائياً يمتد على مسافة 40 ميلاً نحو الغرب.

كان للتنظيم هدفين في محاولته للسيطرة على المدينة: الأول كان انتقاماً ممن حاربوه في المدينة، والثاني للسيطرة على السد واستخدامه، لمنع الحكومة من تنفيذ عمليات هجومية ضد معاقلها في الأنبار، خاصة تلك القريبة من الرمادي.

وفي نهاية حزيران 2015، عكست كلمة المتحدث السابق باسم التنظيم أبو محمد العدناني أهمية المدينة بالنسبة للتنظيم والمدى الذي سوف تذهب إليه لكسب ولاء القبائل. وأعلن العدناني عن عفو عام عن رجال القبائل وضباط الشرطة والجنود الذين حاربوا التنظيم وخص بالذكر قبيلة الجغيفية، مهدداً بإبادتهم إذا ما رفضوا الاستسلام، حيث خاطبهم قائلاً: “الآن سوف نحاصر مدينة حديثة ويمكننا دخولها في أي لحظة. إذا دخلنا المدينة قبل أن تستسلموا سوف يقول الناس كانت هناك قبيلة تسمى الجغيفة وكانت منازل أفرادها هنا”.

ويستذكر الشيخ عبد الله الجغيفي تهديدات العدناني ورد فعل المدينة حينها، حيث يقول: “رفضنا التفاوض مع تنظيم داعش الذي أرسل وسطاء يحملون قوائم بأسماء المطلوبين لتسليمهم للتنظيم. وكان من بينهم ما يزيد عن 150 اسماً أغلبهم من قبيلة الجغيفية”.

يؤكد الشيخ الجغيفي قلة السلاح قائلاً: “في البداية لم يكن عدد مقاتلينا يبلغ الـ 70 مقاتلاً ومعظمهم كانوا من قبيلتنا الجغيفية. وكان لدينا فقط عشرات القطع من السلاح الخفيف وعدد قليل من الأسلحة المتوسطة الحجم وليس أكثر من عشرة بناقل آلية من طراز BKC. بعض مقاتلينا لم يكن معهم سلاح، لكنهم بقوا معنا في الضواحي الغربية للمدينة كما خططنا، حيث أكدت المعلومات الواردة من المتعاونين معنا تركيز هجوم التنظيم الأول على المدينة بعد أن رفضنا التفاوض معهم لتسليم المدينة بدون قتال”.

ولم يصل الدعم الحكومي، وانسحبت القوات العراقية المسلحة المتمركزة في قيادة عمليات البادية من مقرها بين منطقتي عنة وراوة وتوقفت عند حديثة. واستسلمت المنطقتان اللتان تقعان على بعد حوالي 40 ميلاً شمال غرب حديثة لتنظيم داعش دون قتال في 22 حزيران 2014.

ويبين الشيخ الجغيفي أن قبيلة البو محل أرسلت عشرات المقاتلين للوقوف إلى جانب قوات قبائل حديثة فور سقوط القائم في 22 حزيران 2014. وتحركت القوات الأمنية العراقية التابعة لقيادة عمليات البادية بقيادة اللواء ضياء دنبوس شرقاً باتجاه قاعدة عين الأسد العسكرية بعد سقوط القائم غربي الأنبار. “توقف انسحابهم عند أطراف مدينتنا”، يقول مهيدي موضحاً أن قائد القوة المنسحبة اتصل ببغداد وأبلغهم بقرار قبائل حديثة محاربة تنظيم داعش ورغبتهم في وقوف وحدات الجيش إلى جانبهم. ويقدّر الشيخ الجغيفي عدد آليات الجيش العراقي المنسحبة حينها بنحو 400 آلية.

معركة الأيام التسعة

وبحسب مهيدي، بعد أكثر من ساعتين من الاتصال الذي جرى بين قيادة عمليات البادية والمسؤولين في بغداد، جاء الأمر لهذه القوات بالانتشار في المدينة وفي منطقة سد حديثة لإنشاء مقر لعملياتها في تلك المنطقة، وبذلك توفر الدعم القتالي والمعدات اللازمة لقوات قبائل حديثة.

“الهدف الموحد بين قوات قبائل حديثة والجيش كان منح كل فرد دفعة معنويات إضافية”، يوضح الشيخ الجغيفي، مضيفاً بأن وحدات الجيش العراقي انتشرت جنباً إلى جنب مع مقاتلي القبائل في أطراف المدينة حيث كانوا يتوقعون هجوم التنظيم.

وثبت أن هذا الدعم كان حاسماً بالنسبة لحديثة، الأمر الذي عزز فرصها في تحقيق النصر النهائي لاحقاً. ويشير مهيدي إلى أنه تم إحباط محاولات التنظيم للسيطرة على سد حديثة من قبل مقاتلين محليين وكذلك بواسطة الضربات الأمريكية في الأيام الأولى من أيلول 2014 والتي كانت بمثابة أولى الضربات الأمريكية في الأنبار بأكملها بعد بدء الحملة ضد التنظيم قبل ذلك ببضعة أشهر.

كما جاءت نقطة التحول الثانية في القتال ضد التنظيم في العام 2016 والتي كانت ضد المئات من مقاتلي التنظيم، الذين هاجموا حديثة من ثلاثة اتجاهات. وكان الهجوم بقيادة أبو داود المحلاوي نائب محافظ ولاية الفرات في التنظيم والمسؤول الأمني الكبير هناك، حيث كان يقود ما يزيد عن 500 مقاتل.

“أطلقنا على الهجوم اسم معركة الأيام التسعة، لأن القتال كان محتدماً ليل نهار في الفترة مابين 3 و12 كانون الثاني من العام 2016″، يتذكر الشيخ الجغيفي. ويضيف: “كنا نعتقد أن قوات التحالف الدولي سوف توقف هذه القوافل الكبيرة والتعزيزات القتالية من الوصول إلى مدينتنا، إلا أنها لم تفعل شيئاً حيالها”.

وبحلول ذلك الوقت، كان لدى قوات قبائل حديثة ما يزيد عن 300 رشاش، تم الاستيلاء على معظمها من مقاتلي التنظيم خلال الهجمات السابقة. واعتمد مقاتلي التنظيم على نحو 52 عربة مفخخة في هجمات مختلفة طوال أيام المعركة التسعة، “لكن قواتنا أحبطت الهجمات. بدأ تنظيم داعش يفقد الروح المعنوية لأنه أصبح يدرك بشكل متزايد أن دخوله إلى مدينتنا أصبح مستحيلاً”، يقول الشيخ عبد الله.

وانتصرت قوات قبائل حديثة في الدفاع عن المدينة وكبّدت التنظيم ما يزيد عن 150 مقاتلاً في صفوفه وأصيب عدد أكبر بجروح. وبحسب الشيخ عبد الله، نجا أبو داود المحلاوي من الموت خلال الهجوم، لكن تم إعدامه لاحقاً من قبل قيادة التنظيم في سوريا.
وكانت هذه المعركة حاسمة بالنسبة لحديثة، التي فقدت ما يزيد عن 400 شخص خلال الأيام التسعة معظمهم كانوا من المدنيين، وأصيب ما يزيد عن 600 شخص بجروح. وبشيء من السخرية يذكر الشيخ الجغيفي كيف أن الحكومة العراقية لم تقدّم المساعدة، باستثناء علاج عدد قليل من المصابين، في حين كان على الباقين دفع تكاليف العلاج على نفقتهم الخاصة سواء داخل أو خارج العراق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.