أثارت وفاة “نقيب الفنانين” السوريين زهير رمضان لغطا قديما متجددا، حول دور الفنانين والمثقفين بوجه عام، فيما يجري في سوريا من أحداث خلال العقد الأخير، وهو لغط، مرتبط بالدور الملتبس لفئة المثقفين السوريين في الحراك الثوري، ومراوحة هذا الموقف بين الانتهازية وضعف الوعي.
ولعل من أكثر الفئات التي تعرّضت لامتحان شديد ووُضعت تحت الضغط بسبب ما يجري في سوريا خلال السنوات الأخيرة، ما يمكن تسميتها النخب السورية والتي يمثلها كتاب وصحفيون وفنانون وآخرون ممن يندرجون تحت تسمية المثقفين، والذين كشف بعضهم عن هشاشة مدهشة في الوعي السياسي والمجتمعي، بعد أن استسلموا لتفسيرات السلطة الركيكة للأحداث، باعتبار ما يجري مؤامرة خارجية، وينفّذها على الأرض قلة من الأشخاص، هم إمّا مغرّر بهم أو مدسوسون أو مأجورون يتلقون أموالا لقاء خدماتهم. ولا يقتصر الوجود الجغرافي لهذه الفئة على الداخل السوري ممن يعيشون في كنف النظام، بل يمتد الى بعض السوريين والعرب القاطنين في بلدان أوروبية، ويفترض انهم متحررون من عقد الخوف والتملق التي تحكم وتتحكم بمواقف زملائهم الذين يعيشون في “حضن الوطن”.
وابتعادا عن التعميم، وإذا حاولنا تسليط الضوء على المواقف التفصيلية للمثقفين داخل سوريا، وتحديدا في مناطق سيطرة النظام، من كتاب وإعلاميين وفنانين وأكاديميين، فيمكن وضعهم في فئات عدة:

  • الموظفون ضمن مؤسسات الدولة الإعلامية والثقافية والأكاديمية، وهم بوجه عام جزء من المنظومة الإعلامية – الأمنية للسلطة، وتبنى معظمهم روايتها بأن ما جرى كان مؤامرة خارجية تتم بواسطة أشباح من المندسين والسلفيين والإرهابيين الذين يقتلون الناس والجيش والأمن، دون تقديم تفسير واضح لسلوك هذه الأشباح القائم على القتل من دون برنامج سياسي، باستثناء الارتباط المبهم بمؤامرة خارجية هلامية غير واضحة المعالم.
  • المثقفون غير الملتصقين وظيفيا بالسلطة وكانوا قبل عام 2011 يقدّمون أنفسهم مستقلين وينتقدون السلطة بدرجات معينة، لكن التطورات دفعتهم إلى ضرورة إعلان مواقفَ صريحة، لأن السلطة لم تعد تقبل المواقف “الرّمادية”، وقد انحاز معظم هؤلاء إلى موقف السلطة، بينما لا يزال بعضهم يحاول المناورة في منطقة ما على أساس “التأييد الجزئي أو المشروط” أو الضمني، للسلطة أو للمعارضة.
  • مثقفون يساريون مترهلون لم يصل إلى يقينهم بعد أن ما يجري له بعد شعبي حقيقي يستحق “المجازفة” في تأييده. ومن أجل المصالحة مع أنفسهم وكأحد أشكال التهرب من اتخاذ موقف شجاع، عمدوا إلى التظاهر بتصديق الفزّاعة التي تروجها السلطة، من أن البديل عنها سيكون حكما إسلاميا متطرّفا يقضي على “علمانية” الدولة ويضيق على الأقليات. والتذرع بهذه المخاوف دون مناقشتها جديا، يعكس من جهة أخرى التباسا وسوء فهم من جانب هؤلاء لطبيعة المجتمع السوري المتعايش تاريخيا من دون مشكلات طائفية حقيقية.
    كما عانى بعض المنتمين الى هذه الفئة في الضفة الأخرى، أي المعارضة، من ضياع فكري واضح لجهة مداهنة القوى المهيمنة على الأرض، وافتقارهم لروح النقد للحراك الثوري، وخاصة جناحه الفصائلي المسلح.
  • مثقفون “قومجيون” يفتقر معظمهم أساسا للثقافة الديمقراطية، يبررون موقفهم المنحاز للنظام بالحرص على “الخطّ المقاوم” الذي يمثّله، لكن دون أن يطالبوا في الوقت نفسه بتحصين هذا الموقف داخليا من خلال إقامة دولة عصرية ديمقراطية تكون سياستها الخارجية تعبيرا عن إرادة شعبية حقيقية، وهي إرادة غير بعيدة في الحقيقة عن شعارات النظام لناحية مناصرة القضية الفلسطينية ودعم خط المقاومة.
  • وتبقى فئة من المثقفين ممن انحازوا صراحة ضد النظام الديكتاتوري، والذين كان بعضهم أساسا من المعارضين المعروفين وعاش بعضهم تجربة الاعتقال سابقا. او هم من جيل الشباب ممن تفتح وعيهم على القيم الجديدة التي بدأت تنتعش مع انطلاق الحراك الشعبي عام 2011 وانكشاف حقيقة النظام القائم على القمع الأمني والفساد والتحالفات الطائفية داخليا وإقليميا.
    وبطبيعة الحال، هذه الفئة لا تتمتع بالطهرانية السياسية أو الأخلاقية، ومنها نماذج انحرفت في سلوكها، واستنسخت المسالك نفسها لمثقفي السلطة لكن في ضفة المعارضة، لناحية التعصب للرأي وإلغاء الاخر وتحقيره، والاستزلام والشللية، ومجمل الموبيقات الموجودة لدى مثقفي النظام.
    وبالعودة الى مثقفي السلطة، فان أكثر الفئات التي برزت إلى السطح من بين هؤلاء خلال الأزمة الراهنة هم الفنانون الذين إما تطوعوا وأحيانا بحماسة لإعلان ولائهم لـ” الوطن” والذي يتماهى في وعيهم مع السلطة والنظام السياسي القائم، أو جرى إحراجهم عبر مطالبتهم علنا من جانب وكلاء السلطة بإعلان موقفهم باعتبار أن “الحياد” في هذه الظروف غير مقبول، بل وصفه بعضهم بأنه خيانة وحقارة.
    ومن هنا، لاحظنا خاصة في السنوات الأولى للثورة ضد النظام، إطلالات يومية لهؤلاء الفنانين على الشاشات المحلية عبر جلسات “حوار” كان بعضها أقرب إلى التحقيق الأمني، يتبارى فيها الحضور مع المذيع في التغني بحب الوطن وفي تكرار المونولوج حول المؤامرة الخارجية ورأس حربتها الفضائيات العربية والأجنبية، في حديث يكشف على نحو فاضح مدى هشاشة البنية الفكرية لهذه الفئة التي ارتسمت صورتها لدى عموم الجمهور مثالا وقدوةً من خلال أعمالهم الفنية التي تتحدث عن الكرامة والبطولة ومقاومة الظلم.
    والواقع أنه، إضافة إلى الاستعداد المبدئي الموجود لدى كثير من هؤلاء الفنانين لتملّق السلطة من منطلق انتهازي مصلحي أو بسبب الخوف من التخوين والتخاذل عن الوقوف إلى جانب “الوطن” في هذه اللحظات الحرجة، فإن قدرا كبيرا من موقفهم المتهالك يعود إلى ضحالة فكرية وسياسية وعدم تمكنهم من الوقوف على تشخيص دقيق لما يحدث في بلدهم. وقد ظهر من خلال حديث معظم من أدلى بدلوه من هؤلاء الفنانين عدم قدرتهم على امتلاك ناصية التحليل والتشخيص لطبيعة الأزمة التي تمر بها بلادهم، والتي هي في جوهرها تمثل اعتراضا شعبيا على نمط من الحكم الديكتاتوري العائلي الفاسد، وغير القابل للإصلاح، ويستحقّ تاليا أن يحظى بدعم النخبة الثقافية في البلاد.
    وإذا كان يمكن تفهّم موقف من التزم الصمت خوفا على أمانه الشخصي وأمان أسرته، أو حتى طمعًا في مواصلة الاحتفاظ بمزايا معينة توفرها له السلطة، فإنه من الصعب تفسير موقف من جنَّد نفسه لتبرير جرائم الجيش والأجهزة الأمنية، وتلطيخ سمعة المحتجين وأهدافهم.
    والسؤال المطروح بداهة عمّا إذا كان يستحق أن يحوز صفة المثقف كل من يقف على نحو فاضح ضدّ أهداف إنسانية سامية مثل الحرية والديمقراطية ومقاومة الظلم، يمكن الرد عليه تبسيطا بأن هؤلاء فقدوا البوصلة وبنوْا موقفهم على حسابات مغلوطة، لكن في التحليل الأعمق لا بد من الاعتراف بأننا، وبوجه عام، نقف أمام أزمة وعي سياسي عميقة تتمظهر على وجه الخصوص من خلال الشخصيات العامة التي يتاح لها الظهور عبر وسائل الإعلام، لكنها منتشرة عموما في كل ثنايا المجتمع السوري عموديا وأفقيا، حتى لدى كبار المسؤولين في الدولة والحزب الحاكم الذين تفتقر غالبيتهم الساحقة للثقافة السياسية الحديثة المتصلة بمبادئ الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى أنّ كلمة الديمقراطية لدى كثير من هؤلاء المسؤولين ليست غير متداولة وغير مستساغة فقط، بل تنتمي في وعيهم الداخلي إلى عالم المؤامرة والغرب المعادي والاستعمار والإمبريالية. واللافت أن هذا التشخيص ينطبق أيضا بدرجة ما على كثير من الفاعلين العسكريين والسياسيين في ضفة المعارضة، ممن لم يتخلصوا بعد من شوائب التربية العقائدية للنظام.
    وما يزيد من ثقل المسؤوليات الملقاة على المثقف السوري اليوم تعاظم الدور الذي تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي، ووقوع كثير منها تحت هيمنة السلطة الحاكمة، فضلا عما تملكه هذه السلطة من أدوات ضغط أخرى على معيشة ووعي الناس، وهو ما يتطلب من المثقف الجمع بين المعرفة والموقف، أو الموقف المبني على معرفة، ليكون فاعلا في مجتمعه، وقادرا على مواجهة تضليل السلطة. والمثقف بهذا المعنى، كما يقول سارتر، هو صاحب الموقف المنحاز إلى القيم والعدل والحق، قبل أن يكون تقنيًا ومتخصًصًا بأحد فروع العلم أو فنانًا.
    وعليه فإن المثقف الحقيقي هو من يمتلك القدرة على اتخاذ مواقف شجاعة استنادًا إلى قاعدة معرفية تمكنه من التوصل إلى أحكام صحيحة، حيث لا يمكن للثقافة أن يكون لها دور في نهوض المجتمع، دون أن يكون المثقف نفسه حرا وشجاعًا ومستقلًا برأيه، ولا يستسلم للإغراءات والإملاءات. فالمسألة بالنسبة للمثقف أصبحت ليست العمل على تغيير وعي الناس، بل أن يوضح لهم كيف يتكون وعيهم أصلا، وما هي الأساليب والمصالح التي تقف خلف تشكيل هذا الوعي، أي الكشف عن أساليب السلطة التي تعمل بشكل ممنهج عبر مجموعة من الآليات والمؤسسات الثقافية والإعلامية والجامعات والمدارس والجوامع والعلوم الطبيعية والاجتماعية، لتصنيع الفئات المهيمِنة على الرأي العام، لتصنع بواسطتها الحقيقة للمجتمع، ما يعني أن الإجراءات التي يراد منها حماية المجتمع وتنميته ورفع مستوى الوعي لديه، هدفها الحقيقي السيطرة على هذا المجتمع بوسائل غير مباشرة، ويكون المطلوب تاليا من المثقف الدفع نحو تغيير النظام السياسي والاقتصادي برمته المنتج لهذا الوعي الزائف.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.