منذ أمس الثلاثاء وسوريا تشهد تطورا هاما في المجال الاقتصادي، حيث أعلن “بنك سوريا المركزي” عن إصدار فئة نقدية جديدة بقيمة 5000 ليرة سورية، هذا الإعلان يعكس عدم التزام الحكومة السورية بتحسين الوضع الاقتصادي والنقدي في البلاد، ويشكل خطوة نحو عدم إعادة الثقة في العملة المحلية.

منذ فترة طويلة، تعاني سوريا من تضخم اقتصادي مدمر، وتراجع قيمة العملة المحلية بشكل ملحوظ. كانت الأوراق النقدية ذات القيمة الصغيرة لا تكفي لتلبية احتياجات المواطنين، وكانت الصعوبات المالية تكاد تكون لا تحتمل. ومع ذلك، فإن الإعلان عن فئة نقدية جديدة بقيمة 5000 ليرة سورية يأتي ليثبت هذا المشهد.

الأمر في سوريا يتعلق بترابط وثيق بين التضخم وضعف العملة؛ فعندما يحدث تضخم في الاقتصاد، يزداد إصدار النقود بشكل متسارع، وبالتالي يزيد العرض النقدي في السوق. ومع زيادة العرض، تنخفض قيمة العملة نسبيا بالمقارنة مع السلع والخدمات المتوفرة، وهذا يؤدي إلى انخفاض قدرة الشراء للمواطنين وتدهور القدرة التنافسية للبلاد على المستوى الدولي.

ما قصة الـ 5 آلاف ليرة؟

في إعلان صُدر ليل الثلاثاء- الأربعاء، أعلن “المركزي” السوري عن وضع أوراق نقدية من فئة 5000 ليرة سورية، إصدار عام 1444ه‍ – 2023م في التداول تحمل ذات التصميم المتداول حاليا، لكن مع اختلاف بحجم رقم الفئة الموجود على الوجه الأمامي للورقة النقدية.

فئة الـ 5000 ليرة سورية - إنترنت
فئة الـ 5000 ليرة سورية – إنترنت

“المركزي” في بيانه المتأخر، بيّن أنه تمت الاستعاضة عن ميزة التخريم المجهري لرقم 5000 بطباعة نافرة لرقم 5000 بما يضمن تعزيز المزايا الأمنية للورقة النقدية، كما تم الاحتفاظ بباقي المواصفات الأمنية دون تعديل.

مع استمرار هبوط قيمة الليرة، وفي إجراء متوقع كان “المركزي” السوري قد طرح في كانون الثاني/يناير 2021 لأول مرة للتداول أوراقا نقدية من فئة 5000 ليرة هي الأكبر حتى الآن، وكانت هذه هي المرة الثالثة التي يطرح فيها “المركزي”، أوراقا مالية لمواجهة التضخم خلال السنوات الخمس الأخيرة، وحسب تقارير اقتصادية دولية، بلغ معدل التضخم 263.64 بالمئة في سوريا عام 2020.

الطبعة الجديدة التي أعلن عنها “المركزي”، تأتي في إطار مكافحة التزوير وتغذية السوق بأوراق جديدة بسبب نقص كمية العملة المحلية داخل البلاد بعد انهيار سعر صرف الليرة حيث وصلت إلى 9600 مقابل الدولار الواحد.

هذا الإعلان أثار حفيظة السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث علق أحمد عمر المنحدر من مدينة حلب، أن “تزوير الورقة الجديدة تكلف أكثر من قيمتها”، فيما أشار أحمد أبو سليم، والذي يعمل في مجال التمويل المالي، أن الورقة النقدية الجديدة، لا تساوي نصف دولار، قائلا “ورقة ذات مزايا أمنية جديدة، أحد أهم مزاياها أنها تشتري أربع بيضات”.

التضخم لا يعالج بالكساد والتضييق

الدكتور إلياس نجمة، الأستاذ المتخصص في مادة السياسات المالية والنقدية في كلية الاقتصاد بدمشق، أكد أنه عند الحديث عن زيادة الرواتب، يجب ألا يتم إغفال النظر إلى الأسعار والدخول بشكل منفصل. كما أشار إلى أن الحديث عن الأسعار يجب أن يأخذ في الاعتبار تأثير عجز الموازنة على التضخم، وأنه لا يمكن فصل المسائل المالية والاقتصادية عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي الحالي الذي يعاني منه البلد.

نقود سورية داخل "البنك المركزي السوري" - إنترنت
نقود سورية داخل “البنك المركزي السوري” – إنترنت

نجمة ذكر خلال حديثه لموقع “غلوبال نيوز” المحلي، أن الحكومة أغفلت حقيقة أنها يجب أن تحلل الواقع الاقتصادي والاجتماعي بشكل علمي وشامل، ويجب أن تقدم تحليلها هذا أمام “مجلس الشعب”، وفي الوقت نفسه، يجب أن تقدم رؤيتها الواضحة لخططها للمعالجة.

 المتخصص في مادة السياسات المالية والنقدية، طرح تساؤلا حول علم الحكومة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي الحالي خصوصا أن التضخم وصل إلى 3852 بالمئة خلال 10 سنوات، لافتا إلى أن أساس أي حل يكمن في أن تكون على دراية جيدة ببيانات الوضع الحالي اقتصاديا واجتماعيا، بدلا من الاستماع إلى تناقضات بعض المسؤولين التي تحدث حاليا. فهناك من يرون الواقع عظيما ومن يرونه في تدهور، وذلك حسب كفاءة ومعرفة كل شخص.

في السياق ذاته، بيّن نجمة أن التضخم يؤثر سلبا على موارد الدولة المالية، حيث تتناقص بشكل كبير بسبب عدم قدرتها على التكيف مع ارتفاع الأسعار. فالسلع والخدمات التي تقدمها الدولة تفقد قيمتها النقدية في السوق، ولا يمكنها مواجهة هذا الأمر عن طريق زيادة أسعار السلع والخدمات بشكل لا متناهي. 

الحكومة بحسب الاقتصادي السوري، استمرت في التعاطي مع ظاهرة التضخم بشكل إداري وبيروقراطي، عبر إجراءات قمعية لا تستند إلى آليات اقتصادية. وبينما يعتبر التضخم ظاهرة مالية اقتصادية بامتياز، يرى أنه يجب التعامل معها من خلال سياسات مالية ونقدية تستخدم أدوات التحليل الاقتصادي والنقدي التي تنسجم مع الظروف الاقتصادية المحلية والإقليمية. 

ربما تكون الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة لزيادة إيراداتها من خلال رفع أسعار المواد التي تتحكم فيها، سببا رئيسيا في زيادة التكاليف وتفاقم التضخم بشكل عام. كما ساهمت التقييدات المالية والبنكية والبيروقراطية في زيادة التكاليف أيضا.

بشكل عام، يلاحظ الدكتور نجمة أن إصرار الحكومة على التركيز على التضخم كنتيجة لزيادة التدفقات النقدية يتجاهل جوانب أكثر خطورة وتهديدا، والتي تجعل التضخم يتفشى دون استجابة للإجراءات التقليدية للتهدئة.

من الواضح بحسب نجمة أن التضخم يؤدي إلى تفتُّت الجسم الاقتصادي، مشابها ذلك بكيفية تأثير السرطان على الجسد البشري. حيث يستنزف الموارد المالية للدولة بشكل أكبر مما يؤثر على موارد الأفراد. وتعتبر الزيادة في الديون الحكومية من خلال تمويل عجز الموازنة عبر الاستدانة من “البنك المركزي” ورفع أسعار المواد التي تتحكم فيها الجهات العامة من بين الإجراءات التي تزيد من التضخم وتثير المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.

الحكومة السورية سبب رفع الأسعار بالأسواق

كان “بنك سوريا المركزي” قد قام منذ عدة سنوات بطباعة أوراق نقدية من فئات (50 – 100 – 200 – 500 – 1000 – 2000) ليرة سورية، وطرحها للتداول عام 2015، ما عدا فئة الـ 2000 ليرة التي طُرحت عام 2017 وحملت صورة الرئيس بشار الأسد.

فئة الـ 2000 ليرة سورية - إنترنت
فئة الـ 2000 ليرة سورية – إنترنت

خلال العام الفائت، عاد الحديث في سوريا حول إصدار عملة ورقية جديدة قيمة عشرة آلاف ليرة إلى الواجهة، وذلك في ظل  تفاقم الأزمة الاقتصادية، مع استمرار عجز الحكومة عن احتواء الأزمة المعيشية، فضلا عن عجزها عن تأمين السلع الأساسية والمواد الغذائية والمحروقات، وذلك في وقت وصلت فيه نسب التضخم إلى أعلى مستوياتها في تاريخ البلاد.

عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، محمد الحلاق، صرح أمس الثلاثاء، بأن ارتفاع أسعار السلع في الأيام الأخيرة لا يعود فقط إلى شائعة رفع سعر المازوت وزيادة الأجور، بل يرجع أيضا إلى تشوّه التكلفة الحقيقية في السوق المحلية. ويعود هذا التشوّه إلى عدم استقرار عناصر التكلفة، مما يدفع التجار إلى زيادة الأسعار كإجراء وقائي.

الحلاق في حديثه لصحيفة “البعث” المحلية، أشار إلى أن ثبات التكلفة يؤدي إلى استقرار الأسعار، ويتحقق ذلك عن طريق توفر المواد بكميات كبيرة وتوافرها لدى العديد من الأفراد الممارسين للمهنة، مما يدفعهم للتنافس في الأسعار.

فيما يتعلق برفع سعر المازوت وتأثيره على أسعار السلع، أوضح عضو مجلس إدارة الغرفة أن زيادة سعر المازوت لن تؤثر على السلع المستوردة التي يتم بيعها بأسعار مرتفعة، إلا إذا تجاوزت الزيادة 1 بالمئة. وبالنسبة للسلع المستوردة والرخيصة، قد يكون التأثير أعلى ويصل إلى 3 بالمئة. كما أشار إلى أن توزيع البضائع بين المناطق الجغرافية المتقاربة يقلل التكلفة، والعكس صحيح أيضا.

الحلّاق ربط ارتفاع الأسعار بعدة إجراءات اتخذتها الحكومة، مثل ارتفاع سعر المنصة والصرف الجمركي، ونقص المحروقات وتراجع التنافسية. ولفت إلى أن الحلول تكمن في استقرار التشريعات لفترة طويلة وضبطها وتطبيقها، إلى جانب خفض التكاليف وتحديد التكلفة الحقيقية. كما أكد أهمية التوافق بين قطاع الأعمال والحكومة الاقتصادية للخروج من الوضع الحالي.

أي حل خارج الإجراءات المذكورة بالنسبة للحلاق سيكون ضياعا للوقت، خاصة بعد أن لم تحقق جهود خفض فاتورة الاستيراد من 18 مليار يورو في عام 2011 إلى 6 مليار يورو في عام 2019 ومن ثم 4 مليار يورو في عام 2021. ولم تكن هناك نتائج إيجابية، بل زادت حالات التهريب التي يجب دراسة أسبابها بدلا من الاكتفاء بالشعارات في مكافحتها.

إن من أهم القضايا التي تشغل بال السوريين هي قضية التضخم وضعف العملة، فهما ينبئان بمشاكل اقتصادية خطيرة وانهيار قيمي يهدد الاستقرار وباتت هذه المسألة تطل بظلالها المظلمة على حياة المواطنين الذين يعانون من تفاقم التضخم وتدهور قوة العملة.

في ظل الأوضاع الراهنة، يظهر بوضوح أن العملة السورية أصبحت عُرضة للتدهور المستمر، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل مفزع. فعندما يتفاقم التضخم ويتضاعف سريعا، يفقد المواطنون قدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية ويتعرضون لأعباء مالية هائلة تهدد استقرارهم ورفاهيتهم، وهو ما يظهر أن طباعة فئة نقدية جديدة لن تحل المشكلة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات