انتهت ثورة السوريين باكراً؛ فهل كانت تحملُ وعياً جديداً متقدماً على الوعي القائم؟. في الأشهر الأولى من الثورة السورية، أبدى المنتفضون رفضهم للطائفية والتقسيمات القومية، حيث تردد شعار “الشعب السوري واحد”، ورفضوا بشعاراتهم الأسلمة أيضاً “لا سلفية ولا إخوان”، وبالتالي هم يريدون دولة حديثة تقوم على المواطنة والحريات العامة والمساواة والعدل والحياة الكريمة وما إلى ذلك، بدلاً من الحكم الشمولي العائلي القائم.
كانت شعاراتهم هذه رومانسية، وأقرب إلى الأمنيات، فالسوريون كانوا مبعدين عن السياسة كلياً، وليس لهم تجارب ثورية وقيادات تمثلهم، وغابت البرامج الثورية الواضحة، وغاب النقد أيضاً، وبالتالي تعذر وجود إرادة واعية تقود الثورة؛ فالمعارضة التقليدية لم تكن تستعد للحظة الثورة، لم تكن تتوقعها، وتفاجأت بها، رغم أن عدوى الربيع العربي كانت تنتقل بين تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن…، على عكس النظام الذي بنى قدراته الأمنية والعسكرية، وتحت شعارات الممانعة، استعداداً لقمع الشعب، وبشكل ممنهج، وفي أي لحظة.
الوعي السابق، ورغم ما أشرنا إليه، كان سمته الأساسية ال”ما قبل وطنية”، وكان مشوباً بتقسيمات وهويَّات جهوية طائفية وعشائرية وقومية وعائلية؛ فالمجتمع السوري يغلب عليه الطابع الريفي، فيما لم يحقق ما قام به البعث من توظيف لأبناء الريف في المدن أي تغيير في هذا الوعي، بل عمَّقه، تحديداً بعد السبعينات، أي فترة تشكل النظام العائلي والشمولي، وترسيخه بعد القمع الشديد للمعارضة الذي جرى في الثمانينات.
كانت السلطة حينها مهتمة بكسب ولاء الشعب، وهذا تحقق لها عبر القمع، وتعزيز التقسيمات المجتمعية السابقة أكثر، إضافة إلى سياسات تتعلق بالتعليم المجاني والإصلاح الزراعي والتأميم؛ فيما لم تكن المدن الرئيسية أفضل حالاً من الأرياف، حيث تحكمها برجوازية رثّة ومتخلفة، ومتحالفة عضوياً مع رجال الدين، وتحالف قسم منها مع نظام البعث، وشاركه في ترسيخ كل من الخوف والوعي المتخلف.
المعارضة السابقة على الثورة تلقت قمعاً شديداً منذ الثمانينات، ما جعلها مشتتة، وكل كياناتها قائمة على تجميع الأشخاص أكثر منه تلاقي الأفكار أو تبادلها. كان الأبرز بين تجميعاتها تلك الإخوان المسلمون المنفيون في الخارج منذ مطلع الثمانينات، وإعلان دمشق، وبقايا التيارات اليسارية السابقة.
حالة تشتت المعارضة هذه، وغياب الأفكار الثورية عن برامجها، جعلها ترى المسألة برمتها، من زاوية ضيقة، كما كانت تراها قبل الثورة، ومنذ الإطاحة بنظام صدام حسين في 2003، وهي إسقاط النظام باعتباره الشر الأعظم، ثم تداول السلطة بين كياناتها وأفرادها عبر التنافس على صندوق الاقتراع، أي “الديمقراطية” باعتبار الأخيرة الخير الأعظم، وأن هذا سينعكس إيجابياً على حال الشعب.

أما طريقة تحقيق ذلك فهي بالتدخل الخارجي، كما في العراق وليبيا، والعمل المسلح المأمول بالحصول على الدعم وبتأييد سيطرة الإسلاميين على الثورة. فيما اتخذ معارضون آخرون مسار دعوة النظام للتغيير والإصلاح، وهو مسار لا قيمة له، وقائم على الخوف من النظام ومن الانخراط بالثورة أيضاً، وبالتالي أثره هامشي.
لم تتغير معادلة المعارضة تلك بعد قيام الثورة؛ وعلى ذلك لم تعن الثورة بالنسبة لهؤلاء سوى تجدد الفرصة لمعاودة نشاطهم السياسي وبنفس الأدوات. حالة الكسل الفكري المعارض هذه جعلتهم يرون الشعب طوائف وملل وتقسيمات أبدية، وبالتالي الثورة سنية يدعمها بعض المكونات الأقلوية، وأن النظام علوي؛ واكتفوا بترجمة الثورة إلى مجرد مأساة إنسانية تُطرَح في المنابر الدولية وفي سفارات الدول المتدخلة ومخابراتها، بدلاً من البحث في كيفية تطوير العمل الثوري، وانتقاد الأخطاء، وتحديد برامجها، ودعم عمل تنسيقياتها الأولى، بل جرى العكس، حيث جُرَّ نشطاء تلك التنسيقيات إلى دهاليز العمل السياسي المعارض، على أنه السبيل الوحيد الممكن لإسقاط النظام، أي عبر مساعدات دول صديقة، تحولت إلى ارتهان المعارضات لتلك الدول المتنافسة، وقد اتضح أن الدول الغربية تركت الوضع السوري يتعفن، فيما تدخلت تركيا ودول عربية لتخريب الثورة.
بدأ تراجع الزخم الثوري منذ انتهاج المعارضة سياسة تحرير المدن، الإسلاميون كانوا أكثر المتحمسين لهذه السياسة، لأنها تعني إقامة حكمهم وشرعهم الخاص. بذلك كان تحرير مدينتين كبيرتين، الرقة وإدلب، من النظام، مفصلين هامين أنهيا الثورة بمعناها الشعبي، وتم تقسيم البلد إلى مناطق نفوذ، رغم أن تواجد النظام فيهما كان محدوداً، بسبب محاصرتهما بكتائب الجيش الحر، فيما فشل تحرير حلب وحمص لأسبابٍ، ومنها عدم توفر رغبة دولية بذلك، والنتيجة إنهاء حالة الجيش الحر، وتسليم الرقة لداعش، وسيطرة الجولاني على إدلب وأريافها.
هذا يعني أن المعارضة والإسلاميون على تنويعاتهم، صادروا الثورة باكراً، أي صادروا إمكانية تطورها، كتجربة، يمكن أن تُحدِث فارقاً في تطور الوعي العام، وإذا كان النظام قد أوقف تطوُّر وعي سياسي واجتماعي حداثي خلال 40 عاماً، فإن المعارضة المكرسة أكملت ذلك خلال العشر سنوات التالية.
الفشل الذي لقيته خطط المعارضة، في الاعتماد على تدخل أو تسليح خارجي وفي دعم الإسلاميين، وفي سياسة التظلم والشكوى لدى الدول، ليس بسبب فسادها وعدم توحدها فحسب؛ بل أيضاً لأنها لا تجيد قراءة السياسات الدولية والإقليمية، وأن للدول مصالحها الخاصة وتتنافس فيما بينها، ولا يمكن أن تدعم الثورات، بل اتضح أنها تدعم فشل الثورات، والثورات المضادة كما في مصر وليبيا وتونس، وهو ما حصل في سوريا.
بالتأكيد تأججت الانقسامات السابقة الذكر أكثر فأكثر في النسيج السوري، خاصة لدى المعارضين المهجرين والمشتتين، والذين تلقوا الضربات الأقسى في الحرب السورية، وليس من السهل علاج هذا الصدع الكبير.
هناك قرابة عشرة مليون سوري في مناطق سيطرة حكومة النظام، منهم موالون ومنهم صامتون ومعارضون، بالتأكيد هناك تغييرات كبيرة تحصل في وعي هؤلاء بحقوقهم. ورغم أن للخوف من القمع الشديد دورٌ كبير في منع العقل البشري من التفكير وبالتالي من الفعل، لكن تأخّر خروج أي حراك في تلك المناطق، لا يعني بالضرورة أنه بسبب الخوف من الاعتقال والقتل، ربما هو بسبب ضياع البوصلة والأمل بإمكانية التغيير، خاصة أن سوريا بلد محتل ومقسم ومنهوب من الإيرانيين والروس، وهذا يعني أن الصمت هو حصيلة وعوامل عديدة.
في اللحظة الراهنة، لا يمكن أن ننتظر دعماً من المعارضة المكرسة لأية انتفاضة داخلية، أو أية أفكار مستجدة، فالحراك الداخلي يُقابل بالشماتة المسبقة من المعارضين، بدلاً من ترقبه والبحث والاستعداد لكيفية دعمه إن حصل.
السوريون في مناطق المعارضة خبروا، بدورهم، حكم الإسلام السياسي، وأدركوا معنى الارتزاق لتركيا وللدول الداعمة، وفي شرق سوريا يريدون وطناً يتسع للجميع، وتُحفظ فيه الحقوق القومية و الثقافية للأكراد وللأقليات العرقية الأخرى، وبالطبع هناك مظالم اجتماعية وسياسية عديدة.
إنّ الخروج من المأزق الحالي يحتاج إلى تجدد الثورة، في مناطق النظام والمعارضة على السواء، وهذا ينطبق على مناطق الإدارة الذاتية. هذا إن حصل، فإنه على الأقل، سيحرك المياه الراكدة حول الملف السوري، ويعيده كأولوية على الأجندة الدولية؛ لكنه في الوقت نفسه سيعيد للشعب الثقة بنفسه، ومتابعة خطواته، واختبار تجربته من جديد، ويراكم مجدداً في وعيه الجمعي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.