تتواصل عمليات “التسوية” التي يجريها النظام السوري في عدة محافظات سورية، مع إعلان النظام افتتاح المزيد من مراكز التسوية في ريف دمشق، بالتوازي مع عمليات مماثلة في محافظات دير الزور والرقة وريف حلب وقبلها في درعا، في مسعى من النظام لتثبيت وجوده في تلك المناطق والتأكيد على عودته إلى سيطرته الكاملة، بهدف ترويج رؤيته للحل ابتعادا عما يسميه الحلول الخارجية التي تتم برعاية دولية.

والواقع ان عمليات التسوية التي يجرها النظام مع معارضيه والمناطق الثائرة عليه، ليست جديدة، وكانت سابقا تأتي بعد حصار وعمليات عسكرية تنتهي بتفريغ المدن المحاصرة من جميع المسلحين والرافضين لشروط يفرضها النظام ومن ورائه حلفاؤه الروس، كما حصل في أحياء حمص القديمة عام 2014، وأرياف دمشق في 2016، ثم أحياء مدينة حلب الشرقية في نفس العام، وبعدها الغوطة الشرقية ودرعا وجنوب دمشق عام 2018.

وكان النظام بدأ بالترويج للتسويات في وقت مبكر، عبر استحداث وزارة تحمل اسم “المصالحة الوطنية” منتصف العام 2012، ومن ثم إلغاؤها بعد عدة سنوات، حيث جند الكثير من الشخصيات الموالية لها، من رجال الدين ووجهاء ومخاتير وتجار، لتسويق تلك التسويات.

 أما اليوم فتشمل التسويات مطلوبين في مناطق سيطرة النظام السوري ودون عمليات عسكرية منظمة، أو في مناطق متداخلة مع سيطرة قوات أخرى كـ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمال شرقي سوريا. ووفق الناطق باسم “لجان المصالحة” التابعة للنظام، عمر رحمون، فإن مسار التسويات سيبقى مستمرا في عموم البلاد، وصولا إلى محافظة إدلب.

 وبعد دخولها إلى سوريا عسكريا عام 2015، شجعت روسيا التوجهات الأمنية لدى النظام لتحقيق أنماط من “المصالحات” المحلية بهدف طرح المناطق المستعادة كنموذج محلي لتسوية شاملة، بما يعكس رؤية النظام لآليات حل النزاع وفق منظوره، والقائمة على مراحل تبدأ أولا بإنجاز تسوية مع الفصائل المقاتلة تحت الحصار والضغط العسكري، تقود لسيطرته العسكرية على الأرض، ومن ثم تطوير هذه العملية إلى سيطرة كاملة أمنية ومجتمعية واقتصادية، وصولا إلى استعادة الوضع إلى ما كان عليه تماما قبل عام 2011، بما يفضي في المحصلة إلى إعادة تأهيل النظام وتعويمه دوليا، ما دام قادرا على حل مشاكله بنفسه مع مجتمعه المحلي، والاستغناء تاليا عن “الحلول الخارجية” المستندة إلى قرارات دولية، خاصة مفاوضات جنيف المتعلقة بكتابة دستور جديد للبلاد.

والتسويات الجديدة التي بدأها النظام في محافظة درعا نهاية العام الماضي، تتشابه في شروطها

 وتشمل المطلوبين للفروع الأمنية بقضايا أمنية، أو المطلوبين بقضايا جنائية بناء على تقارير أمنية، إضافة إلى المنشقين عن جيش النظام، على أن يلتحقوا بقطعاتهم العسكرية بشكل فوري، والمتخلفين عن الخدمتين الإلزامية والاحتياطية. وفي المقابل، يلتزم النظام بوقف “إذاعات البحث” الصادرة بحق المطلوبين وتتم إزالة أسمائهم من الحواجز.

وقد تولى هذه التسويات بشكل أساسي جهاز الأمن العسكري، الأكثر قسوة في التعامل مع المدنيين،، فيما يشرف على الموجة الثانية من التسويات، اللواء، حسام لوقا، رئيس “إدارة المخابرات العامة”، الذي أشرف على تسويات درعا، وقبل ذلك في ريف حمص الشمالي والمناطق المحيطة بريف العاصمة دمشق، حتى بات يطلق عليه اسم “مهندس صفقات التسوية”، بالرغم من انه لم يكن للوقا الذي ولد في منطقة خناصر بريف حلب الجنوبي، أي ظهور إعلامي منذ عامين، ليتصدر اليوم الواجهة بصورة مفاجئة، وكانت فرضت عليه عقوبات أميركية وأوروبية.

وكان اللافت انتقال التسويات إلى مناطق غرب نهر الفرات حيث الاحتكاك مع مناطق سيطرة “قسد” والقوات الأميركية المنتشرة هناك، وهو ما أثار تساؤلات حول مدى القبول الأميركي بعودة سيطرة النظام على المدى الأبعد على تلك المناطق، ضمن تفاهمات مع روسيا وبتنسيق مع “قسد” في حال قرر الأميركيون الرحيل عن المنطقة.

ولا شك أن “التسويات” هناك تندرج ضمن الإستراتيجية الروسية، للتوغل أكثر في الضفة الغربية لنهر الفرات، وخاصة في المدن الثلاث: دير الزور، والميادين، والبوكمال، برغم ان هذه المناطق لا يوجد فيها عموما عناصر منشقين أو كانوا سابقا مع فصائل المعارضة، حيث 

سيطرت قوات النظام على هذه المناطق بعد عمليات عسكرية ضد تنظيم “داعش”، وليس ضد تشكيلات المعارضة. وقد يكون من بين أهداف النظام وروسيا زيادة نفوذهما على حساب الميليشيات الإيرانية المسيطرة هناك.

 ومع الرفض الشعبي عموما لهذه التسويات خاصة في محافظة الرقة، مدد النظام التسويات هناك بهدف جذب الشبان من مناطق تحت سيطرة “قسد”، ومحاولة سحب البساط الشعبي من تحتها والتجييش الشعبي ضدها، بين أبناء العشائر العربية، استغلالا للغضب الشعبي والنقمة على بعض ممارسات “قسد”. ويعتمد النظام على التهويل الإعلامي لتعويض الفشل في جذب نسبة كبيرة من أبناء تلك المناطق، حيث تتحدث وسائل إعلام النظام يوميا عن إقبال واسع من الأهالي على التسويات برغم أن معطيات الواقع تجافي ذلك، حيث أغلب العشائر العربية تعارض النظام ولا تتوق لعودة تسلط أجهزته الأمنية على رقابها.

 ورغم ذلك، فان النظام لا يبالي بمدى الإقبال الشعبي على هذه التسويات، لأن هدفه هو التسويق الإعلامي لها داخليا وخارجيا لإظهار انه يملك الأرض والشرعية، والظهور بمظهر المنتصر في الصراع، وأنه قادر على منح العفو لمعارضيه.

 والواضح أن النظام السوري، يسعى من خلال هذه التسويات في المناطق المحاذية لسيطرة قسد إلى السيطرة على السكان المحليين في تلك المناطق بما فيها الخاضعة لسيطرة قسد، كونه لا يستطيع السيطرة عليها عسكرياً، بسبب وجود التحالف الدولي، من خلال تفكيك الكتلة السكانية في المناطق الخاضعة لها، وإيجاد كتلة سكانية تتبع له، إضافة إلى الحد من حالة الخوف والعدائية له من المجتمعات المحلية والتي تتخوف من عمليات انتقامية قد يقوم بها النظام في حال دخوله للمنطقة، وكل ذلك  قد يشكل ورقة ضغط على قسد والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ويهدد بسحب البساط من قسد التي تحاول تصدير نفسها ممثلاً عن المجتمعات المحلية، وهذا يؤثر بشكل كبير في مشروعها للإدارة الذاتية، بحيث يعيدها إلى ممثل للكرد فقط، وليس عن مكونات متنوعة قومياً وجغرافياً.

وفي بقية المناطق لم يكن للتسويات أي أثر إيجابي على السكان، حيث تتواصل عمليات الاغتيال والفوضى الأمنية في محافظة درعا، ولا يثق الأهالي بوعود النظام، خاصة لجهة الإفراج عن المعتقلين من أبناء المحافظة، أو عدم اعتقال من يجرون تسويات، وهو ما لم يلتزم به النظام في الحالتين، فضلا عن مواصلة إهمال مناطقهم اقتصاديا وخدميا. أما في ريف دمشق، فقد جاءت التسويات الجديدة بعد انشقاق العديد من أبناء المنطقة ممن عقدوا تسويات سابقا، بسبب زجهم في مناطق الاشتباك بريف إدلب والبادية، ويستهدف النظام اليوم استعادتهم إلى صفوف قواته، فيما شهدت جميع المناطق التي تم التوصل إلى اتفاقات التسوية فيها، مثل الغوطة الشرقية وجنوب دمشق، اعتقالات للعديد من الرجال والنساء. كما أجبرت الأجهزة الأمنية المجتمع المحلي على تقديم معلومات مفصلة عن أقاربهم أو معارفهم داخل سوريا وخارجها، خاصة من قوى المعارضة أو الناشطين أو منظمات المجتمع المدني، بهدف بناء وتوسيع قاعدة بيانات مفصلة عن السكان، مما يسمح بتوسيع حملات الاعتقال في وقت لاحق.

وفي المحصلة، فان هذه التسويات محكومة بالفشل، ذلك أنها لا تنتزع عوامل الصراع، مثل بقاء النظام السياسي والهيمنة الأمنية، ومنع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، وتقييد الحريات. كما أنها تسهم في ظهور انقسامات مجتمعية بين الناس أنفسهم، إذ عادت طبقة المؤيدين لتظهر بينما البقية محكومين بالخوف من الأجهزة الأمنية والعمل السياسي والانخراط في أي عمل مدني. وبالتالي، فان هذه التسويات تعيد فقط ترسيخ سلطة الأجهزة الأمنية بوصفها الجهة الوحيدة التي تمنح وتأخذ (العفو والاعتقال) والقانون ما تقوله هذه الأجهزة وشبكاتها، والتي يحدد بواسطتها المواطن حدود المسموح والممنوع، مع ما يعني ذلك من إعادة الاعتبار

 لشبكات النظام القديمة المتحكمة في حياة الناس، من فرق حزبية ومخاتير ووسطاء محليين ومنتفعين ورجالات يعتمد عليهم النظام في بعض القضايا المحلية.

 وأثبتت معظم الدول التي شهدت صراعات أن التسويات الصغيرة المحلية، خارج التسوية السياسية الكبرى، لا يمكن البناء عليها، ولن تؤسس لبناء سلم أهلي ومصالحة وطنية، خاصة مع العجز الاقتصادي المتواتر للنظام والذي حد من قدرته على تقديم الخدمات الأساسية للسكان ويجعل حكمه قائما فقط على العصا بدون أي جزر يقدمه للسكان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.