بات المشهد الاقتصادي السوري “مرعب” إن جاز التعبير؛ حيث لم يعد هناك خلال السنوات الماضية أية إدارة مركزية تحكم الاقتصاد السوري، حتى فقدت حكومة دمشق أدواتها الإدارية المركزية.

في غضون ذلك يكثر الحديث عن الدور الرئيسي الذي تولته شخصيات متنفذة في الساحة الاقتصادية. حتى باتت تلك الشخصيات التي أفرزتها الحرب ضمن مسمى بات معروفا وهو “أمراء الحرب”، والذين يدورون في غالبيتهم ضمن فلك التيار الاقتصادي لأسماء الأخرس، زوجة الرئيس السوري بشار الأسد. حيث يرى مراقبون أن هذه الوجوة الجديدة تعود امتيازاتها الاقتصادية لمصلحة زوجة الأسد.

بينما يزداد التساؤل حول ما إذا كان ما يقر من سياسات اقتصادية رسمية، يهدف فعلا الى تعميم الفقر على الشعب السوري، لا سيما بعدما أصبح المستفيدون من امتيازات الاقتصاد السوري هم أمراء الحرب الذين شكلوا نخبا اقتصادية جديدة، وانضم إليهم العديد من الفئات التي انخرطت في اقتصاديات الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر.

جذرية إعادة التشكيل

أما أغلبية العاملين كموظفين أو مياومين، الى جانب الطبقة القديمة من المستثمرين والتجار والصناعيين، فقد خسرت بشكل حاد نتيجة تدهور مقومات الاقتصاد الناتج عن ارتفاع تكاليف الإنتاج وغياب الاستقرار وحكم القانون، بالإضافة إلى نقص إمدادات الطاقة.

لقد تم إعادة تشكيل الاقتصاد السوري خلال السنوات الماضية على صعيد البنى والفاعلين، وفق الباحث الاقتصادي، أيمن الدسوقي، إذ لا يوجد اليوم مركز اقتصادي متحكم بكل الجغرافية السورية، بل اقتصاديات مناطق نفوذ، تدار من قبل شبكات اقتصاد الحرب التي شكلتها القوى المتحكمة عبر تحالفاتها الرسمية وغير الرسمية مع تجار وأمراء حرب متنفذين، يركزون استثماراتهم على القطاعات الريعية ذات الربح السريع كالعقار والتجارة والموارد الطبيعية.

لقد قامت دمشق بإعادة تشكيل شبكاتها الاقتصادية عبر استبعاد بعض رجال الأعمال، ودمج أمراء حرب صاعدين ومتنفذين محليا، ومثال ذلك، علي مهنا، القائد العسكري لفوج السحابات/ قوات النمر سابقا، والذي افتتح في بداية أيار/مايو من عام 2021 بحضور رسمي مجمعا تجاريا بمسمى “White center Tartous” في حي الغدير العائد لمجلس مدينة طرطوس، بعد نيل عقد استثماره لمدة 10 سنوات، في خطوة مشابهة لوسيم قطان الذي نال حق امتياز استثمار عدة مجمعات تجارية في دمشق ومنها مول “قاسيون” ومجمع “يلبغا”، وما كان لكل منهما أن ينالا هذه الامتيازات الاقتصادية المتمركزة في قطاعات ريعية، لولا تمتعها بغطاء ودعم من التيار الاقتصادي لأسماء الأسد، مكنهما من إقصاء منافسيهم من رجال الأعمال المستقلين.

يتهدد نمو شبكات اقتصاد الحرب ما تبقى من إنتاج محلي يكافح للبقاء، بحسب الدسوقي، فمصالح هذه الشبكات قائمة على الربح السريع الناجم عن المتاجرة بسلع مستوردة أرخص ثمنا من المنتج المحلي، وما يعنيه ذلك من تدمير مشاريع إنتاجية تسهم في توفير فرص عمل للسكان المحليين، كذلك تثبط الامتيازات الممنوحة لشاغلي هذه الشبكات والحماية الموفرة لهم من عزيمة التجار ورجال الأعمال المستقلين للاستمرار بنشاطهم الاقتصادي، بل وتدفعهم للتفكير بالانسحاب من السوق نتيجة غياب التنافس الحر.

كذلك يسهم تنامي شبكات اقتصاد الحرب للقوى المتحكمة في ربط المزيد من السكان المحليين بمنظوماتهم الاقتصادية، وما يعنيه ذلك من تعزيز هيمنتها وتجذرها محليا.

منذ منتصف عام 2011، نما دور “الشعبة الأمنية” وتوسعت صلاحياتها وانتشارها الجغرافي، وأصبحت لاعبا مؤثرا في اقتصاد الحرب، وشكلت حلقة وصل بين ماهر الأسد وبين مجموعة من رجال الأعمال الذين يديرون أعماله التجارية، توظف أرباحها فيما سمي “دعم المجهود الحربي”، ودفع رواتب العناصر والمتطوعين، ونفقات ميليشيات متعاونة مع جيش النظام في مختلف المحافظات، بالإضافة إلى القيام بمبادرات مجتمعية لدعم النظام.

وبحسب تقرير لـ “برنامج مسارات الشرق الأوسط”، استطاعت “الفرقة الرابعة” خلال سنوات الحرب السورية توسيع شبكتها الاقتصادية وجمع أموال طائلة عبر أنشطة “اقتصاد الحرب” التي قامت بها بالتعاون مع وسطاء محليين أطلق عليهم لقب “متعهدين”، من خلال عدد من الأنشطة، منها خدمات الحراسة والحماية المأجورة لشاحنات النقل التجاري، وإتاوات مرور البضائع والأفراد بين المناطق السورية عبر الحواجز الرسمية وغير الرسمية.

إلا أن النشاط الأبرز كان تجارة الحديد والخردة ونهب الممتلكات، وكان هذا النشاط مهما جدا إلى درجة أن “الشعبة الأمنية” أطلق عليها لقب “شعبة أمن المعادن”، لحرصها على استثمار مناجم المعادن والخردة من المدن والأحياء.

فئة محددة

لطالما كان الاقتصاد في سوريا محصورا بيد فئة محددة، وخاصة القطاعات الاقتصادية الكبيرة والمهمة، حيث يحتكر المقربون من السلطة والمحسوبين عليها ذلك، وخلال سنوات الحرب، ترسخت هذه الحالة ولكن بعد أُعيد تشكيل جهات اقتصادية معينة تابعة لمجموعة أشخاص، باتوا يتحكمون بمفاصل الاقتصاد السوري وفق معايير معينة تحددها توازنات السلطة الحاكمة وحلفائها وكيفية ترتيب الأوراق الاقتصادية.

ودرجت الحكومة السورية، خلال السنوات الماضية على اتباع سياسة اقتصادية متضاربة في ظاهرها، سببت العديد من المشاكل الاقتصادية، وأدت لتدهور الوضع الاقتصادي للمواطن السوري، ولشريحة واسعة من الاقتصاديين وخاصة التجار، لكنها في حقيقة الأمر كانت تصب في مصلحة فئة معينة.

وفي هذا السياق، نقلت صحيفة “الوطن” السورية، عن عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق محمد الحلاق، أن هناك جملة من الإجراءات الاقتصادية غير واضحة وتسهم في تعطيل حركة النشاط الاقتصادي والتجارة واحتكار السوق المحلية من قبل القلة، منها إجراءات تمويل المستوردات التي أدت إلى خروج العديد من المستوردين عن العمل لمصلحة نخبة معينة من المستوردين الذين لديهم ملاءات مالية كبيرة وهي بخلاف ما كان سائدا لسنوات طويلة.

وبين الحلاق، التغير الذي طرأ على طريقة تسديد المواد المستوردة، والتي تحتاج إلى ملاءة مالية كبيرة، على عكس ما كانت في السابق، حيث الاعتماد على العلاقات وسمعة التاجر، وهذا الأسلوب المتبع حاليا هو ما أدى لنهاية العديد من التجار لحساب آخرين.

ويوضح، أن التاجر السوري كان يسدد 20-30 بالمئة من قيم البضائع التي يود توريدها إلى السوق المحلية ويحصل على مهلة لاستكمال تسديد مستورداته، وكل ذلك كان يقوم على الثقة والسمعة وحجم النشاط التجاري للمورد.

أما حاليا، وبعد القرارات الجديدة، أصبح المستوردون ملزمين، بتسديد قيم مستورداتهم لشركات الصرافة بالليرة السورية حتى يسمح لهم بتخليص مستورداتهم من المرافئ وإدخالها، لذلك يضطر بعض المستوردين لتسديد قيم هذه المستوردات مرتين مرة لشركة الصرافة التي يتعامل معها ليحصل على إشعار بالتسديد بالليرة السورية يتمكن من خلاله من تخليص بضائعه في المرافئ، والمرة الثانية تسديد قيم هذه المستوردات سلفا للشركة التي ورد منها بضائعه ليتمكن من شحن هذه البضائع وتسريع عملية نقلها ووصولها للسوق المحلية، على أن يستعيد ما سدده لهذه الشركة بعد أن تقوم شركة الصرافة بتحويل قيم المستوردات لهذه الشركة وهو ما بات يتطلب ملاءة مالية عالية تمكن المستورد من تأمين سيولة لكل هذه الإجراءات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.