يعود الحديث عن مستقبل سوريا عند كل تطور إقليمي أو دولي، حتى لو كان حدثا بعيداً جغرافيا، الأمر الذي يجعل من طرحه على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الدولية المفروضة على روسيا أمرا طبيعيا، فروسيا الدولة الأقوى في سوريا والأكثر نفوذا وتحكما بمصيرها، وعليه فأي حدث يؤثر عليها إيجابا أو سلبا سوف يفرض تبعات على دورها في سوريا كذلك. لكن لا تتحكم روسيا وحيدة بجميع الأوراق السورية، بل تتقاسمها مع قوى أخرى أبرزها إيران وتركيا وأمريكا، فعادة ما يشار إلى ارتباط الحل السياسي في سورية بمدى توافق واتفاق هذا الرباعي، بغض النظر عن حجم تأثير ودور كل منهم الآن.
وعليه ما هي النتائج المتوقعة في سوريا لارتدادات الأزمة الأوكرانية والتطورات الدولية الموازية؟
في البداية لا يصح اعتبار العلاقة بين الأزمتين الأوكرانية والسورية علاقة طردية، بمعنى إن هزيمة روسية في الأولى تقود إلى هزيمتها في الثانية، بل يمكن أن تؤدي هزيمتها في الأولى إلى تشديد قضبتها على الثانية، بدافع الانتقام أو التمسك بسوريا، وربما نتيجة مساومة دولية ما. والعكس بالعكس أي قد يؤدي انتصارها في الأولى إلى انحسار دورها في الثانية نتيجة توافق دولي ما أو بحكم حاجتها لحشد طاقاتها من أجل حماية انتصارها في الأولى. وعليه يستحيل منذ الآن تحديد تبعات الأزمة الأوكرانية على سوريا قياسا لأوضاع الطرف الروسي فقط، وهو ما يحيلنا إلى تسليط الضوء على دلالات وتبعات الأزمة الأوكرانية العامة أولا ومن ثم على إمكانية استثمارها في سوريا ثانيا.
لم يكن ربط الأزمة الأوكرانية بالتحذير من خطر حرب عالمية ثالثة مجرد تضخيم إعلامي، رغم محدودية هذا الخطر وفق المؤشرات الراهنة، بل هي صراع على المكانة العالمية بين روسيا الراغبة في فرض ذاتها كمركز عالمي لا يقل أهمية عن المركز الأمريكي أو على الأقل عن المركز الأوروبي، وبين رغبة أمريكا وفرنسا وألمانيا في تفنيد المزاعم والأحلام الروسية. وإلا كان من الممكن التوصل لحل سياسي بشأن أوكرانيا يجنب الطرفين أو المعسكرين تأجيج الأزمة، طبعا تتحمل روسيا المسؤولية الأخلاقية الكاملة عن غزوها أوكرانيا، في حين تشاركها أمريكا والاتحاد الأوروبي مسؤوليته السياسية.بينما يصعب على الطرفين إيجاد حل وسطي بشأن مكانة روسيا العالمية دون حسم ذلك ميدانيا، فقد راوغت الولايات المتحدة ومن خلفها دول الاتحاد الأوروبي كثيرا في هذا الشأن، بين احترام الرغبات الروسية كما في الأزمة السورية وفي التغاضي عن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وبين لجم رغباتها ومصالحها كما في ليبيا والعراق وأرمينيا، فالمساومات في العلاقات الدولية أمر شائع كثيرا يمكن ملاحظته في كل زمان ومكان.
إذا لم يرغب أو يتمكن المعسكران المتنازعان في الأزمة الأوكرانية من تأجيل حسم مكانة روسيا العالمية، بسبب تقلص مجال المناورة بخصوص هذا الأمر، فقد باتت قوة روسيا وبدرجة أكبر الصين مصدر خطر حقيقي يهدد مصالح الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في أكثر من مكان، بل هناك بعض المؤشرات التي تتكهن بقدرة الصين على إزاحة أمريكا والحلول عوضا عنها في غضون عقد من الزمن. لذا بات مواجهة خطر القوى الصاعدة مسألة غير قابلة للتأجيل في حسابات أمريكا ومن خلفها أوروبا، كما لم تفلح محاولات جذب روسيا للمعسكر الأمريكي، فروسيا لا ترغب بلعب دور القوة الثانية كما في الدور الأوروبي حاليا مع أمريكا أو الثالثة طبعا، بل ترغب بتفردها أو مشاركتها مع طرف ثاني لدور المركز الرئيسي، بمحاكاة للوضع السائد في مرحلة الحرب الباردة، لذلك نجد إصرار روسي على رفض الاعتراف بالتفوق الصيني أو أمريكي على حد سواء، على نقيض السياسات الأوروبية التي تقر بمكانة الولايات المتحدة الأمريكية المتفوقة عليه.
من كل ذلك يمكن القول نحن في خضم مرحلة تعيد رسم خارطة العالم انطلقت بشكلها العلني على حدود أوكرانيا، لكنها مرحلة طويلة زمنيا وذات مطبات وتقلبات ومحطات وساحات عديدة ومتعددة بل ومتباعدة، رغم نجاح المعسكر الأمريكي أو الغربي في محاصرة روسيا اليوم وعزلها ووسمها بالدولة المارقة وربما الإرهابية مستقبلا؛ وصف صحيح ينطبق على أمريكا أيضا؛ فالصين لم تتدخل حتى الآن بشكل مباشر أو غير مباشر، كما قد نشهد صراع روسيا- غربيا في مكان آخر، إن لم يتم استنزاف قدرات روسيا في أوكرانيا.
وعليه قد تصبح سوريا أو محيطها ساحة من ساحات النزاع وقد تهمل كليا أيضا، لكن السمة الأهم في هذا النزاع تتمثل في طبيعته الاستنزافية والشمولية، التي تحاكي أجواء الحربين العالميتين السابقتين، حتى لو لم يتحول النزاع لحرب عالمية ثالثة.
فكما نلحظ جليا في الأزمة الأوكرانية، لا ينحصر الصراع بشكله العسكري فقط، بل هناك صراع اقتصادي أشد ضراوة وأخر إعلامي وكذلك ثقافي وأخيرا سياسي، كما هناك تعبئة دولية تفرض على دول العالم تحديد مواقف حاسمة ومنسجمة من هذا الصراع، وفق القاعدة التي أعلنها بوش بعد أحداث سبتمبر ” إما معنا أو علينا”، وهو ما يجعله صراعا عالميا حتى لو لم يتحول إلى حرب عالمية.
للصراع العالمي أثمانه الباهظة على جميع دول العالم، وإن اختلفت التكلفة بين دولة وأخرى، فهو صراع استنزافي بالمجمل، يستنزف طاقات وقدرات جميع الدول أو على الأقل غالبيتها، وهو ما قد يطال استنزاف قدرات سائر الاحتلالات الفاعلة في سوريا، رغم انحصاره اليوم باستنزاف روسيا فقط أو روسيا وأمريكا بدرجة أقل. فالصراع في بداياته واحتمالات توسعه وامتداده أكبر من انحساره بغض النظر عن مآل الأحداث في أوكرانيا حاليا، والحياد في الصراع العالمي مسألة معقدة وصعبة تاريخيا، بل تكاد تكون مستحيلا اليوم.
وفق النظم الاقتصادية المسيطرة والمتشابكة الذي يربط الاقتصاديات المحلية بالاقتصاديات المركزية بل ويجعلها تتحكم به، وهو ما يفرض عليها اصطفافا واضحا وجليا اقتصاديا وسياسيا بل وربما عسكريا في بعض الحالات، الأمر الذي يقود إلى استنزاف الدول عاجلا أم أجلا، فالأزمات الاقتصادية سوف تكثر وترهق الدول لاسيما الطرفية منها، والموارد سوف تشح وتصبح موضع ابتزاز سياسي علني من قبل المعسكرين الشرقي والغربي، والنزاعات العسكرية سوف تكثر هنا وهناك، ما يؤدي إلى إضعاف مجمل دول العالم.
لن ينحصر استنزاف الدول على ما سبق بل سوف يطال بنيتها الأمنية الداخلية، أي قدرتها على ضبط المجتمع وأسره، طبعا قد نشهد في الأشهر القادمة صعودا كبيرا في الممارسات القمعية نتيجة قلق الأنظمة من مواجهة تصدعات داخلية تكبلها خارجيا، كما في مسارعة روسية إلى قمع الاحتجاجات الداخلية على غزو أوكرانية.
يسعى بوتين إلى إصدار قانون يجرم معارضة الغزو سوف يصدر خلال بضعة أيام؛ لكنه تصاعد مؤقت لن يدوم كثيرا نتيجة طول مدة الصراع العالمي وتزايد المخاطر الأمنية، ما سوف يشتت القوى الأمنية ويرهقها بل ويستنزفها، الأمر الذي يمنح الشعوب هامشا أفضل للعمل على إحداث تغيير جذري يمس مجمل بنية النظم السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
الأمر الذي يتطلب أولا نجاح الشعوب في تحديد أهدافها جيدا وتحديد سبيلها لتحقيقها، أي برنامجها المتكامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فنجاح الشعوب في بناء برنامجها الوطني التقدمي والحضاري، سوف يجنبها المعارك الجانبية المدمرة، كما في البرامج أو التوجهات الطائفية والعرقية العنصرية التي تضرب وحدة الكتلة الاجتماعية في مقتل.
طبعا لا تعني وحدة الكتلة الاجتماعية تماثلها وتطابق توجهاتها كما في خطاب النظم الاستبدادية، بقدر ما يعني الحفاظ على إطار وطني وإنساني جامع لها يحتوي ويقر بالاختلافات السياسية والثقافية والفكرية.
ينطبق الحديث السابق على الوضع السوري أيضا رغم تعدد العقبات الكامنة فيها، لاسيما بما يخص تعدد قوى الاحتلال وسلطات الأمر الواقع ، وأيضا بما يخص تفكك البنية الاجتماعية السورية، جغرافيا وترهل أو غياب إطار وطني وإنساني يضمها ويجمعها ويوحدها، وهو العقبة الأهم في الوقت الراهن التي تتطلب العمل على حلها وتجاوزها كي يتمكن الشعب السوري من استثمار تداعيات الصراع العالمي أولا، ومن تحقيق أهداف وتطلعات الشعب السوري ثانيا. في النهاية علينا أن ندرك أن الصراع العالمي سوف يؤمن شروط التغيير الموضوعية أي الخارجية تحديدا، دون أن يضمن نجاح التغيير، فنجاحه منوط بنجاح الشعب السوري في صناعة شروط التغيير الذاتية أو الداخلية المتمثلة في فرض إطار وطني جامع وصياغة برنامج التغيير الشامل وبناء إطار تنظيمي يقود عملية التغيير ويوجهها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.