ينطلق الخطاب الإعلامي العربي السائد في توصيف البيئة الدولية الراهنة من فرضية مفادها أن ما يجري حالياً هو الانتقال من العولمة أي أحادية القطب وعصر الهيمنة الأميركية المطلقة إلى مرحلة تعدد الأقطاب والتي تبدو فيها روسيا والصين قوى عظمى جديدة تتحدى الهيمنة الأمريكية وتؤسس لعصر جديد في السياسة الدولية.

بناء على هذه الفرضية المبسطة للصراعات الدولية ينقسم رواد الإعلام والمنظّرين على شاشات الإعلام العربي بين مضخم للدور الروسي والصيني كدليل على الانهيار الحتمي للهيمنة الأمريكية وبين من يعتقد بأن أمريكا رغم انسحاباتها المتتالية من منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص ما زالت قوة دولية مهيمنة وحيدة وأن الأدوار الروسية والصينية في العالم وخاصة في الشرق الأوسط تتم بموافقة ومباركة أمريكية.

 غني عن القول بأن التطبيل والتزمير على شاشات الإعلام العربي لصالح هذه القوة الدولية أو تلك يستند على وهم الاعتقاد بأن انتصارها سيشكل عامل أساسي لانتصار النظم السياسية العربية المرتبطة بهذه القوى.

 تقع هذه الرؤى المبسطة بجملة من الأخطاء في القراءة الإستراتيجية لعل أبرزها هو خلطها بين مقولة تعدد الأقطاب Multipolarity ومقولة اللا قطبية Nonpolarity.

منذ أكثر من عقد من الزمان تتحدث الأدبيات الأكاديمية الدولية عن مرحلة اللا قطبية وليس عن مرحلة تعدد الأقطاب لتوصيف ما سيجري حين تراجع هيمنة القطب الواحد الأمريكي على السياسة الدولية، والتي امتدت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى السنوات الأخيرة الماضية.

الفارق الأساسي بين اللا قطبية وتعدد الأقطاب، أن مقولة تعدد الأقطاب كانت توصّف عالم تحكمه الدول القومية فقط كفواعل وحيدة في السياسات الدولية والتي تملك توازن قوى استراتيجي إلى حد ما، مع وجود مشاريع إيديولوجية سياسية واستراتيجية متناقضة أو متوافقة بين هذه القوى.

خير مثال على ذلك هو الوضع الدولي إبان الحرب العالمية الأولى والتي نجد فيها دول عديدة كانت فاعلة على الساحة الدولية مثل تركيا وروسيا القيصرية (ثم الاتحاد السوفياتي) وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.

 في ذلك الزمن لم يكن هناك مؤسسات دولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومجلس الأمن ومختلف مؤسسات الأمم المتحدة، وكذلك الشركات العابرة للقومية والتي يتشكل رأسمالها من جنسيات عديدة مختلفة، أو منظمات وميليشيات مسلحة عابرة للحدود مثل بلاك ووتر الأميركية وفاغنر الروسية.

 أما مقولة اللاقطبية فهي توصّف عالم تتوزع فيه القوة ليس فقط بين دول قومية كلاعب وحيد في الساحة الدولية، بل كذلك بين الدول القومية ونوعين آخرين من الفواعل: فواعل ما فوق مستوى الدولة مثل: الشركات المتعددة الجنسية والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية،وفواعل ما دون مستوى الدولة: مثل المنظمات الإرهابية والحركات المسلحة الانفصالية والتي باتت تلعب دوراً في التأثير على الاستراتيجيات الإقليمية والدولية.

 اللاقطبية إذا هي تدشين لانتهاء احتكار القوة من قبل دولة واحدة أو دول عديدة وتمثل عالم متعدد فوضوي القوى، بحيث تملك مثلا شركات متعددة الجنسية أو المنظمات الدولية مقدار كبير من القوة يتجاوز القوة التي تملكها دول عديدة.

 كما أن الفواعل ما دون مستوى الدولة كالتنظيمات المسلحة أو الحركات التي تسيطرعلى أقاليم جغرافية بقوة الأمر الواقع دون أن يكون لها صفة الدولة القومية هي فواعل مهمة، توضّح دورها بشكل كبير في العقد الأخير في سوريا وأفغانستان والعراق واليمن، بحيث باتت هذه القوى تلعب دوراً ليس فقط في الصراعات المحلية، بل كذلك أدواراً إقليمية ودولية مؤثرة.

 التمييز بين المقولتين إذا هو عميق ودقيق للغاية، وغياب القدرة على مثل هذا التمييز سيؤدي إلى رسم استراتيجيات وتطوير رؤى خاطئة للدول العربية. فبعض هذه الدول يعتقد بأن الهيمنة الأمريكية تنهار تماماً وأن روسيا والصين قوى عظمى صاعدة جديدة ستملأ الفراغ الناتج عن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط.

 من خلال تجاهل اللاقطبية الدولية فإن هذه الرؤية تغفل فكرة أن الميليشيات ما دون مستوى الدولة القومية مثل (داعش، هيئة تحرير الشام، الحوثي، حزب الله ،الحشد الشعبي…الخ) أو الشركات الأمنية الدولية والشركات الرأسمالية متعددة الجنسية، كذلك الأمر المنظمات الدولية التي تنشط تحت غطاء انساني واقتصادي، كلها فواعل تنشط وبقوة وتؤثر بشكل حاسم على مجرى الأحداث وعلاقات القوة ضمن منطقة الشرق الأوسط.

 إن الاعتقاد بأن التراجع الأميركي يعني حتمياً ملئ هذا التراجع عبر دول كبرى أخرى فقط كروسيا والصين، هو وهم استراتيجي يعود إلى فقر الفكر السياسي العربي في مجال نظريات العلاقات الدولية، ولكون السياسات الخارجية في الدول العربية لا تصاغ بناء على المصالح الوطنية، بل بناء على التبعية للمراكز الدولية التي تدعم هذه الأنظمة، ناهيك عن غياب أي مشروع استراتيجي خاص للدول العربية.

الاستراتيجيين الأمريكيين مثل برجنسكي وريتشارد هاس تنبؤوا منذ زمن بعيد بحتمية انهيار الدور الأمريكي الأحادي في العالم وانتهاء زمن العولمة.

أسباب هذا الانهيار متعددة ومتشابكة فمنها ما هو استراتيجي يتعلق بأن حقائق التاريخ والجغرافية لم تنتج عبر التاريخ قوى عظمى من خارج أوراسيا.

فالهيمنة الأميركية الأحادية كقوة من خلف المحيطات على السياسة الدولية تعتبر من هذا المنظور التاريخي عامل استثنائي في التاريخ البشري.

 ومنها ما هو اقتصادي يرتبط بازدياد حجم الدين العام الأميركي، وتعقد تركيب رأس المال الدولي والذي أدى لظهور مراكز اقتصادية دولية متعددة الجنسية، مع تراجع الميزات النسبية للاقتصاد الأميركي لتنحسر في مجال صناعة السلاح فقط، إضافة لتضخم الاقتصاد الورقي على حساب الاقتصاد الحقيقي الإنتاجي، ومنها ما هو مرتبط بظهور تكتلات سياسية إقليمية جديدة مثل منظمة شنغهاي وقوى سياسية جديدة مؤثرة في أسيا وأميركيا الجنوبية بشكل أساسي.

جميع هذه العوامل المرتبطة بتعقد التطور التاريخي والاقتصادي والسياسي للبيئة الدولية تؤدي بشكل يمكن التنبؤ به إلى تراجع الدور القيادي المنفرد لأمريكا في العالم لكن دون أن يعني هذا انهيار أمريكا بوصفها قوة عظمى قادرة على التدخل وبشكل فعال في الأزمات الدولية لضمان مصالحها.

الإستراتيجيون الأمريكيون يميزون بين تراجع الدور القيادي المنفرد لأمريكا في السياسة الدولية، وبين استمرار دورها كقوة دولية فاعلة ومهيمنة.

 الأمر الأول يبدو حتمي، أما الثاني أي ضمان استمرار دور قيادي مهيمن في السياسة الدولية فهو مرهون حسب المفكرين الأمريكيين الاستراتيجيين بعاملين اثنين بشكل أساسي: الأول ضمان ألا يتم ملأ الفراغ من قبل مشروع قومي وحضاري امبراطوري واحد مثل المشروع الروسي أو الصيني.

 الثاني : ضمان استمرار الهيمنة العسكرية الأمريكية على أوروبا تحديداً والتفوق في مجال القوة العسكرية على مستوى العالم. فيما يخص العامل الأول فإن إحياء المشروع الإسلامي عبر دعم الدور التركي، وإعادة طالبان للسلطة في أفغانستان، والتغاضي عن تمدد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط يمكن النظر لها على أنها ستشكل عامل الصدام الموضوعي ضد المشروع الأرثودوكسي الجديد الذي تقوده روسيا.

 ناهيك عن إلهاء القوى الدولية بصراعات في محيطها الإقليمي ودعم المنظمات والحركات الانفصالية والتي تشكل كيانات أو أشباه دول ضمن الدول ذاتها خاصة في الصين والهند وباكستان.

 كما أن إغراق منطقة الحزام الأوراسي وخاصة دول مثل أوكرانيا جورجيا أذربيجان أرمينيا ودول البلقان بالحروب والأزمات الأمنية ، سيهدد الأمن الأوروبي في الصميم ويضع روسيا وأوروبا وجها لوجه أمام أزمة وجودية،  مما سيعزز من خضوع الاتحاد الأوروبي للناتو، وبقاءه تحت المظلة الأمنية الأمريكية، وسيعيق روسيا عن تطوير مشروعها الامبريالي الجديد.

 وعليه فإن عصر الامبراطوريات وهيمنة الدول القومية قد انتهى، وما يجري حالياً من نزاعات وأزمات دولية هي تعبير عن اللاقطبية الفوضوية والتي ستغير حتى من البنى الداخلية للدول القائمة والمترسخة منذ عقود.

القوة لم تعد حكراً على دول بعينها، والسعي للتوازن الاستراتيجي بين الدول القومية والتي شكلت العمود الفقري الأساسي للسياسات الدولية في القرن الماضي قد انتهى إلى غير رجعة.

إن جميع النزاعات الراهنة سواء في الشرق الأوسط أو في أوكرانيا والنزاعات المتوقع انفجارها قريباً في دول أوروبا الشرقية والبلقان لا يمكن فهمها إلا ضمن الأخذ بعين الاعتبار بأن العالم يعيش مرحلة ما بعد العولمة أي مرحلة اللاقطبية.

في هذه المرحلة لا يمكن اختصار ما يجري بأنه انهيار أمريكي في مقابل تفوق روسي أو العكس. مثل هذا التبسيط لما يجري في البيئة الدولية حالياً سيوقع الدول العربية في أزمات جديدة ومراهنات استراتيجية خاطئة لا سيما أن الدول العربية مثلها مثل أوكرانيا ساحات صراع بين القوى والفواعل المختلفة على الساحة الدولية، فمخاض الانتقال لعصر اللاقطبية يتم على أراضي هذه الدول وستتحمل شعوبها الجزء الأكبر من فاتورة هذا الانتقال.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.