ما بين التهديدات والضرب هنا وهناك، تحرص تركيا على البقاء في قلب اللعبة الدولية، مخاطرة بإثارة غضب حلفائها. فمن الحرب في أوكرانيا والممرات البحرية، وتوسع “الناتو”، والتوغل في العراق وسوريا، وصولا إلى التوترات مع اليونان المجاورة، نجد أنقرة حاضرة للغاية في جميع القضايا الإقليمية، من خلال رئيسها، رجب طيب أردوغان. وفي مواجهة الوضع الأوكراني، على سبيل المثال، يحتفظ أردوغان بموقف غامض، بين شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا والعلاقات التجارية مع روسيا. 

ومن المتوقع أن يزور رئيس الدبلوماسية الروسية، سيرجي لافروف، اليوم الأربعاء، تركيا بشكل خاص لمناقشة إنشاء “ممرات” في البحر الأسود لتصدير الحبوب الأوكرانية. وستكون هذه الزيارة الثانية لوزير الخارجية الروسي، بعد محادثات أنطاليا في آذار/مارس الماضي، وهي الزيارة الوحيدة التي التقى فيها وجها لوجه حتى الآن مع نظيره الأوكراني منذ بداية الحرب.  

فتركيا التي تدين الحرب، لكنها لا تطبق العقوبات الغربية وتحافظ على الحياد الاقتصادي! كما أنها باعت طائرات عسكرية بدون طيار لأوكرانيا، لكن لديها أيضا علاقة معقدة للغاية مع روسيا. وستشكل معارضة موسكو مشاكل كبيرة لأنقرة: أولا من وجهة نظر عسكرية، لأن الروس يسيطرون على جزء من سوريا، ولكن أيضا من حيث تجارة المواد الغذائية ونقل الغاز والسياحة، بحسب ما أفاد به تقرير لصحيفة “لوتمس” السويسرية، وترجمه موقع “الحل نت”.

علاوة على ذلك، فإن طريقة أنقرة في إدارة علاقاتها الجيوسياسية اليوم هي عكس سياستها الخارجية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، عندما شكلت تركيا ما يسمى بالقوة الوسطى وكانت جزءا من الكتلة الأوروبية. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهرت مجموعة جديدة من البلدان، بما في ذلك البرازيل والهند وتركيا. وعلى الرغم من اختلافهم الشديد عن بعضهم البعض، يمكن العثور على أنماط معينة في سياساتهم، تتمثل في زعزعة استقرار النظام الدولي، ومعارضة القوى العظمى، والبحث عن مكانة. وتعتبر تصرفات تركيا اليوم جزءا من هذه الديناميكية، بحسب مراد أونصوي، وهو أستاذ مشارك في العلوم السياسية ومتخصص في التاريخ التركي وعلاقات بلاده مع أوروبا. 

من جهة أخرى، فإن دور تركيا كوسيط بين أوكرانيا وروسيا مهم بالنسبة للغرب! ففي شهر آذار/مارس الماضي، التقى وفدا البلدين في أنطاليا. وحتى لو مارست الولايات المتحدة ضغوطا على أنقرة وفرضت عقوبات، فإن الدولة التركية لن تتخذ موقفا أقوى من موقفها الحالي، بحسب أونصوي. وقد بدأ الأمريكيون بالفعل في فرض الكثير من العقوبات على تركيا، ولا يمكن أن تزداد الأمور سوءا. علاوة على ذلك، لم يسمع صوت أنقرة عندما أعربت، على مدى السنوات الثلاث الماضية، عن خيبة أملها من “الناتو” والاتحاد الأوروبي. واليوم، ليس لديها ما تخسره، حيث لا يمكن لحلف الناتو التخلص منها بسهولة، كما لا يمكن أن تكون علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي أسوأ. وفي حين لم يكن الأمر كذلك من قبل، فقد قبلت الأجيال الجديدة بالفعل بأنهم ليسوا جزءا من أوروبا. 

تواجه تركيا اليوم صراعا اجتماعيا وحربا بالوكالة. وهذا لن ينتهي في القريب العاجل، حتى أن موسكو أعلنت أن لديها خططا لمنطقة البلقان. وربما مع إضعاف الصراع للاقتصاد العالمي، فإن الدول الأقوى التي لم تتخذ بعد إجراءات، مثل الصين، سترغب في إنهائه. وحتى الآن، كانت أوروبا تتسامح دائما مع تركيا، لأن أردوغان وإن لم يكن مثاليا، فإنه يضمن استقرارا معينا، كما حدث أثناء أزمة الهجرة السورية في العام 2015. 

لكن الحرب اليوم تعيد خلط العديد من الأوراق من جديد. ففي سوريا، ينسحب الجيش الروسي وتحل إيران مكانه. وبالتوازي مع كل هذا، أشادت الولايات المتحدة بخطاب رئيس الوزراء اليوناني، عندما أعلن أنه لن يكون هناك أبدا حل الدولتين لقبرص. وهذه كلها تطورات مهمة جدا. فقد أصبحت اليونان أكثر نشاطا، وهي تشتري اليوم طائرات “إف 35” من الولايات المتحدة. لذا فإنه من الواضح أن تركيا سترغب في إعادة التوازن إلى الوضع في منطقة بحر إيجة.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.