منذ زمن بعيد تحولت العلاقة بين الرجل والمرأة إلى سيد وتابع، علاقة تبدو في ظاهرها أنها علاقة بين شخصين من جنسين مختلفين، إلا أنها تحمل في طياتها بعدا سياسيا، اجتماعيا، مبنياً على الاضطهاد. اضطهاد قد لا يبدو صريحا في بعض الأوقات ولكنه حاضر في طبيعة هذه العلاقة ورمزيتها.

يسعى الرجال إلى تبرير اضطهادهم للنساء بأنهم مضطهدون بدورهم، وهذا يجعل ما تعانيه المرأة شيئا مقبولا ويمكن التغاضي عنه طالما أنها ليست وحيدة. يمكننا استشفاف تدرج الاضطهاد في الأنظمة الاجتماعية والعمل وغيرها، فالرجل المُضطهد سيضطهد النساء حوله ويستضعفهنَّ ويجد ذلك طبيعيا. قبول هذا المبرر هو تجريد معاناة النساء من معناها ووضعها كحالة ضمن منظومة كبيرة من الاضطهاد، وهذا غير صحيح، فالنساء يعانين بسبب جنسهن ولا يمكن أن يتم التغافل عن هذه المعاناة أو وضعها بقالب مع غيرها من أنواع المعاناة، إنها معاناة متفردة تؤثر على المجتمعات وعلى الرجال والنساء الذين يتربون في هذه المجتمعات على حد سواء.

إنها السلطة التي تحكم جميع العلاقات البشرية مهما كانت صغيرة أو كبيرة، والتي باسمها يتم الاضطهاد والإساءة، لا يمكن لأي إنسان أن يحتمل سوء المعاملة لزمن طويل فإما أن ينقلب على صاحبها أو يصبح عبدا خاضعا له بصمت، وهذا ما حدث مع النساء. العجز عن مواجهة جنس كامل يضطهدهن؛ جعلهن خاضعات يملؤهنّ الشك بحقوقهن وينفذن الأوامر لتجنب العقاب، فكيف تحول اضطهاد النساء إلى عبودية محضة، وكيف يتخلصن منها؟.

الاضطهاد كموروث جمعي

“ولدت لعائلة مؤلفة من خمس فتيات وشاب واحد، كان والدي يعاملنا معاملة قاسية جدا، علينا نحن الخمسة العمل في الأرض التي نملكها، كنا نقضي معظم أيامنا فيها، وكان بالإضافة لذلك هناك مواعيد محددة لطعامه، ولا يكلمنا إلا وهو غاضب، لم نعرف معنى الأب الحنون والعطوف، وإن لم نقم بفعل ما يريد كان يعنفنا جسديا، ويعنف والدتي لأنها أخطأت بتربيتنا وفق قوله”.

بشرى سعيد، سيدة في التاسعة والأربعين من عمرها، تتحدث لـ”الحل نت” عن الاضطهاد الذي عاشته هي وأخواتها مع والدهن، وهي التي لم تنج من آثار ذلك عليها حتى اللحظة، وتتابع بالقول “عانيت لوقت طويل مع والدي، ومن ثم مع زوجي الذي تزوجته كما يريد أبي، لا أعرف كيف أصبحت خائفة من أن أعيش”.

إذا ما عدنا لمضطهدي النساء الأقدمين، أولئك الرجال الذين قرروا أو بدؤوا باستصغار النساء والتعامل معهن كمخلوق أدنى مرتبة منهم، لا نعرف بالضبط من فعل ذلك وكيف بدأ بتعنيف النساء وتقييد حياتهن، لكن ذلك العنف والتقييد تحول مع مرور الوقت إلى سلوك راسخ يتبناه الرجال، ويؤمنون بصحته مثل أي فكرة أو إيديولوجيا أو طقس يمارسونه، توريث هذا الاضطهاد وتعليم الرجال الأصغر سنا أن هذا من حقهم أصبح عادة مقبولة، وعرفا اجتماعيا مع مرور الزمن، حيوات كثيرة عاشت هذه المعاناة، حيث وضعت قواعد صارمة للتعامل مع النساء وحيواتهن تناقلتها الأجيال، ثم بدأت تصبح من طبيعة الأشياء، تولد الفتاة تلقن مصيرها هذا دون أن تعرف بأنه يمكنها العيش بطريقة مختلفة، مصائر متشابهة ومتكررة لنساء منعن من أن يكن موجودات، قتلن وواجهن الحرمان، أجبرن على الالتزام بدور واحد، وحتى إن أتقن هذا الدور وقدمنه على أكمل وجه لن ينجون من العنف والخوف.

عبودية طوعية؟

التحول الذي حصل للنساء طال أعماقهن، الجزء الجوهري من إنسانيتهن المتمثل بأن لكل واحدة منهن طموح ورغبات عليها تلبيتها، كل ذلك تمت تنحيته جانبا، لم يعد له مكان لا في عقولهن ولا حتى في كلامهن، الصمت عن هذا الجزء من طبيعتهن الإنسانية جعلهن خاضعات تحكمهن العبودية، يقمن بأعمالهن بقبول تام، معتبرات أن هذا هو المصير الطبيعي لهن، نساء يعملن في المنزل بصمت، يعنفن ويتم التحرش بهن دون أن يتحدثن عن ذلك، يحرمن من حقوقهن البسيطة بالحديث أو التعبير عن ذواتهن، يراقبن في لباسهن وحركتهن.

سجن واسع لكنه ضاغط ومخيف يعشن بداخله، الطاعة والصمت سمة أصبحت عامة لديهن، لازلنا نراها حتى يومنا هذا، أمثلة كثيرة لنساء أصبحن يربين أبنائهن على العنف، ويسكتن عن عنف أزواجهن، نساء مقتنعات بأن لا حق لهن في الخروج أو اختيار شريك حياتهن، وأن في ذلك خروج عن الآداب والأخلاق، لا يكملن تعليمهنَّ بل يبحثن عن الزوج المناسب، كل هذه مظاهر طاعة لأوامر الرجل وحالات امتثال للسائد، نسرين عيد، سيدة تزوجت في عمر الخامسة والعشرين لديها أربعة أبناء تقول: “في بداية زواجي وعندما كان أطفالي صغارا كانت حياتنا سيئة، كان زوجي يصرخ علي ويضربني في أوقات كثيرة، ومع ذلك كنت أقوم بواجباتي ولا أرفض له طلبا، كنت دائما أتقبل ذلك لأنني أعرف أن الرجال يتعبون في تدبير لقمة العيش ومن حقهم التفريغ، الآن بعد أن كبر أولادي لم يعد يضربني لكنه لا يحترمني، يعاملني كأنني غير موجودة”.

بحسب علم الاجتماع، فإن الطاعة هي شكل من أشكال التأثير الاجتماعي وهي أداء لأعمال تنفيذا لأوامر أحدهم، فهي تنطوي على طاعة أمر وتنفيذ رغبة شخص أعلى تدعمه قوى اجتماعية مختلفة، هكذا أصبحت المرأة خاضعة ومطيعة أمام عوامل متنوعة ساهمت في ذلك كالدينية والسلطوية والاجتماعية. المشكلة هي في تبرير العنف وتقبله من قبل هؤلاء النساء أنفسهن، ما يجب أن يحدث هو أن تعي النساء بأنه لا يحق لأحد تعنيفهن واضطهادهن وبعد حالة الوعي هذه يمكنهن أن يصنعن من أنفسهن ما يردنه.

التأثيرات النفسية وتوعية النساء

المسألة النسوية قديمة ومعقدة، لا يمكننا الإقرار حتى اللحظة إن كانت هناك امرأة تعيش حريتها بالكامل متخلصة من كافة الرواسب والتعقيدات التي خلفها التمييز في شخصيتها، معظم النساء ينتابهن شعور بأنهن لا يستطعن فعل ما يفعله الرجال وأنهن أقل قيمة منهم، لا يمكن لومهن فهناك منظومة متكاملة تؤثر على أفكارهن ليتبنين وجهة النظر هذه، هناك أشكال عديدة للاضطهاد الذي قد تتعرض له المرأة وعليها الانتباه لذلك، فهو لا يتوقف فقط عند العنف الجسدي والجنسي بل له أشكال متعددة، فالعنف اللفظي والسخرية أمام الآخرين والحرمان من عيش الحياة بشكل طبيعي وقمع الرغبات ومنع المرأة من التعبير عن نفسها والابتزاز العاطفي والحرمان من التعليم والعمل، جميعها تعتبر اضطهادا للمرأة وعليها مواجهته، وعن التأثيرات النفسية للاضطهاد على المرأة تحدثت الطبيبة المختصة في علم النفس، مرح عزقول، لـ”الحل نت”: “قد يسبب تعنيف الفتاة في مرحلة الطفولة تأخرا بالنمو وصعوبات تعلم ومشاكل في الذاكرة والتركيز. وتعنيف النساء بشكل عام عامل خطير لكثير من الاضطرابات النفسية أهمها اضطرابات الشدة ما بعد الرض/الاكتئاب/ اضطرابات القلق مثل الرهاب أو اضطراب الهلع، وعلى الرغم من أن أي اضطراب يحتاج لاجتماع عدة عوامل، إلا أن الاضطهاد الذي تتعرض له المرأة بسبب جنسها قد يكون عاملا خطرا يرفع نسبة الإصابة بشكل كبير، يترافق ذلك مع نقص تقدير للذات وشعور بالدونية وقد تشعر المرأة بالذنب ولوم الذات والتفكير بالانتحار”.

وتضيف “قد يؤدي التعنيف لاضطراب التأقلم، والذي تعتبر شدته أقل من بقية الاضطرابات ويزول بزوال التعنيف، التعنيف بكافة أشكاله يؤثر على الوظيفة الجنسية ويؤدي للبرودة الجنسية نتيجة النفور من المعنِّف”.

مع هذه التأثيرات الكبيرة لابد من إيجاد حلول لهذا الاضطهاد، والتي أهمها التربية، كيف نربي أبناءنا كيف نتعامل مع بعضنا البعض أمام بناتنا وأبنائنا، وما الأفكار والسلوكيات التي نورثها لهم ويكبرون عليها، معظم النساء المضطهدات كانت أمهاتهن سببا في اضطهادهن لعدم وعي النساء بأن حقوقهن أكبر مما يحصلن عليه، والخوف الذي يحكمهن تجاه أنفسهن وأجسادهن ومسؤوليتهن عن الحفاظ على بناتهن بنفس الطريق. الوعي بقيمة الذات ورفض الخوف والقلق الذي يصيب النساء هما إحدى الوسائل أيضا لينهضن بأنفسهن ويواجهن من يعنفهن ويحرمهن من الحقوق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة