قبل شهرين تقريبا اختتمت فعاليات مؤتمر بروكسل السادس من أجل سوريا في بلجيكا، حيث حاولت تلك الفعاليات التركيز على الشباب كعنصر فاعل لتحفيز عمليات وأنشطة التعافي المبكر. ورغم الضخ المالي الذي شهده هذا المؤتمر، تبقى خطط التعافي المبكر المرجوة مبهمة وبغاية الضبابية عند مختلف الفئات الشعبية من حيث مساهمتها في تحسين فرص العمل في سوق العمل في سوريا، و عملية مربكة من وجهة نظر تلك الأقنية والجهات الرسمية التي تبنت فكرة التعافي المبكر.

بعد شهرين تماما من اختتام فعاليات المؤتمر، ومع السباق الماراثوني لجهات ومنظمات دولية لتحسين
الواقع المعيشي في سوريا، تستمر مشكلات المواطن السوري اليومية، من فقدان الأمن الغذائي وتدني مستويات الأجور، وغياب فرص العمل المناسبة، والاستغلال والفساد والخ من المشكلات التي تمس حياة المواطنين اليومية، وتدفع فئات الشباب للهجرة بصورة شبه قسرية من سوريا.

ووفق اقتصاديين بارزين تبقى المؤشرات الرئيسية للاقتصاد السوري سلبية ولا يوجد بصيص أمل في تعافيها مع بقاء الظروف السياسية الراهنة عالقة على حالها ، فمعدلات الفقر بقيت على حالها عند حواف الـ 90 بالمئة من السوريين، هذه النسبة متفق عليها من هيئات الأمم المتحدة العاملة في سوريا ومن منظمات دولية كذلك، أما معدلات النمو تقارب الصفر في جميع القطاعات الاقتصادية والإنتاجية، وهذا ما انعكس على معدلات البطالة، فوفق تقديرات منظمات مدنية ومراكز بحثية اقتصادية مهتمة بالشأن السوري تتراوح معدلات البطالة بين 41 إلى 60 بالمئة وتختلف هذه النسبة بين الجنسين حيث تكمن هنا مشكلة أخرى.

أحلام الشباب ومستقبلهم في مهب الريح

يطالعنا الناشط المدني في تأمين سبل العيش شادي عمار، الذي يعمل في مناطق سيطرة حكومة دمشق، عن واقع العمل في سوريا قائلا: “هناك فرص عمل في بعض القطاعات التي مازالت تعمل، كقطاع الإنشاءات والبناء وقطاع العمل الاجتماعي والمنظمات، وقطاع الزراعة، فيما تعافى جزئيا قطاع الصناعة وبصورة متواضعة، وأدخل المزيد من الفرص إلى سوق العمل، وهنا لا أدعي توفر فرص عمل شاغرة أو مستجدة في هذه الأعمال بشكل ملموس ويخفف من حدة البطالة، إلا أنها تستقطب وتحافظ على عدد معين من العمال والعاملات الموسميين، هذا يخفف من حدة البطالة بعض الشيء، هذا من جانب فرص العمل في القطاع الخاص. أما من جانب الفرص الحكومية فأصبحت هذه الفرص ضرب من الخيال لغالبية فئات الشباب، وبالتحديد الذكور منهم”.

يضيف: “الأجور التي يتلقاها العامل في القطاع الخاص هي أجور مجحفة بحق العامل، وهذا ما يثني العديد من طالبي العمل عن الالتحاق بالعمل رغم توفره. معدلات الأجور المناسبة يجب أن تكون أعلى بخمسة أضعاف لكي تجذب اهتمام الشباب السوري؛ 90000 ليرة سورية شهريا مبلغ غير مغري ولا يكفي ثمن خبز للعامل؛ قانون العمل حدد الحد الأدنى ب 93000 ليرة تقريبا، لا يختلف الأمر كثيرا، في كلا الحالتين الأجور غير مناسبة”.

يركز جميع المعنيين في الوضع الاقتصادي السوري اليوم على مشاريع سبل العيش الصغيرة والمتناهية الصغر، للخروج من عنق الزجاجة، وإيجاد حل لمشكلات اقتصادية منها البطالة، ولكن هذه المشاريع في ظل عدم الاستقرار التي مازال يعاني منه الاقتصاد السوري، تبقى، وحسب وصف العاملين فيها: “مشاريع كي لا نموت جوعا” أي أنها لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا مستقبل تبنيه للشباب السوري الطموح.

سوق عمل معقدة وغير مستقرة

يقول شادي عمار: “إذا توفرت للشباب فرص عمل في وظائف الياقة البيضاء أي الوظائف المكتبية بعد طول عناء في الخدمة العسكرية، إن خرج منها حيا، فإن رواتب القطاع الحكومي حدث ولا حرج، ماذا سيفعل شاب يؤسس مستقبله بمبلغ 30 دولار أمريكي شهريا؟!. هذه الوظائف أصبحت للإناث لأنهن لا يخدمن خدمة إلزامية ويدخلن سوق العمل مباشرة بعد التخرج. وما يشكل عائقا آخر أمام الذكور، فالشاب لا يحظى ولا يتاح له التطور المعرفي وتنمية قدراته المهنية بعد التخرج، وهو يفني عمره وراء السلاح، وحتى لو كان مثقفا وخريجا جامعيا، فانشغاله بالحرب تمنعه من تطوير ذاته مهنيا، ولذلك لا يستطيع المنافسة في سوق العمل وأعود للتأكيد على أن الفساد مستشري في هذه القطاعات ويلعب دورا بارزا في القدرة على الحصول على فرصة عمل جيدة”.

الجدير ذكره أن مسابقات التوظيف في القطاع الحكومي هي محط اهتمام الفتيات أكثر من الذكور، والسبب المباشر الصحيفة الجنائية اللاحكم عليه والذي يعاني معظم الشباب من استخراجها، وكذلك شرط الخدمة الإلزامية. وفي هذا السياق وجب التنويه لعدد مسابقات التوظيف التي صدرت منذ عام 2021 حتى منتصف العام الجاري، وهي لا تتعدى ثلاث مسابقات توظيف في جميع الوزارات والمديريات العامة، هذه المسابقات لا تمنح الشباب الباحث عن العمل أكثر من 300 فرصة عمل بأحسن الأحوال على مستوى سوريا.

وعن مناطق شمال غرب سوريا، فيقول حسين أبو الفداء، وهو ناشط إعلامي في الشمال السوري “يعتمد معظم سكان هذه المناطق على المساعدات والإعانات الدولية والأممية. سكان المخيمات لا يستطيعون إيجاد فرص عمل إلا إذا كان أحد أقاربهم يعمل في منظمة في تركيا، فعندها يؤمن لمقربيه فرص عمل في الداخل السوري”.

يضيف: “الحكومة المؤقتة جميع أعمالها تجري في تركيا، ولا توفر فرص عمل في الداخل السوريين. جميع الموظفين في المؤسسات التابعة للحكومة المؤقتة يتم تعيينهم في تركيا ثم ينتقلون إلى الداخل السوري، لا نعرف كم يتقاضون لقاء ذلك، لكنهم بطبيعة الحال ظروفهم أفضل من بقية فئات الشعب”.

يذكر أن أعداد الشباب الذين يتطوعون في العمل المسلح على مستوى سوريا بجميع مناطقها عدد كبير نسبيا.حيث يلجأ الشباب للتطوع في هذا المجال لغياب فرص العمل المدنية، و للأجور العالية نسبيا مقارنة بالأجور التي يتلقاها في أي عمل آخر. وهناك العديد من الشركات الأمنية والميليشيات التي تستقطب الشباب للتطوع معها مقابل مبالغ مالية مغرية، بالأخص إذا كان العمل في بلدان خارج سوريا.

لا سبيل لتحسين فرص العمل

وفق تقارير عدة، فإن اليد العاملة في سوريا قبل عام 2011 كانت مستقرة ومعدلات خلق الوظائف جيدة بعض الشيء، ومعدلات الأجور قبيل اندلاع الصراع في سوريا بلغت 500 دولار أمريكي شهريا في بعض الأعمال ومنها الأعمال التخصصية في البنوك وشركات التأمين، وقد شكلت فرص العمل في البنوك وشركات التأمين والشركات المالية قبيل 2011 ما نسبته 20 بالمئة من مجموع فرص العمل المستجدة في سوق العمل السورية، ومعدلات البطالة كانت دون ال 4.5 بالمئة في أسوأ الأحوال.

وفق مصدر خاص لـ”الحل نت” في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل فقد أشار إلى أن “تكلفة الصراع السوري وصلت من ناحية الأضرار المادية والدمار الذي طال الأنشطة الاقتصادية حوالي 600 مليار دولار، بالإضافة إلى النهب الذي لحق القطاعات الاقتصادية جراء الفساد ونهب المال العام، يصل مجموع ما خسرته سوريا في سنوات الحرب إلى 900 مليار دولار أمريكي.

انخفض الناتج المحلي الإجمالي 80 بالمئة، وفقدنا معظم وسائل الإنتاج ورأس المال، بعد أن تجاوز الـ 62 مليار دولار في سنوات قبل الحرب، تراجع إلى 13 مليار دولار اليوم رغم كل ما يدعونه من جهود.

معدلات الفقر شهدت قفزة مرعبة وبلغت 90 بالمئة. وصلت معدلات البطالة في البلاد بين كافة السكان البالغين إلى 50 بالمئة في حين بلغت 80 بالمئة في صفوف الشباب. ولو قلت أن هذه النسب كانت بسبب اندلاع جائحة “كورونا” والعقوبات الأميركية والأوربية المفروضة على سوريا فهو إعماء للحقيقة. التضخم الذي شهدته الليرة السورية، والذي يعتبر النتيجة المباشرة للدمار الاقتصادي لم يكن سوى أحد نتائج الحرب.

تدني عدد فرص العمل كان بسبب الدمار الذي ألحقته الحرب بأدوات الانتاج ورأس المال العامل، إحجام الشباب عن الوظائف العامة، والتحاقهم بأعمال غير شرعية وغير قانونية في إشارة لتجارة المخدرات والتطوع في صفوف الميليشيات والشركات الأمنية كان نتيجة غياب السياسات الحكومية الناجعة والفساد المستشري فيها، هناك الكثير يمكن فعله، فإعادة الإعمار وسياسات التعافي المبكر مازالت تعاني من الفساد ذاته رغم الاشراف الأجنبي عليها، 1 بالمئة من الدعم الدولي فقط يصرف على هذه البرامج بشكل حقيقي، وهذا لا يمنح المواطن فرص عمل لتحسين دخله.

يذكر أن معدلات البطالة في صفوف النساء في سوريا هي أعلى من معدلات البطالة بين الرجال، ولذلك للمخاطر التي تتعرض لها المرأة واحجامها عن العمل في مناطق كثيرة جراء غياب الأمن، وتحتل النساء الريفيات مراكز متقدمة وبلغت نسبة البطالة في صفوفهن 76 بالمئة وفق تقديرات مراقبين. يقودنا هذا الى البحث في حقوق النساء في سوريا وماهية المخاطر التي تحيق بالنساء السوريات في سوق العمل.

يضيف المصدر الخاص لـ”الحل نت”: “حددت الخطة الاستراتيجية السورية 2030 هدفا اقتصاديا يتمحور حول إذا مـا تـزال العديـد مـن مكامـن الإنتاج معطلـة، لكنهـا قابلة للاسـتثمار، مـع وجـود فجـوة بين الاحتياجات للعديد مـن هـذه المكامـن. وتسـتدعي الضغـوط المتسـارعة الناجـمة عـن بـدء عـودة النازحـين واللاجئين، الانتقال إلى الاستغلال التدريجي لقطاع إنتاج السلع والخدمات، وصولا إلى استغلالها بالشكل الأمثل”.

يقول المتحدث: “بداية علينا سؤال القائمين على هذه الخطة أين هي أدوات الإنتاج الموجودات التي سوف تستغلونها؟، هي غير موجودة وإن وجدت فهي تخضع لابتزاز الحكومة وفساد أجهزتها ووزاراتها، ويتحتم على المشغل أو المستثمر دفع رشاوى كبيرة لكي يتمكن من تشغيلها واستثمارها، وهذا بحد ذاته أحد العراقيل التي تمنع سوق العمل من التعافي في سوريا. والسؤال الآخر الذي يجب أن يطرح على الحكومة: لدينا حوالي 11 مليون مواطن في مناطق سيطرة الحكومة، 60 بالمئة منهم لا فرص عمل لديهم رغم كل ما تدعونه من إصلاح، كيف سيصبح الأمر في حال عودة 10 مليون لاجئ من دول الجوار، كيف ستؤمنون لهم فرص عمل؟”.

ختاما، النتيجة التي لا يمكن التغافل عنها هي أن الصراع في سوريا كان سببا أساسيا في انخفاض فرص العمل، وتدمير البنى التحتية ووسائل الإنتاج، وهو ما أدى بالضرورة لازدياد البطالة وهذا أمر مسلم به. ويبقى الطريق لمعالجة تلك المسائل الشائكة مشوشا ولم يأخذ شكلا حقيقيا وواقعيا على الأرض السورية. مازالت مؤشرات البطالة ومعدلات الهجرة في سوريا هي الأعلى عالميا من بين الدول النامية والخارجة من صراعات داخلية، وهذا يعكس حجم المعاناة التي يكابدها الشباب السوري لتأمين مستقبلهم في ظل مستقبل غامض للقطاعات الاقتصادية، وسوق العمل بالنتيجة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.