تؤدي موجات الجفاف الشديدة عبر نصف الكرة الأرضية الشمالي؛ الممتد من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوروبا والصين، إلى مزيد من التعقيد لسلاسل التوريد وزيادة أسعار الغذاء والطاقة، مما يزيد الضغط على نظام التجارة العالمي الذي يعاني بالفعل من ضغوط، وفق صحيفة وول ستريت جورنال” الأميركية.

وتشهد أجزاء من الصين أطول موجة حرارة مستدامة منذ بدء حفظ السجلات في عام 1961، وفقا لمركز المناخ الوطني الصيني، مما أدى إلى إغلاق التصنيع بسبب نقص الطاقة الكهرومائية، بحسب تقرير الصحيفة الأميركية.

الجفاف يؤثر كذلك على إسبانيا والبرتغال وفرنسا وإيطاليا ليصبح الأسوأ منذ 500 عام، وفقا لأندريا توريتي، عالمة المناخ في مركز الأبحاث المشتركة التابع للمفوضية الأوروبية.

يقارن الباحثون حالات الجفاف عن طريق قياس نمو حلقات الأشجار السنوية التي تعكس هطول الأمطار ودرجة الحرارة من سنة إلى أخرى في مناطق محددة.

جفاف يهدد الاقتصاد

من أوروبا إلى بريطانيا وأميركا والصين، أصبح الجفاف عنوانا يتصدر مخاوف السلطات على نمو الاقتصادات خلال هذا العام.

يقول علماء المناخ إن فترات الجفاف هذا العام ترجع جزئيا إلى ظاهرة “النينيا”، وهو نمط دوري للمياه الباردة في شرق المحيط الهادئ يدفع التيار في الغلاف الجوي شمالا، تاركا أجزاء من أوروبا والولايات المتحدة وآسيا مع هطول أمطار أقل.

وتقول الأمم المتحدة إن نسبة حالات الجفاف في جميع أنحاء العالم قد ارتفع 29 بالمئة منذ عام 2000 بسبب تدهور الأراضي وتغير المناخ.

ولكن بالنسبة لبعض أكبر الاقتصادات في العالم، أضر الجفاف الذي حدث هذا الصيف بالصناعات بما في ذلك توليد الكهرباء والزراعة والتصنيع والسياحة، ما أدى إلى تفاقم اضطرابات سلسلة التوريد الناجمة عن جائحة “كورونا” والضغط على أسعار الطاقة والغذاء من الحرب في أوكرانيا.

ففي الولايات المتحدة، يتوقع الخبراء الزراعيون أن يفقد المزارعون أكثر من 40 بالمئة من محصول القطن، بينما في أوروبا من المتوقع أن ينخفض محصول زيت الزيتون الإسباني بما يصل إلى الثلث وسط الظروف الحارة والجافة.

وفي أوروبا، تجري الأنهار مثل نهر الراين وبو في إيطاليا، والتي تعمل كشرايين للتجارة، عند أدنى مستوياتها التاريخية، مما يضطر المصنّعين إلى قطع شحنات التجارة.

كما أدى انخفاض منسوب الأنهار إلى خفض توليد الطاقة الكهرومائية في جميع أنحاء القارة، مما أثر على مصدر بديل رئيسي للغاز الطبيعي، والذي يتناغم مع تقليص روسيا للتدفقات من مصادر الطاقة.

وأجبرت الحرارة فرنسا على خفض الإنتاج في العديد من المفاعلات النووية لأن مياه النهر التي تبردها دافئة للغاية بسبب ارتفاع الحرارة. وتخطط ألمانيا، أكبر مستهلك للغاز الروسي في أوروبا، لحرق المزيد من الفحم بدلا من الغاز لتوليد الكهرباء، لكن المستويات المنخفضة على نهر الراين تعيق الشحنات.

ويقول علماء المناخ الأميركيين والأوروبيون إن ظاهرة الاحتباس الحراري قد ضاعفت من حدة تأثير ظاهرة النينيا.

أدى الجفاف والحرارة إلى ذبول المحاصيل وتسبب في انحسار مياه الأنهار، بما في ذلك نهر اليانغتسي العملاق، وتعطيل حركة البضائع. تقول وسائل الإعلام الحكومية إن الحكومة ستحاول حماية محصول الحبوب في الخريف، والذي يمثل 75 بالمئة من الإجمالي السنوي للصين، باستخدام المواد الكيميائية لتوليد الأمطار.

تحذيرات مستمرة

تقرير أوروبي حذر من تفاقم الجفاف الحاد الذي يضرب أنحاء متفرقة من أوروبا وتوسع تأثيراته الاقتصادية، وذلك من جراء موجات الحر المتعاقبة والنقص المستمر في الأمطار، حيث وصلت 47 بالمئة من أراضي أوروبا إلى مستوى تحذير من الجفاف، بينما تتخذ 17 بالمئة من المناطق التي شملها المسح حالة تأهب قصوى.

يأتي ذلك في ظل أزمة اقتصادية تلف دول الاتحاد، إذ أجبرت أزمة تكاليف المعيشة والتضخم المستهلكين على خفض الإنفاق. وكشف مسح، اليوم الثلاثاء، أن نشاط الشركات في منطقة اليورو انكمش لثاني شهر على التوالي في أغسطس/ آب، في حين أضرت قيود الإمدادات بشركات الصناعات التحويلية.

وجدد التقرير الشهري، الصادر عن مرصد الجفاف العالمي التابع للاتحاد الأوروبي، التحذير من أن انخفاض منسوب الأنهار وانحسار الموارد المائية سيؤثران على توليد الكهرباء في منشآت إنتاج الطاقة ويقلصان المحاصيل الزراعية.

وتوقع التقرير ازدياد خطر الجفاف في أجزاء كبيرة من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وأيرلندا ولوكسمبورغ ورومانيا والمجر، وفي دول غير منضوية في الاتحاد الأوروبي هي بريطانيا وصربيا وأوكرانيا ومولدافيا، حيث إن 17 بالمئة من أراضي أوروبا مدرجة حاليا ضمن مستوى التحذير الأعلى، مقارنة بـ11 بالمئة في يوليو/تموز.

واعتبر الباحثون أن الأمطار الأخيرة التي نزلت في منتصف أغسطس ربما تكون قد خففت من أجواء الجفاف في أنحاء أوروبا، مشيرين إلى أن بعض العواصف الرعدية تسببت بأضرار وخسائر حدت من فوائد هطول الأمطار.

وأضاف التقرير أن الأجزاء المتوسطية في الاتحاد الأوروبي عليها أن تتهيأ لأجواء أكثر حرا وجفافا من المعتاد، وذلك وصولا إلى نوفمبر/ تشرين الثاني. وتطرق التقرير إلى معاناة أنحاء من إسبانيا والبرتغال وكرواتيا من أحوال الطقس الجافة أكثر من المعتاد، مرجحا تراجع حدة الجفاف في جبال الألب.

يشار إلى أن التقرير اعتبر أن الأحوال المناخية المرتبطة بموجات الحر التي تشهدها أوروبا كانت في مايو/أيار ويونيو/حزيران ويوليو/تموز الأشد منذ العام 1950.

كما انخفض مؤشر ستاندرد آند بورز المجمع لمديري المشتريات في الاتحاد الأوروبي، الذي يعد مقياسا جيدا لقوة الاقتصاد الكلية، إلى 49.2 في أغسطس من 49.9 في يوليو، وهو ما يزيد قليلا عن متوسط التوقعات في استطلاع أجرته رويترز بانخفاض أكبر يصل إلى 49.0.

وتشير القراءة أدنى من 50 إلى انكماش، وتقديرات أغسطس الأولية هي الأقل منذ فبراير/شباط 2021. وتوقع استطلاع أجرته “رويترز” في الشهر الماضي تسجيل نمو بنسبة 0.2 بالمئة هذا الربع.

وانخفض مؤشر مديري المشتريات الذي يغطي قطاع الخدمات البارز في المنطقة إلى 50.2 من 51.2، وهو ما يزيد بقليل على المستوى الفاصل بين النمو والانكماش وأدنى من توقعات “رويترز” عند 50.5.

وتراجع نشاط الصناعات التحويلية مجددا في الشهر الماضي. وانخفض مؤشر مديري المشتريات للمصانع إلى 49.7 من 49.8، وهو أقل مستوى منذ يونيو 2020، في حين سجل المؤشر الذي يقيس الإنتاج ويغذي مؤشر مديري المشتريات المجمع 46.5 مقارنة مع 46.3 في يوليو.

أزمة تتسع

في أوروبا الأزمة تتسع سريعا، وشرح تقرير لـ”منتدى الاقتصاد العالمي” أن فرنسا تشهد أسوأ موجة جفاف على الإطلاق، وفقا لرئيسة الوزراء إليزابيث بورن. تم فرض قيود على المياه في معظم أنحاء البلاد، ومن المتوقع أن يكون محصول الذرة أقل بنسبة 20 بالمئة تقريبا من عام 2021، كما قالت وزارة الزراعة.

ونقلت “لوموند” الفرنسية عن وزير التحول البيئي كريستوف بيتشو، خلال زيارة إلى جنوب شرق فرنسا، إن أكثر من 100 بلدية لم تعد قادرة على توفير مياه الشرب مباشرة وتحتاج إلى الحصول عليها بواسطة الشاحنات، وقال: “أسوأ ما في الأمر هو أننا نعطي الأولوية لمياه الشرب مقارنة بالاستخدامات الأخرى”.

وقد يجبر الجفاف عملاق الطاقة الفرنسي “EDF” على خفض إنتاج الطاقة في المحطات النووية التي تستخدم مياه النهر لتبريد المفاعلات.

في ألمانيا، أدى نقص هطول الأمطار إلى انخفاض شريان الشحن الرئيسي، نهر الراين، ووفق هذا المستوى المنخفض، يمكن نقل كميات أقل من الشحن، ما يؤدي إلى التأخير وارتفاع التكاليف. يتدفق نهر الراين، وفق التقرير ذاته، عبر قلب ألمانيا الصناعي، من جبال الألب السويسرية إلى بحر الشمال حاملاً كل شيء من الحبوب إلى الكيماويات والفحم. لكن تم تحميل القوارب بـ30-40 بالمئة فقط من سعتها لتجنب الجنوح بسبب تراجع كمية المياه. وقد يؤثر الاضطراب على النمو الاقتصادي للبلاد بما يصل إلى نصف نقطة مئوية، وفقاً لخبراء اقتصاديين.

وانخفض توليد الطاقة الكهرومائية، الذي يعتمد على المياه لإنتاج الكهرباء، بنسبة 44% في إسبانيا، وفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية.

هناك حاجة أيضا إلى المياه لتبريد محطات الطاقة النووية، واضطرت بعض المحطات النووية في فرنسا إلى تقليل الإنتاج لأن الأنهار كانت منخفضة جداً ودافئة لدرجة لا تسمح لها بتبريد المحطات، وفقاً لصحيفة الغارديان.

كذلك فإن نهر بو، أطول نهر في إيطاليا، الذي يعتبر مركزا حيويا للنقل عبر التاريخ، بدأ يجف الآن بسبب فترات الجفاف الشديد. وأعلنت الحكومة الإيطالية حالة الطوارئ في خمس مناطق في أوائل يوليو/ تموز بسبب الجفاف، الذي وصف بأنه الأسوأ منذ 70 عاما. يعيش حوالي ثلث سكان إيطاليا (17 مليون نسمة) حول نهر بو بالإضافة إلى أكثر من نصف الخنازير والماشية في البلاد.

في حين سجلت البرتغال أحر شهر يوليو/ تموز منذ بدء التسجيل، ويعاني 99 بالمئة من البلاد من الجفاف. وحوالي 75 بالمئة من رومانيا تتأثر بالجفاف. من المتوقع أن ينخفض محصول الحبوب في البلاد بمقدار 30 مليون طن.

هذا وتتزايد الأزمات التي تطاول خطوط الإمداد وحركة الإنتاج العالمية، مع دخول التغيّر المناخي واحدا من الأسباب الأساسية التي تعيق حركة التجارة في غير دولة كبرى، وتعطّل قطاعات إنتاجية أساسية في ظل اختناق الإمدادات العالمية خاصة الغذائية منها في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.