بهمة روتينية معتادة يقطع بسلاسة وحرفية سيخ الشاورما المرفوع أمامه وعرقه ينهمر على جبينه، هذا حال أحمد يوسف (اسم مستعار) 28 عاما الذي يعمل في أحد المطاعم بالعاصمة دمشق بدوام مسائي، ولا يبدو عليه سوى أنه “معلم شاورما عتيق” من بعيد، لكنه في الحقيقة طالب جامعي في كلية الصيدلة بجامعة “دمشق”، حيث كانت للأوضاع المعيشية الصعبة في البلاد الكلمة الأقوى في إجبار يوسف، على العمل في مهنة ليست من تخصصه لسد بعض نفقاته الجامعية.

وضع يوسف، الطالب في سنة تخرجه، ليس ببعيد عن أوضاع معظم طلاب الجامعات السوريين من الشباب والشابات، حيث يعمل غالبيتهم في وظائف مختلفة ومتنوعة، حتى وإن كان بعيدا عن تخصصهم التعليمي، لكنه يمكّنهم من الاستمرار ومواصلة التعليم في مقاعدهم الجامعية.

حتى أنه نتيجة للغلاء المعيشي المهول في سوريا، وسط تدني الرواتب والمداخيل، اتجه هؤلاء الجامعيين للعمل في أعمال تبدو غريبة على المجتمع السوري، مثل “تنظيف البيوت”، وانتشار ظاهرة “المطابخ المنزلية”، إلى جانب التسويق الإلكتروني والعمل من داخل المنزل، بغية إعالة أنفسهم وأسرهم، وتغيير واقعهم الاقتصادي الهش إلى مستويات تتناسب مع الواقع المعيشي العصيب الراهن، وتشير حقيقة توجه الشباب إلى هذا النوع من العمل، إلى انتشار غلاء المعيشة وعدم توفر فرص عمل مناسبة، فضلا عن غياب الدعم الحكومي لطلبة الجامعة.

ضرورة حيازة الشهادة

يوسف، أثناء حديثه لـ”الحل نت”، قال أنه يعمل في مطعم للوجبات السريعة في دمشق، وبدوام مسائي، حتى يتسنى له تغطية تعليمه الجامعي، ولا يتجاوز راتبه الـ350 ألف ليرة سورية شهريا أي نحو 80 دولار، وأحيانا يتقاضى أكثر حسب حجم الشغل، ويبقى هذا المبلغ مصدرا بسيطا، يساعده على تجاوز أهم عقبة تواجه معظم الطلاب السوريين اليوم.

يعيش يوسف، حياة صعبة مليئة بالمتاعب اليومية من أجل الحصول على شهادة جامعية تؤمن له وظيفة جيدة في المستقبل، خاصة أنه يفكر كثيرا في السفر إلى الخارج بعد تخرجه من الجامعة. ويضيف يوسف: “في الحقيقة أنا أعمل لأن عائلتي لا تملك القدرة على تحمل نفقات دراستي الجامعية في ظل الغلاء المعيشي الصعب في البلاد، وليس لدي أحد في الخارج ليرسل لي حوالة مالية شهرية”، يقولها مستهزئا بواقع المعيشة والوضع الذي وصل فيه طلاب الجامعات إلى هنا.

“كنت طالبا متفوقا في تعليمي المدرسي، نجحت ودخلت الفرع الذي أرادته عائلتي، وفي الحقيقة أنا أيضا أردته، فهو تخصص مقتدر ومؤهل ويوفر فرصة عمل جيدة في المستقبل، ولكن بسبب الوضع في دمشق بين عامي 2012 و 2013، لم أستطع متابعة تعليمي الجامعي، سافرت إلى لبنان وبقيت أعمل هناك في المطاعم حوالي عامين ونصف، وهذا ما أكسبني مهارة معلّم شاورما، ثم عدت إلى دمشق لإكمال جامعتي والحصول على الشهادة التي طالما حلم بها والداي، وهذا ما يدفعني إلى العمل بجد قدر المستطاع لمواصلة دراستي حتى التخرّج وحصولي على شهادتي الجامعية”، يقول يوسف، بحزن وهو يتحدث عن ظروفه التي آلت به إلى هنا.

الأفضلية للراتب الأعلى

عمل يوسف لفترة معينة في إحدى الصيدليات من أجل الحصول على أجر شهري ومواصلة العمل في مهنة ضمن تخصصه الجامعي، لكن معظم أصحاب الصيدليات لا يعطون هذا الأجر المناسب إلى حد ما، ويضيف يوسف، في حديثه لـ”الحل نت”: “العمل في المطاعم والمراكز التجارية ومحال الألبسة وحتى في المنتزهات والأماكن الليلة أفضل، ذلك لأن رواتبهم مناسبة نوعا ما ويمكّن الطالب من تغطية نفقات دراسته، في حين أن العمل في الصيدليات رواتبها هزيلة”، ولكن هذا يبقى الخيار الأفضل لهم.

يرغب نسبة كبيرة من الطلاب في العمل أثناء دراستهم الجامعية؛ وذلك لعديد من الأسباب مثل تغطية جزء من تكاليف الدراسة والمصاريف الحياتية اليومية، ولكن ليس من السهل على المرء أن يحصل على وظيفة أو عمل ما في بلد مزقته الحرب على مدار السنوات العشر الماضية.

طلاب عند مدخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة “دمشق” وكالة “سانا”

مازن، طالب جامعي، أوضح في تصريحات صحفية سابقة أنه شكّل ورشة لتنظيف البيوت من أصدقائه، وأسس صفحة لها على منصة “فيسبوك”، وأشار إلى أن عمل الورشة نال استحسانا كبيرا خلال فترة قصيرة، نظرا لمهارة العاملين في التنظيف، وسرعتها بإنجاز ما تطلبه منها ربات البيوت.

ونوّه مازن، إلى أن أجرة “تلييف”، الشقة تعتمد على مساحتها وعدد غرفها، وهي بين 35 ألف ليرة سورية، للشقة الصغيرة و70 ألف ليرة للكبيرة. وأشار إلى أن هذا العمل يدر دخلا جيدا للورشة، ويمكّن جميع أفرادها البالغ عددهم 6 شباب، من مواصلة دراستهم الجامعية ومساعدة أُسرهم أيضا.

وضمن هذا الإطار أرجعت الباحثة الاجتماعية ناريمان موسى باشا، عمل الشباب في هذه الأعمال إلى الظروف المادية الصعبة، وانعدام فرص العمل الجيدة، وتنامي البطالة في البلاد.

وأشارت باشا، في تصريحات صحفية محلية سابقة، إلى أن الخيارات الحكومية محدودة أو صعبة، أمام الشباب السوريين، والذين هم بحاجة إلى أي فرصة عمل تمكّنهم من إعالة أنفسهم، أو الإنفاق على أسرهم.

ووفق باشا، فإن “كل هذه الظروف أدت بالشباب إلى التوجه إلى أعمال أصبحت مألوفة في مجتمعنا وقد ولد بعضها خلال سنوات الحرب، ومنها: لجوء الأسر الفقيرة أو ربات بيوت، لحفر المحاشي أو تيبيس الملوخية، أو سلق باذنجان المكدوس، أو طهي الطعام في المنازل، أو جليسات أطفال أو عجائز”.

لكن، معظم هذه الأعمال موسمية، وهو ما يعني انقطاع مصدر دخلها غير الثابت، وأن مزاوليها بحالة بحث دائم عن عمل آخر في الشتاء مثلا، ورأت الباحثة الاجتماعية، أن هذه الأعمال “مؤشر على تفشي البطالة وعدم قدرة الحكومة على إيجاد فرص عمل للشباب المتعطلين عن العمل، لمواجهة الغلاء الفاحش والظروف الاقتصادية الصعبة”.

جامعة “دمشق” كلية الآداب والعلوم الإنسانية “فيسبوك”

وفي سياق متّصل، فإن نسبة البطالة في سوريا ارتفعت من 8 بالمئة في عام 2011، إلى 56 بالمئة في عام 2013، وبالرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية لنسب البطالة خلال السنتين الأخيرتين لكنها بكل تأكيد تفوق الـ 60 بالمئة، بحسب آراء عدد من المختصين خصوصا بين الخريجين في الجامعات والمعاهد التقانية، مؤكدين أن العاطلين عن العمل هم من خيرة الكفاءات والخبرات القادرة على إيجاد المخارج، والحلول للمشاكل، والسير وإن كان ببطء نحو تحقيق الأهداف.

وبحسب مراقبين اقتصاديين، يعتبر القطاع الزراعي في سوريا الأكثر تضررا. بينما كان يوظف القطاع الزراعي أكثر من 50 بالمئة، من القوى العاملة في سوريا، انخفضت النسبة إلى حوالي 10 بالمئة. ومنذ أن شهدت البلاد موجة جفاف شديدة دفعت عددا كبيرا من العمال الزراعيين في المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا، إلى الهجرة تحديدا نحو مراكز المدن بحثا عن فرص عمل جديدة، وسط غياب الدعم الحكومي لهذه الأزمة.

قد يهمك: الفساد في الجامعات السورية.. ابتزاز جنسي ورشاوى وانتهاكات

العمل أفضل من ترك الجامعة

خلال السنوات الماضية ونتيجة لتدهور الأوضاع المعيشية في سوريا، تنامت المشاريع المنزلية متناهية الصغر، من مختلف الأنواع، وكانت من بين أكثر المشاريع ظهورا وانتشارا، هي مشاريع التسويق المنزلي، إذ لجأت العديد من الطالبات الجامعيات إلى تأسيس أعمال منزلية بتكاليف منخفضة نسبيا للمساهمة في إعالة أنفسهم، وتغطية نفقاتهم الدراسية.

فرح الأدهمي (22 عاما)، التي تدرس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة “دمشق”، قسم علم الاجتماع ، تحدثت لـ “الحل نت” عن تجربتها في العمل من المنزل، وذلك بسبب افتقارها إلى مصدر دخل وسوء الأوضاع المعيشية لوالديها، لذا اضطرت إلى بدء بالعمل في التجارة من المنزل والترويج عبر الإنترنت، من حيث مستحضرات التجميل، والملابس النسائية، والحقائب، والمستلزمات النسائية عموما، وذلك لتأمين نفقات دراستها الجامعية، من شراء “المحاضرات والملخصات” إلى أجور المواصلات والتنقل.

تقول فرح إن العمل ليس عيبا، خصوصا في بلد مثل سوريا، المنهار على عدة مستويات، وأن الطالب أو الطالبة الذي لا يعمل مع دراسته الجامعية، هو إما من أسرة غنية أو لديه مصدر دخل من أحد أقاربه من خارج البلد، وتشجّع فرح جميع الطلاب على العمل وإكمال دراستهم معا، فهذا أفضل وفق رأيها من ترك الكلية، والتشرد من وظيفة إلى أخرى مدى الحياة.

تُحمّل فرح، الحكومة السورية، مسؤولية ما وصل إليه الطلبة وحمل أعباء شاقة منذ هذه المرحلة، التي من المُفترض أن يعيشوا فيها بشكل طبيعي مثل باقي البلدان، خاصة في الدول الأوروبية، وتضيف: “على سبيل المثال، اليوم الجميع يريد الهجرة إلى أوروبا، لأن الحكومات هناك توفر كل المتطلبات والاحتياجات للطالب من أجل استكمال تعليمه على أكمل وجه وبدون حمل مشتقات الحياة والقتال على جبهتين في آن واحد”.

أحمد، وفرح طالبان اثنان من بين العديد من الجامعيين الذين يعملون من أجل تحصيل مورد مالي يساعدهم على تمرير حياتهم اليومية، خصوصا في ظل غلاء الأسعار والأزمة الاقتصادية السورية التي كانت أبرز أوجه الحرب الدائرة منذ أكثر من عشر سنوات.

هذا ويعاني معظم طلاب الجامعات من حالات إرهاق مزمنة، بالإضافة إلى مشاكل نفسية بسبب ضغوط العمل، والدراسة في الوقت ذاته، خاصة لطلبة الكليات العلمية، الذين يضطرون أحيانا إلى التغيب عن ساعاتهم العملية في مخابر الجامعة، مما يشكل عقبة أمام تخرج بعضهم في فصولهم المحددة.

قد يهمك: العودة إلى المدارس في سوريا.. “العين بصيرة والإيد قصيرة”

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.