نادرا ما تجد شاب يعمل في بعض المِهن القديمة التي اندثرت منذ عشرات السنين في سوريا، كـ“البوابيري ورتّى السجاد ومبيّض الأواني“، وغيرها من المِهن، فلم يتبقى سوى بعض كبار السن الذين استمروا بها كمهنة أصيلة لهم.

إحياء مهنة الأجداد

الشاب منير الرجب، قرر إعادة إحياء مهنة الأجداد في تبييض الأواني المنزلية، وذلك بعد أن قرر العام الماضي الاستقالة من وظيفته، والبحث عن مهنة أخرى يستطيع من خلالها الحصول على دخل يمكّنه من العيش، في ظل قلة فرص العمل والأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.

وخلال السنوات الماضية، شهدت الأسواق السورية إحياء العديد من المِهن التقليدية، كما غيّر آلاف السوريين من عملهم، واضطروا للعمل في مِهن إضافية لتحقيق التوازن بين الدخل والاحتياجات الأساسية.

“الوظيفة ما عادت جابتلنا الخبز” يقول الرجب، متحدثا عن رحلته في استقالته من الوظيفة، والتوجه إلى مهنة تبييض الأواني المنزلية، التي راجت مؤخرا، نتيجة عدم قدرة السوريين على تجديد أوانيهم بشكل دوري.

ويضيف الرجب، خلال حديثه مع “الحل نت“: “مهنة تبييض الأواني هي مهنة جدي، وعندما كنت صغيرا تعلمت مبادئها، والآن عادت هذه المهنة نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، الناس لا تقدر على شراء الأواني الجديدة، فهي توفر لصالح الغذاء والحاجات الأساسية، لذلك تتوجه لتبييض الأواني القديمة“.

ويوضح الرجب، أن انتقاله إلى العمل الجديد، كان أفضل له من البقاء في الوظيفة الحكومية، ويزيد بالقول: “منذ نحو عام، قدّمت استقالتي من الوظيفة في مديرية المياه بحلب، كان قرارا صعبا، لكن عملي الجديد يتطلب أيضا التفرّغ، احتاج مني أكثر من شهر لتجهيز المعدات وافتتاح المحل، لم تعد الوظيفة هي الأمان في ظل الراتب الذي لا يكفي فواتير الخدمات الأساسية“.

قد يهمك: الكهرباء لمواجهة الشتاء في سوريا.. “على الوعد يا كمّون”

ليست مهنة تبييض الأواني، هي المهنة الوحيدة التي أُعيد إحياؤها أو ظهرت خلال السنوات الماضية، فبعد عزوف معظم السوريين عن شراء السجاد الجديد، عادت مهنة “رتّي السجاد“، كذلك مهنة “مندوب الأمبيرات“، التي ظهرت نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، واعتماد الأهالي على المولدات المحلية.

“أعمل ببيع السجاد لكنني فتحت فرع لرتّي السجاد مؤخرا” يقول حسام مشهداني، وهو بائع سجاد يعمل في مدينة دمشق، إلا أنه يؤكد أن الإقبال على شراء السجاد الجديد تراجع كثيرا خلال السنوات الماضية.

ويقول في حديثه لـ“الحل نت“: “منذ نحو عامين ونصف، تراجع البيع كثيرا، ولم نعد نبيع سوى ما يبلغ عشرة بالمئة مما كنا نبيعه سابقا، فخطر ببالي أن نفتح فرع صغير لإصلاح السجاد القديم، وفعلا أصبح فرع إصلاح السجاد يعمل أكثر من فرع بيع السجاد الجديد“.

ويضيف: “رتّي السجاد مهنة قديمة، ولم تنقطع أبدا، لكن تراجع عدد الذين يعملون بها مطلع القرن الماضي، في حين أن الأزمة الاقتصادية، كانت السبب في جعل شراء الأشياء الجديدة مكلفا جدا، لذلك فمن الطبيعي أن تعود المِهن الترميمية إلى الواجهة مرة أخرى في هذه الظروف“.

وكان التوجه إلى المِهن الجديدة، من نصيب الموظفين الحكوميين غالبا، وذلك بسبب ضعف القدرة الشرائية للراتب الحكومي، والانخفاض المتتالي لقيمة الليرة السورية أمام أسعار مختلف السلع والخدمات.

وبالتالي اضطر الموظفون الحكوميون، إلى العمل بدوام ثان، أو البحث عن مهنة أخرى، لتوفير احتياجات أسرهم الأساسية.

عضو مجلس الشعب السوري محمد زهير تيناوي، أكد قبل أيام أن جور العاملين في الجهات العامة باتت منفصلة عن الواقع، ومن غير المنطقي أن تعطي أجرا لموظف عن شهر كامل لا يكفيه لأكثر من يومين.

وأوضح تيناوي، في تصريحات صحفية سابقة، أن: “حاجة الأسرة السورية اليوم لا يقل عن 1,5 مليون ليرة شهرياً، وهو ما يعادل 10 أضعاف الأجور التي يحصل عليها معظم العاملين في الجهات العامة وللذين لا يزيد أجرهم الشهري على 150 ألف ليرة“.

استقالة أصحاب الكفاءات

ونتيجة لتدني الأجور والرواتب في القطاع الحكومي، فقد شهد الأخير خلال السنوات الماضية، آلاف الاستقالات لأصحاب الكفاءات في مختلف الاختصاصات، ذلك ما اعتبره تيناوي، “مؤشرا واضحا على تردي الحالة المعيشية وبحث أصحاب الاستقالات عن فرص عمل بديلة“، محذرا من تحول “لاستقالات إلى ظاهرة تسهم في تفريغ المؤسسات العامة من الخبرات والعاملين الذين لديهم مؤهلات“.

الحكومة في دمشق تقف عاجزة أمام انهيار قيمة الرواتب والأجور أمام المواد الغذائية والسلع الأساسية للأسر السورية، فضلا عن انهيار العملة المحلية، الذي أفقد الرواتب في سوريا نسبة كبيرة من قيمتها، وهذا ما دفع المئات من موظفي المؤسسات الحكومية السورية إلى الاستقالة مؤخرا.

تعليقا على تدني الرواتب والأجور في سوريا، أكد عضو غرف تجارة دمشق فايز قسومة، على ضرورة ازدهار الاقتصاد حتى يعيش المواطن السوري، مشيرا إلى أن ذلك يعني بالضرورة تحسين وضع الكهرباء ورفع مستوى الدخل.

وقال قسومة، في تصريحات نقلتها إذاعة “أرابيسك” المحلية قبل أيام، إن دخل الموظفين في سوريا، لا يتناسب أبدا مع أبسط الاحتياجات الأساسية، وأضاف: “حتى لو أصبح الراتب بالحد الأدنى 500 ألف ليرة، فإنه لا يكفي لإطعامه أكثر من خبزة وبصلة“.

وزاد بالقول: “أما عندما يكون راتب الموظف 200 ألف ولديه ولدين، فلا يكفيه هذا الراتب أن يُطعم كل ولد سوى نصف سندويشة فلافل، ثلاث وجبات في اليوم، وذلك دون أن يدفع كهرباء وماء ومصاريف أخرى“.

متوسط تكاليف المعيشة

بحسب آخر الدراسات فإن متوسط تكاليف معيشة الأسرة السورية، شهِد نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2022، ارتفاعا بمقدار 563 ألف و970 ليرة سورية، عن التكاليف التي سُجلت في شهر تموز/يوليو الماضي، لتصل إلى ما يقارب الـ3.5 ملايين ليرة.

أشارت الدراسة التي نشرتها صحيفة “قاسيون“، إلى أنها اعتمدت طريقة محددة في حساب الحد الأدنى لتكاليف معيشة أسرة سورية من خمسة أشخاص، تتمثل بحساب الحد الأدنى لتكاليف سلة الغذاء الضروري (بناء على حاجة الفرد اليومية إلى نحو 2400 سعرة حرارية من المصادر الغذائية المتنوعة).

وجاء في الدراسة التي نُشرت، الإثنين الماضي: “ارتفع الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة بنحو 352,481 ليرة، منتقلا من 1,881,858 ليرة في تموز/يوليو إلى 2,234,339 ليرة في أيلول/سبتمبر، ما يعني أن التكاليف ارتفعت بنسبة وصلت إلى 19 في المئة، خلال ثلاثة أشهر فقط“.

ارتفاع الأسعار بسوريا يختلف عن العالم

على الرغم من الاستقرار في الآونة الأخيرة للأسعار العالمية التي ارتفعت بُعيد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتوقف سلاسل التوريد العالمية، والتي عادت مؤخرا بعد اتفاق استئناف تصدير الحبوب، بقيت الأسعار تميل للارتفاع بشكل مستمر في سوريا، دون وجود أي مبرر لذلك.

تقرير سابق لـ“الحل نت“، أشار إلى قرار وزارة المالية الصادر منذ أيام قليلة، والذي رفع الحد الأدنى للأسعار الاسترشادية للسكر والزيوت النباتية المستوردة، والتي تعد من المواد الغذائية الأساسية، حيث أصبح الحد الأدنى للسكر الخام 500 دولار للطن الواحد، و600 دولار للسكر المكرر، ورفع السعر الاسترشادي لزيت عباد الشمس إلى 1500 دولار، ولزيت النخيل إلى 1300 دولار، ليليه قرار آخر لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، برفع سعر السكر (النادر وجوده في الأسواق) إلى 4400 ليرة سورية للكيلوغرام المعبأ، مع توقعات برفع سعر الزيت لاحقا.

أوضح التقرير، أنه ما بين دراسة التخفيض وقرار الرفع، لم يكن لأسعار مختلف المواد الغذائية سوى أن ازدادت بنسب كبيرة ومتسارعة، فضلا عن نقص في المخازين وندرة بعض المواد في الأسواق، ليشهد الأسبوع الأخير بمفرده ارتفاعا جديدا على مختلف السلع دون أي مبّرر، حتى حجة التأثر بالأزمات العالمية ومشكلات الشحن لم تعد تنفع بعد استقرار الأسعار العالمية، بما فيها أسعار البورصات العالمية وأسواق النفط.

قد يهمك: “للتصميد وساعة الغفلة“.. هل ضاعت قيمة الجمعية في سوريا؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.