هي أزمة الطاقة مجددا في واجهة السياسات الأوروبية الخارجية بعد أكثر من ثمانية أشهر من الحرب الروسية – الأوكرانية. هذه الأزمة حملت تبعاتها على القارة ودفعت الساسة الأوروبيين إلى إعادة رسم نهج السياسة الخارجية في مجالات عدة على رأسها الاقتصادية وما يتعلق بالطاقة، وأن 40 بالمئة من احتياجات القارة من الغاز تعتمد بشكل رئيسي على روسيا، حيث بلغت في العام 2020 ما يقارب الـ 155 مليار مكعب من الغاز.

 كانت روسيا قد أعلنت في وقت سابق وقف ضخ الغاز عبر خط “نوردستريم 1” والذي يعتبر المورد الأول للغاز الروسي في القارة وألمانيا تحديدا، وتقدر طاقته السنوية بـ 55 متر مكعب، يصل بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق. كانت صحيفة “زودويتشه تسايتونغ” الألمانية قد نشرت في السابع من أيلول/سبتمبر الماضي، أنه يتعين على الكثيرين أن يتعلموا بطريقة صعبة إعادة النظر في نمط التفكير. ربما لم يتبق سوى شيء واحد للمؤسسات العامة والمستهلكين من القطاع الخاص، الذين يتعين عليهم مواجهة البرد في الشتاء بطريقة مماثلة ألا وهو التوفير المتواصل.

قد يهمك: بدائل الطاقة الأوروبية للاستغناء عن روسيا؟

 كما ارتفعت أصوات في أوروبا في دول عدة عن الحاجة إلى التوفير في استهلاك الطاقة والكهرباء، ففي فرنسا اتجهت البلديات إلى فرض قيود على استهلاك الطاقة خاصة في المعالم الأثرية في باريس كبرج “إيفل” ومتحف “اللوفر” وإنارات الشوارع بشكل عام، حيث اعتمدت إطفاء الإضاءات في المتاحف و”إيفل” من بعد العاشرة مساءا، وكانت رئيسة الحكومة الفرنسية اليزابيث بورن، أكدت بأن الحكومة ستكون مستعدة طالما تساعد السكان في تخفيض وترشيد الاستهلاك.

توقف الاعتماد على الطاقة النووية، خاصة في ألمانيا خلال عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، أدى إلى تراجع كبير في المتاح من تخديم الطاقة عبر المفاعلات النووية وتوقفت عدة محطات وخرج بعضها عن الخدمة، كانت الحكومة الألمانية في العام 2011 قررت التوقف عن استخدام محطات الطاقة النووية وذلك عقب حادثة محطة “فوكوشيما” اليابانية، ووضعت خططا للتخلي عن المفاعلات بشكل كامل في العام 2022.

لكن الوضع الحالي دفع بالحكومة الحالية إلى الاستمرار بالعمل بالمحطتين “المتبقيتينيزار 2″ و”نيكارويستهيم 2” من أصل ثلاثة عاملة، وذلك في سبيل تأمين احتياجات توفير الغاز للمصانع والمنازل أيضا خلال الشتاء القادم، على الرغم من إعلان وزير الاقتصاد استمرار النية بالإغلاق النهائي للمفاعلات لأسباب بيئية ومخاطرها على المجتمع الألماني.

 في فرنسا كانت وزارة الطاقة أعلنت إعادة العمل بالمفاعلات النووية في الشتاء المقبل، وذلك للمساعدة في أزمة الطاقة المتوقعة علما أن فرنسا تعتبر الدولة الأكثر اعتمادا على الطاقة النووية في القارة الأوروبية، حيث تشكل حوالي الــ 67 بالمئة في توليد الكهرباء، بينما الغاز حوالي الــ 7 بالمئة فقط.

دعوات في كل أوروبا

ألمانيا تعرضت مؤخرا لبعض الانتقادات ضمن الأسرة الأوروبية، بعد إقرارها سيولة للداخل بمقدار 200 مليار، حيث يرى بعض قادة الاتحاد الأوروبي أن القارة بأكملها بحاجة للتكاتف لتجاوز هذه الأزمة دون النظر للمصالح الخاصة بكل دولة على حدا. يرى السيد بنجامين غورس، أستاذ العلاقات الدولية في باريس، خلال حديثه لـ “الحل نت” أن هذا الإجراء فيه صورة لا يحبذها قادة الاتحاد ذو التوجه الأوروبي، وأن العلاقات الأوروبية – الأوروبية أمام امتحان حقيقي. هنالك صعوبات عدة ستواجهها دول الاتحاد والمفوضية الأوروبية عموما، وفق غورس، فأوروبا بحاجة لأن تقف صفا واحدا إذا ما أرادت أن تستمر بسياسة المصير المتقارب أو المشترك إن أمكن القول، من هذه الرؤية كانت الانتقادات التي وجهت لحكومة شولتس بتفضيلها دفع مبلغ كبير في الداخل الألماني على حساب استراتيجية أوسع على مستوى القارة ككل، وهذا يضيف تحديا جديدا في إيجاد توافق مصالحي بين دول الاتحاد خاصة الكبيرة منها وعلى رأسها ألمانيا بالطبع.

 ألمانيا آثرت أن تؤمن حاجاتها الداخلية بسبب أنها الأكثر تأثرا بإيقاف الاستيراد من روسيا بحسب حديث الصحفي المختص بالشأن الألماني، حسن زنيدي، لـ “الحل نت”، كما يرى بأن الحكومة تعمل على إيفاء التزاماتها الأوروبية دائما. يطالب الأوروبيون دائما ألمانيا وهي أكثر الدول التزاما بأوروبا، مبلغ الـ 200 مليار كان لابد أن يتم تأمين البيت الداخلي، فألمانيا تعتمد بشكل كبير جدا على الغاز الروسي وهي أكثر المتضررين، ومع ذلك استمرت وتستمر في دعمها لأوكرانيا.

 ألمانيا دعمت بشكل كامل أوكرانيا في حربها وقدمت لها مساعدات عسكرية كبيرة جدا، كما صرحت وزيرة الدفاع “لامبريخت” وأعلنت باستمرار تقديم الدعم الإنساني والمالي، وفق الزنيدي، ألمانيا كانت من أوائل الدول المساندة لأوكرانيا في هذه الحرب، على الرغم من الصعوبات المتوقعة في الطاقة.

آثار اقتصادية واجتماعية

بطبيعة الأحوال ستنعكس هذه الأزمة على اللاجئين في أوروبا حيث طالهم غلاء الأسعار والتضخم الناتجان عن أزمة الحرب والطاقة، والذي وصل بالتضخم إلى أقل بقليل 10 بالمئة، ما خلق صعوبات حياتية أثرت على مشاريع بعضهم المستقبلية، يروي محمد صادق لـ “الحل نت” عن تغير كبير في المصاريف الشهرية ما زاد صعوبات فكرة الزواج لديه، حيث يعمل طبيب وراتبه الشهري جيد جدا يعتبر، ومع ذلك فأساس متطلبات الزواج التقليدي ضمن أوروبا مرتفعة وهذه مشكلة بحد ذاتها، وفق تعبيره.

 مع غلاء الأسعار الأخير باتت المعيشة قاسية، حيث زاد سعر بعض السلع زاد بأكثر من خمسين بالمئة، في فرنسا يتحدث عمر البني، طالب سوري في باريس لـ “الحل نت” عن ارتفاع كبير في الأسعار، ما ضاعف المصاريف المعيشية والتي يراها مرتفعة من الأساس، الأسعار في فرنسا مرتفعة مقارنة بغيرها ومقارنة بمعدل الرواتب، البني يدفع أكثر من نصف تعويض الطالب مصاريف معيشية فقط، ويعيش في غرفة لا تتجاوز الـ 10 أمتار في سكن جامعي، حيث يعتبر نفسه محظوظا بأنه يملك مكانا يعيش فيه، فهناك من لا يجد غرفة حتى، ومع ارتفاع الأسعار أصبح الوضع أكثر قسوة وصعوبة.

 من ناحيته كان التضخم وارتفاع الأسعار المتأثر بأزمة الطاقة المتصاعدة، محور الأحداث السياسية الداخلية في بعض البلدان الأوروبية مؤخرا، ففي ألمانيا، كان الاتحاد الألماني للجمعيات الصغيرة والمتوسطة أجرى مسحا عن هذه الشركات في ظل الأزمة كشركة “الريفي” التجارية والتجزئة تبين فيه أن 26 بالمئة من الشركات، تتوقع انخفاضا في المبيعات في الأشهر المقبلة بعد أن كانت النسبة لا تتجاوز الـ 16 بالمئة في تموز/ يوليو الماضي، ومعه انخفضت الأرباح حوالي 30 بالمئة مع الإبقاء على العدد نفسه من الموظفين لدى هذه الشركات.

البرلمان الألماني شدد على منح الـ 200 مليار في سياسة مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، بحسب الصحفي حسين الزنيدي، بينما رأي بيتر أدريان، رئيس اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية، أن هذه المنحة المالية خطوة جيدة لكنها مؤقتة ولن تحل المشكلة لأنها ستقلل السعر على المستهلك النهائي. أما في فرنسا، فقد زادت الأزمة بين الكونفدرالية العامة للشغل وشركتي الطاقة “أكسون موبيل” و”توتال انيرجي” من صعوبة الموقف الاقتصادي، حيث تواجه أكثر من 20 بالمئة من محطات الوقود في فرنسا صعوبات في الإمداد منذ أكثر من أسبوعين بعد الإضرابات العامة من نقابات العاملين في القطاع، حيث طالب العمال بزيادة الرواتب لمواجهة التضخم العالي في البلاد في أزمة جديدة في فرنسا استدعت دعوة من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، إلى التحلي بالمسؤولية والصبر من كل الأطراف المعنية.

ماكرون الذي كان قد أعلن انسحاب فرنسا من المعاهدة المؤسسة للميثاق الدولي للطاقة بعد انتقاده “السياسة المزدوجة” للولايات المتحدة في بيعها للغاز إلى أوروبا، حيث كانت الولايات المتحدة قد عرضت أسعار مضاعفة لـ “الغاز المسال” لأوروبا.

خيارات أخرى

خيارات عدة في أوروبا بحسب الساسة والإعلام منها خفض استخدام الغاز، حيث اتفق وزراء الطاقة في دول الاتحاد على تخفيض طوعي بنسبة 15 بالمئة اعتبارا من آب / أغسطس وحتى آذار/ مارس، مقارنة بمتوسط الاستهلاك السنوي خلال الفترة من 2017 إلى 2021، كما تم طرح على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل من أجل خزين الغاز.

صحيفة “نيبسزافا” المجرية اليسارية الليبرالية كتبت في أحد أعدادها، يواجه الاتحاد الأوروبي أشهرا صعبة للغاية، والسؤال الأكبر هو ما إذا كان سيتمكن من الحفاظ على الدعم الشعبي للعقوبات ضد روسيا. وشككت الأحزاب الشعبوية اليمينية في الشعور بالإجراءات العقابية ضد موسكو.  ستكون الأشهر القليلة القادمة أكبر محنة للاتحاد الأوروبي. ولكن إذا نجح في البقاء وإصلاحه (الاتحاد الأوروبي) من خلال تدابير استباقية، فقد يصبح أقوى من أي وقت مضى.

هذا التحدي يراه الأستاذ غوريس، على أنه من التحديات الأصعب على مستوى وحدة الاتحاد لكنه يرى أنه لا خيارات أمام دول الاتحاد. العمل بشكل جماعي هو خيار مؤيدوا أوروبا موحدة ولكن هو أيضا خيار الخلاص، حيث أنه من دون هذا التعاون المتماسك ككتلة واحدة، ستتوجه الدول إلى الحلول الفردية وهذا يعني خلق حالة من الفوضى، كما حصل نوعا ما في بداية الجائحة في العام 2020 لكن هذه المرة بشكل موسع وأكبر قد يؤثر على كتلة الاتحاد ككل.

 فكرة التنسيق ونقل الغاز بين الدول كتلك بين فرنسا وألمانيا فكرة بناءة، ليس فقط في مواجهة الأزمة الاقتصادية والطاقية، وإنما أيضا في مواجهة صعود اليمين الواضح والمتسارع في أوروبا، بحسب غوريس، والذي يرى أن السياسات الخارجية في أوروبا ليست ذات فعالية ومصلحة حقيقية للشعوب الأوروبية

العلاقات مع الولايات المتحدة تلعب أيضا دورا في خلق الرؤية الأوروبية، يقول غوريس، شهدنا كيف عملت الولايات المتحدة على بيع الغاز بأسعار مرتفعة، دفع ذلك دول عدة خاصة فرنسا إلى العمل والتنسيق أوروبيا، من أجل تجاوز هذه السياسات الفردانية.

حتى الآن لا يوجد موقف واحد في أوروبا، حيث أن النرويج مثلا ترفض وضع سقف للأسعار أو البيع بأقل من سعر السوق، والذي بات مرتفعا بطبيعة الأحوال، يعكس هذا الحال الفوضى الموجودة على المستوى العالمي والتي ستنذر بسلسلة من الصعوبات العالمية التي قد لا تنتهي قريبا.

العالم يمر بمراحل مفصلية في سياساته، ووجوده في ظل أزمات متتابعة تُعيد رسم وجه العالم السياسي لكن يبقى الجانب الاقتصادي صاحب الأثر الأكبر إلى جانب الآثار الاجتماعية، تعتبر أزمة الطاقة الحالية من اللحظات الحرجة التي تعرفها أوروبا، والتي ستحدد في قادم السنين شكل التعاون والتنسيق بين الدول خاصة مع مخلفات سياسية محتملة متمثلة بصعود يمين سيستغل الظروف المستجدة من أجل توسيع قاعدته الشعبية على حساب الأزمات والتحولات السياسية والاقتصادية.

اقرأ أيضا: العالم في خضم أول أزمة طاقة حقيقية.. ما القادم؟

 هذا كله سيكون على الإنسان الأوروبي ومن يعيش في هذه الدول الفاتورة الأغلى من أزمات تعصف بالعالم، وتترك تبعات اجتماعية وبيئة تنهك من جديد الشعوب التي ما لبثت أن عاشت وتعيش في ظروف سياسية حرجة منذ أكثر من عشر سنوات، إن كانت بأزمة اللاجئين أو بجائحة صحية أنهكت الاقتصاد الأوروبي، ثم بحرب بدأت دون بصيص نهاية قريب ومعها تزداد التكهنات عن مستقبل يوحي بشكل صعب ينتظر العالم، الذي يبدو أنه دخل في نزاع يتمخض في نهايته عن عالم جديد بقواعد أخرى جديدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.