في أعقاب المتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية المتأثرة بتحركات وصعود الصين المعادية من جهة، ومحاولات روسيا استعادة مكانتها الدولية من خلال هيمنتها على عدة دول، وكذلك غزوها لأوكرانيا من جهة أخرى، بات مرشحا لأن تصبح العديد من الساحات الإقليمية ميدانا للمنافسة بين القوى الكبرى، لذلك من المحتمل أن تكون آسيا الوسطى ساحة للمنافسة بسبب موقعها الاستراتيجي ومواردها، بالإضافة إلى هشاشة أنظمتها وافتقارها إلى صيغ تعاون إقليمي مستقلة وفعّالة، مما جعلها أقل مناعة ضد منافسة القوى الكبرى للهيمنة عليها.

الزيارة الأخيرة التي قام بها رؤساء بعض دول آسيا الوسطى؛ مثل زيارة رئيس كازاخستان لموسكو، وزيارة رئيس مجلس الدوما، فياتشيسلاف فولودين، إلى أوزبكستان، وكذلك الزيارة الأخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى عاصمة كازاخستان، أستانا، والمشاركة في قمة “روسيا – دول آسيا الوسطى”، باتت تعبيرا واضحا عن رغبة موسكو في إعادة النظر في استراتيجياتها مع هذه الدول، وبالتأكيد هذه التحركات على المستوى “الأوروآسيوي”، يشير كذلك إلى أن موسكو تتجه إلى إعادة لم الشمل مع جمهوريات وسط آسيا بعد فترة من التوترات، وسط الحرب المستمرة في أوكرانيا.

لذلك، ما غاية موسكو في إعادة علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، مثل كازاخستان، وهل سينجح بوتين في إعادة هذه الدول لحاضنته بعد أن توجهت نحو أنقرة وفرنسا مؤخرا، وما هو شكل سياسة، قاسم توكاييف، رئيس كازاخستان، مع موسكو في خضم الصراع الروسي الغربي الحالي.

دول مليئة بـ”المشاكل”

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التقى مع نظيره الكازاخستاني قاسم توكاييف، يوم الإثنين الفائت، في زيارة رسمية للأخير إلى موسكو، وعبّر الرئيسان عن وحدتهما عبر الإشادة بعلاقاتهما التاريخية التي شابتها خلافات بشأن غزو روسيا لأوكرانيا، طبقا لوكالة “فرانس برس”.

قمة أستانا التي جمعت بوتين مع نظرائه من رؤساء بلدان آسيا الوسطى “أ ف ب”

توكاييف أفاد خلال اجتماعه مع بوتين في “الكرملين”، “بالنسبة إلى كازاخستان، روسيا كانت وستظل الشريك الاستراتيجي الرئيسي”، مشيرا إلى أن “الزيارة تحمل طابعا رمزيا نوعا ما، ولكن لها دلالة سياسية أيضا”، مضيفا أن “هناك علاقات عميقة بين موسكو وأستانا في مجالات مختلفة”، منوّها إلى أن لديه “مشاريع روسية كبيرة” في كازاخستان، متعهدا بـ”بذل كل ما في وسعه” لضمان وجودها “الدائم” في البلاد.

هذا وتُعد هذه الزيارة هي الأولى لرئيس كازاخستان إلى الخارج منذ تنصيبه الأسبوع الماضي لولاية رئاسية ثانية في كازاخستان، الجمهورية السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز.

في الأسبوع الماضي، دعا توكاييف في قمة منظمة “معاهدة الأمن الجماعي”، وهي تحالف يقوده روسيا، إلى “بحث جماعي مشترك عن صيغة للسلام” في أوكرانيا. وأكد أنه “لا يجب السماح للشعبين الروسي والأوكراني الشقيقين، بالانفصال لعقود أو لمئات السنين مع أحقاد لا يمكن الشفاء منها”.

الباحث في الشؤون الروسية الدكتور نبيل رشوان، يرى أن روسيا تحاول بشتى الوسائل التقارب مع دول وسط آسيا، وأنه لا يجب أن يُنسى دخول عناصر أخرى آسيا الوسطى أثناء بدء الحرب في أوكرانيا. بطبيعة الحال، فإن العلاقة بين روسيا ودول آسيا الوسطى تثير نوعا من الجدل، فمن ناحية تخشى هذه الدول أن يتم التعامل معها بنفس الطريقة التي تم التعامل بها مع أوكرانيا من قِبل موسكو، وأنه في حال حدوث أي خلاف أو عدم توافق مع سياسة موسكو، فإن بلادهم ستكون معرضة للتهديد، خاصة وأن هناك بعض القوميين أو العناصر الروسية الذين يؤمنون بقضية شمال كازاخستان، كجزء من الأراضي الروسية.

قد يهمك: صيانة الترسانات النووية.. عودة للتسلح الخفي بين أقطاب العالم؟

رشوان أشار إلى أن دول آسيا الوسطى مليئة بالمشاكل، لدرجة أن هناك مشاكل حدودية بين كل جمهوريتين تقريبا، على سبيل المثال مشكلة قره باغ، وهو إقليم جبلي جزء في جنوب القوقاز، وبالتالي ستشهد دول آسيا الوسطى العديد من التغييرات خلال الفترة المقبلة، حتى إذا كانت جمهوريات هذه الدول لا ترحب بالتدخل الروسي في أوكرانيا.

غاية موسكو من التقارب

يبدو أن زيارة بوتين لأستانا وما أدلى به من تصريحات خلالها، تقول أن هناك تغير في توجهات موسكو يمكن أن تكون أقرب إلى تصحيح مسارات استراتيجيتها ليس فقط اتجاه هذه البلدان، بل واتجاه كل المنطقة بما يتسق ومتغيرات الأوضاع الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وذلك ما كشفت عنه متغيرات في خطاب رؤساء هذه البلدان ومواقفها التي تجنح في بعض جوانبها، على رغم ذلك، نحو تعاون مباشر وغير مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية، ومنه ما تمثل في مناورات عسكرية مشتركة جرت في طاجيكستان تحت إشراف القيادة الوسطى لقوات الولايات المتحدة، في توقيت بالغ الحرج يشهد مشاركة غير مباشرة من جانب هذه القوات في الحرب الروسية الأوكرانية، وفق تقرير لـ”اندبندنت”.

بالعودة للباحث في الشأن الروسي الدكتور نبيل رشوان، هناك أيضا أطماع صينية في جمهوريات آسيا الوسطى، وخاصة كازاخستان وتركستان، إلى جانب أطماع تركيا التي تسعى إلى مد نفوذها إلى تركستان الكبرى.

كذلك وجود مقر منظمة “الشعوب الناطقة بالتركية” في مدينة أستانا، يتيح لتركيا فرصة كبيرة للتدخل وبسط نفوذها هناك، وكذلك أذربيجان، التي قال عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “نحن شعب واحد في بلدين” رغم الاختلاف المذهبي.

هذا فضلا عن أطماع إيران في بعض دول آسيا الوسطى، لا سيما وأن معظم الشعب الأذربيجاني يعيش في شمال حدود إيران على بحر قزوين، بالإضافة إلى طاجيكستان، التي ينتمي معظم شعوبها إلى المذهب “الشيعي”، وبالتالي فإن روسيا تحاول العودة إلى إعادة توحيد هذه الدول لنفوذها، على حدّ تعبير رشوان.

من جانب آخر دول آسيا الوسطى لا تتفق مع سياسة أوكرانيا الديمقراطية، بالنظر إلى أن موسكو لا تريد أنظمة ديمقراطية حولها وهي قلقة من المد الديمقراطي الذي يحدث، بل بالأحرى يريد أنظمة شمولية مثل سلطة الحزب “الشيوعي” الحاكم في الصين، ومن وجهة نظر رشوان، فإن أنظمة جمهوريات آسيا الوسطى أكثر ميلا أو متجهة إلى موسكو، لأنها أنظمة شبه غير ديمقراطية، لكن هذا التقارب لن ينجح بنسبة 100 بالمئة، على اعتبار أن هذه الجمهوريات ستحاول المناورة مع موسكو، لأن لديهم فرصة للتقارب مع دول أخرى، مثل تركيا وإيران والصين، وبالتالي يتصور رشوان، إنه “لن يكون هناك امتداد روسي للجسور مع دول وسط آسيا كما كان في الماضي”.

في حين يرى، الباحث السياسي الروسي، ديمتري بريجع، أن بوتين، يرى أن دول وسط آسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى هي دول “يمكن أن تساعد في تخطي جزء من العقوبات الغربية”، مضيفا أثناء حديثه لموقع “الحل نت”، أن دول الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى، هي دول أقرب إلى روسيا من الدول الأخرى.

قد يهمك: العقوبات المالية تحاصر ممولي الإرهاب..على من تدور الحروب في الشرق الأوسط؟

بحسب بريجع، فإن تحسن العلاقات مع كازاخستان التي أصبحت متوترة بسبب التوجه الجديد لكازاخستان في عهد توكاييف، الذي يحاول رسم سياسة جديدة للدولة على عكس ما كانت عليه في عهد رئاسة كازاخستان السابقة. هذه السياسة هي محاولة لإظهار الاستقلال عن تصرفات “الكرملين” للمجتمع الدولي لأن كازاخستان ودول آسيا الوسطى لا تؤيد التورط في الحرب الأوكرانية، وإيقاع نفسها في مشاكل مستقبلية بسبب السياسة الخارجية الروسية، وبالنظر إلى ذلك ليس لديهم مصلحة في دعم “الكرملين”، في الملف الأوكراني.

النتائج والعقبات

في سياق متّصل، في حزيران/ يونيو الماضي، بدأت بوادر خلاف نادر بين توكاييف، وحليفه بوتين، تظهر إلى الواجهة، ما فتح الباب أمام التساؤلات حينها بشأن مستقبل العلاقات بين موسكو وأستانا، خصوصا بعدما رفضت كازاخستان دعم روسيا في الحرب الأوكرانية. وقال توكاييف حينها، “لا نريد أن نكون خلف أي ستار حديدي جديد قد تسعى روسيا لإقامته”.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يصافح نظيره الكازاخستاني قاسم توكاييف، في موسكو “أ ف ب”

كذلك، وفي الشهر ذاته، رفض رئيس كازاخستان الاعتراف بإقليمي لوغانسك ودونيتسك، كجمهوريتين مستقلتين، وذلك خلال مشاركته مع بوتين في إحدى ندوات “منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي”. وانتقد توكاييف وجود “مبدأين متناقضين في ميثاق الأمم المتحدة”، وهما “وحدة أراضي الدول من جانب، وحق شعوب تلك الدول في تقرير مصيرها من جانب آخر”، مضيفا إنه “في حال تنفيذ المبدأ الثاني بشكل كامل، فستكون هناك من 500 إلى 600 دولة بدلا من 193 فقط حاليا، ما سيؤدي إلى الفوضى”.

من وجهة نظر رشوان، لا مفر من الصدام التركي والمسار الأوراسي، بالنظر إلى المفهوم الروسي القديم، بأن بعض المناطق في آسيا الوسطى ملكها وجزء من أراضي الاتحاد السوفياتي، والمفهوم التركي بأن هذه المناطق تابعة لها ثقافيا، وسط أطماع صينية وإيرانية.

أما الباحث السياسي الروسي دميتري بريجع، فلا يعتقد أن تقاربا فعليا سيحدث بين دول آسيا الوسطى وروسيا، لأن هذه الدول لديها سياسات مختلفة تماما عن سياسات روسيا، ولا تثق هذه الدول بروسيا، لأن موسكو تركتهم وحيدة في الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولأن روسيا تبحث فقط عن مصالحها الخاصة.

كما أن لدولتي كازاخستان وباكستان، تعاون كبير واستثمارات عديدة مع الدول الغربية ومع الولايات المتحدة الأميركية، وهم شركاء في الكثير من الأمور، ولذلك يحاولون توافق العلاقات بين موسكو وواشنطن من جهة، وهم لا يتقربون في الكثير من الأمور لأنه قد يفرض عقوبات على كازاخستان أو الدول التي تتعاون مع روسيا، مشيرا إلى أن الدول الغربية تحاول أن ترسل رسائل واضحة إلى الدول التي تتعاون مع روسيا، خاصة فيما يتعلق بالملف الأوكراني، حيث سيتم فرض العقوبات إذا ساعدت هذه الدول في تخطي العقوبات التي فُرضت على روسيا، منوّها إلى أن العلاقات بين روسيا ودول آسيا الوسطى بين الشد والجذر، أي ليست بهذا القدر من التعاون أو الشراكة، طبقا لتقدير بريجع.

وفق مراقبين، لا يمكن أن يعني أن الطريق بات مفروشا بالورود أمام احتمالات عودة علاقات شركاء الأمس إلى سابق عهدها من التقارب والتعاون. إذ أن هناك من الجانبين على المستوى الثنائي، ومتعدد الأطراف، مَن لا يزال يضمر غير ما يُعلن، فضلا عن وجود القوى التي يغذّيها أصحاب المصالح الغربية ممن ينتشرون بكثرة بين ثنايا المؤسسات الحكومية ومواقع القطاع الخاص ورجال الأعمال ممن يظلون على علاقات وثيقة بدوائر ومصالح تقف على طرفي نقيض، مما تفكر فيه دوائر “الكرملين” ومن يرتبط بها في عواصم البلدان السوفياتية السابقة. وذلك ما قد يكون وراء ما نشره موقع “أونلاين 47” نقلا عن الخبير السياسي نيكولاي ستاريكوف، حول أنه على رغم ما أعلن عنه رئيس كازاخستان من خطط للتعاون مع موسكو، فإنه يظل مؤيدا للتنوع في السياسات الخارجية لبلاده، وإنه لا يقتصر اهتمامه على روسيا والصين والدول الشقيقة في آسيا الوسطى وحسب، بل يتطلع أيضا إلى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.

في المحصلة، فإن جمهوريات آسيا الوسطى تخشى التدخل الروسي السافر في أوكرانيا وما نتج عن الغزو الروسي لأوكرانيا من تداعيات، ولهذا تظل حذرة من التعامل والتقارب الروسي وستبقى على علاقات متوازنة سواء مع روسيا أو الغرب، خاصة في الوقت الراهن، حيث تعاني هذه الجمهوريات العديد من المشاكل، بجانب التصعيد الروسي الغربي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.