التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس هي التعبير التعريفي لتغيير المناخ، فحتى القرن التاسع عشر كان التغير المناخي طبيعيا، ولكن بعد ذلك أصبحت الأنشطة البشرية المسبب الرئيسي لتغير المناخ، ويرجع ذلك أساسا إلى حرق الوقود الأحفوري، مثل الفحم والنفط والغاز، حيث ينتج عن حرق الوقود الأحفوري انبعاثات غازات الدفيئة التي تعمل مثل غطاء يلتف حول الكرة الأرضية، مما يؤدي إلى حبس حرارة الشمس ورفع درجات الحرارة.

أسباب عديدة باتت تؤثر في التغير المناخي، لا تقتصر على حرق الوقود الأحفوري فقط، فهناك عمليات أخرى، من بينها توليد الطاقة والصناعة وقطع الغابات واستخدام وسائل النقل وإنتاج الغذاء وتزويد المباني بالطاقة، إضافة إلى الدور الذي تلعبه الجيوش في العالم باستخدامها الطاقة التقليدية سواء في مركباتها وطائراتها أو في الأسلحة.

في هذا السياق، وإضافة للعوامل التقليدية المؤثرة في المناخ، تلعب التكنولوجيا والعوامل الأمنية والعسكرية دورا مهما في التغير المناخي، وهو ما بات يتم تسليط الضوء عليه مؤخرا، إذ لا بد من دراسة مدى تأثير هذه العوامل على المناخ، إضافة لدراسة فكرة التحول لـ”الجيوش الخضراء” كمصطلح متداول مؤخرا بحيث تحاول هذه الجيوش الاستغناء عن الوقود الأحفوري للحد من الانبعاثات الكربونية ومدى نجاح هذه الفكرة.

دور التكنولوجيا في مواجهة التغير المناخي

مع تصاعد دور تكنولوجيا الاتصال والمعلومات في كافة الخدمات المرتبطة بحياة الفرد والمجتمع والدولة، أصبحت بدورها منصة للتغيير السلوكي وتوفير تطبيقات وحلول جديدة للتكيف مع تأثيرات التغير المناخي، وانعكاس ذلك على أمن الطاقة، والأمن الغذائي، والأمن البيئي، ومن هنا برزت اتجاهات للربط بين التكنولوجيا والتغير المناخي.

الانبعاثات الكربونية من المدرعات “وكالات”

الاتجاه الأول، يرى أن هناك تأثير سلبي للتكنولوجيا على البيئة والمناخ، وعلى الرغم من إقرار هذا الاتجاه بدوره في الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنه يركز على المخاوف المحيطة بالتأثيرات الضارة لكل من الأجهزة والبرامج التقنية على البيئة مثل، ارتفاع مستويات استهلاك الطاقة، وانبعاثات الغازات الدفيئة، والنفايات الإلكترونية، وخاصة أن الأجهزة الإلكترونية تعد قصيرة العمر نسبيا بما يتسبب في أضرار بيئية أثناء التخلص منها.

الاتجاه الثاني، يُعد الأكثر انتشارا؛ حيث يركز على دور التكنولوجيا في مواجهة التغييرات المناخية، وأهم تطبيقاتها “التكنولوجيا الخضراء”، والتي تنطوي على أحدث التغييرات في تطبيقات تكنولوجيا المعلومات بما يتواكب مع معايير الحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة، وإمكانية دمج تكنولوجيا المعلومات في الإدارة البيئية بكفاءة، ودور تكنولوجيا المعلومات في نشر الوعي البيئي عبر المنصات الرقمية، وإمكانية إطلاق مبادرات للحماية من الملوثات البيئية، والوعي بانعكاسات التغير المناخي على البيئة. ويمكن للتطور المتسارع في مجال إنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي “أي آي” أن يساهم في تقديم حلول للحد من تلك التأثيرات الضارة.

وفقا للمبادرة العالمية للاستدامة الإلكترونية “جي أي إس آي”، فإن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لديها القدرة على الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم بنسبة 20 بالمئة بحلول عام 2030 من خلال مساعدة الشركات والمستهلكين على الاستخدام الذكي، وتوفير الطاقة.

الذكاء الاصطناعي يعمل على تحسين الحوكمة البيئية والسلامة والحد من المخاطر البيئية مع التركيز على إدارة المعلومات لصنع القرار، واستخدام تطبيقات التعلم العميق، وتحليلات البيانات الضخمة لإدارة جودة المياه والهواء، وتبني تطبيقات الحوسبة السحابية، ومراكز البيانات ذات الكفاءة في استخدام الطاقة.

إقرأ:تغيّر المناخ في كينيا.. طريق نحو الصراع على “الموارد”؟

من أهم تطبيقات التكيف مع التغيرات المناخية “الزراعة الذكية”؛ وذلك عبر التحول من النظم التقليدية في الزراعة إلى النظم الحديثة التي تلعب فيها التقنيات الحديثة دورا حاسما في المساعدة في تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة. وهي تعتمد على إدخال التقنية في المجال الزراعي من جهة، وتبني ما يعرف بـ”الزراعة الذكية” مناخيا من جهة أخرى. ويتم ذلك عبر توظيف تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة مثل، الذكاء الاصطناعي، والروبوت، وإنترنت الأشياء.

“التكنولوجيا الخضراء” والحوكمة

مصطلح “التكنولوجيا الخضراء” أو “النظيفة”، جاء كتطبيق تقني لحماية البيئة، والمساهمة في وضع الحلول التقنية من أجل الحد من انبعاثات الكربون والاحتباس الحراري، وعلاقة ذلك بالأمن والاستقرار والتنمية. إذ مثلت “التكنولوجيا الخضراء” نقلة مهمة في تطبيق السياسات العامة على الاستخدامات التكنولوجية بحيث يجعل منها مناصا لتحقيق التوظيف الأمثل للموارد وتحقيق كفاءة أكبر في العمل، ودرجة عالية من تحسين الخدمة، وتحقيق الأهداف بأقل تكلفة وأكثر جودة واستدامة.

التوجه نحو”التكنولـوجيا الخـضراء”، يعزز من القدرة على البحث والاعتماد على مصادر بديلة للطاقة صديقة للبيئة وللإنسان في آن واحد، وقد بدأ يطفو على السطح توجهات “أنسنة التكنولوجيا” في سبيل الحد من التأثيرات السلبية، وتعظيم القدرات الإنسانية في مواجهة تغول الآلة على المشاعر والقيم الإنسانية، والبحث عن جوانب روحية بعيدا عن السيطرة المادية الصامتة للثورة التكنولوجية، والعمل على تطوير ومراعاة المنتجات والمعدات والنظم المستخدمة للحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، مما يقلل ويحد من التأثير السلبي للأنشطة الإنسانية.

أيضا تساهم تطبيقات “التكنولوجيا الخضراء” في مواجهة آثار التغير المناخي، وخفض نمو الانبعاثات أو الحد منها، وذلك ليس فقط على المستوى المحلي، بل كذلك على المستوى العالمي، وهو ما يدفع إلى توظيف عملية  رقمنة الطاقة في تقليل الفاقد منها، وتوليدها من مصادر متجددة، وجعل التطبيقات الرقمية صديقة للبيئة.

تحديات التحول نحو “التكنولوجيا الخضراء”

التوسع في استخدام التكنولوجيا، يتطلب توفير الطاقة، وترشيد استخدام المياه سواء في الأغراض الصناعية أو الحياتية، ودعم ونشر الأفكار المتعلقة بتطبيقات تكنولوجيا الطاقة الجديدة والمتجددة، وتوفير التمويل اللازم لدعم مشروعات التحول نحو”التكنولوجيا الخضراء”، وتحسين البحث والتطوير فيما يتعلق بتحقيق التنمية المستدامة.

أيضا من التحديات، كيفية توظيف الحلول التقنية في الحد من انبعاثات الكربون، والاحتباس الحراري. وخفض تكاليف موارد الطاقة، وتحقيق الاستخدام الأمثل لها، وعقبات إنشاء مبان خضراء، وذكية من خلال توفير استهلاك الطاقة واعتماد طابع عمراني صديق للبيئة، وتطوير ورفع كفاءة البنية التحتية لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات وترشيد استخدام الطاقة باستخدام تكنولوجيا منخفضة الاستهلاك لها، ودعم برامج البحث والتطوير في مجال تطبيقات “التكنولوجيا الخضراء”، وإطلاق المبادرات لرفع الوعي، ومواجهة مبادرات التحول الرقمي مثل، المدن الذكية، ومشكلة إدارة النفايات وإدارة الطاقة، وإدارة الانبعاثات التي يجب معالجتها لتحقيق الاستدامة والجدوى منها على المدى الطويل.

“الجيوش الخضراء”.. حل للأزمة؟

الغزو الروسي لأوكرانيا، وما ترتب عليه أدى لارتفاع غير مسبوق في الأسعار العالمية للنفط والغاز، نتيجة استخدام الطاقة كسلاح سواء من الغرب أو من قبل روسيا، أدى إلى تراجع الاهتمام العالمي بتغيرات الطاقة نتيجة لعدة عوامل أبرزها، تفاقم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في كافة أنحاء العالم بالتزامن مع الارتفاع الكبير في أسعار السلع الغذائية ومنتجات الطاقة وسط شح الإمدادات العالمية وعجزها عن تلبية احتياجات المستهلكين.

أيضا جاء هذا التراجع نتيجة ارتفاع الأعباء المالية للحكومات والشركات التي لم يعد يتوفر لمعظمها الحيز المالي الإضافي لتحقيق آمالها بشأن سياسات تحول الطاقة لبلوغ هدف الحياد الكربوني وتصفير الانبعاثات بحلول عام 2050، وذلك من أجل مواجهة التغير المناخي.

من هنا تمثل التغيرات المناخية بما تفرضه من تداعيات على كافة المستويات سياسيا واقتصاديا وأمنيا، واحدا من أكبر التهديدات التي تواجه البشرية في الفترة الراهنة وفي السنوات المقبلة. وفي ضوء تنامي التهديدات المستقبلية المرتبطة بظاهرة التغيرات المناخية، بدأ المجتمع العالمي برمته في الاهتمام بما يُعرف بـ”سياسات تحول الطاقة”، ويُقصد بتحول الطاقة أو”الانتقال الطاقوي” تهميش دور النفط والغاز الطبيعي والفحم بشكل كبير من معادلات الطاقة العالمية، والاستعاضة عنها بمصادر الطاقة المتجددة النظيفة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح في الاستخدامات المختلفة.

أيضا مع تركيز معظم التحليلات والدراسات التي تناولت ظاهرة التغيرات المناخية على الأبعاد الأمنية الإنسانية المرتبطة بالظاهرة، إلا أن الظاهرة التي تُسميها بعض الدوائر الغربية بـ “الجيوش الخضراء” لم تحظ بنصيب واسع من التناول، ويُقصد بـ”الجيوش الخضراء”، تحول الجيوش نحو استخدام مصادر الطاقة الصديقة للبيئة والمتجددة، من خلال السعي إلى إحداث تغييرات استراتيجية في بنية الجيوش والتوجه نحو بناء منظومات تُقلل من الاعتماد على الأسلحة التي تزيد من الانبعاثات الكربونية، بجانب الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة لتوفير الاحتياجات الطاقوية للجيوش، فضلاً عن التحول في استراتيجيات الجيوش والانتقال من عقيدة مواجهة التهديدات التقليدية، ووضع التهديدات غير التقليدية وظاهرة التغيرات المناخية على رأس أولوياتها.

تنامي التوجه لـ”الجيوش الخضراء”

في بريطانيا، بحسب دراسة لمركز “الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية”، وضع القائمون على التخطيط الاستراتيجي في الجيش البريطاني عددا من الأهداف التي تسعى بريطانيا إلى تحقيقها على مستوى الجيش البريطاني بحلول عام 2050، وهي الأهداف التي يُمكن إجمالها في فكرة التحول نحو “الجيش الأخضر“. ومن أهم الأهداف التي وضعها مسئولو الوزارة في هذا الصدد، بناء سلاح جوي يكون خاليا تماما من الانبعاثات الكربونية. بجانب الاعتماد على الوقود المتجدد لتلبية نصف احتياجاتهم من الطاقة، والبحث عن خطط تستهدف أن يتم الاعتماد على الطائرات والمركبات الجوية التي تدار عبر البطاريات لخفض الانبعاثات بنسبة 80 بالمئة تقريبا خلال العقد ونصف العقد القادمين.

التلوث الذي تسببه الجيوش “وكالات”

الجنرال البريطاني، ريتشارد نيجي، المسؤول عن تغير المناخ والاستدامة بوزارة الدفاع البريطانية، أشار إلى أن هذا التحول الأخضر للجيش البريطاني لا يُغفل في المقابل “تعزيز القدرة العسكرية أو على أقل تقدير، عدم الانتقاص منها”، مؤكدا أن الهدف من هذا التوجه يتمثل في “جعل الجيش البريطاني أكثر الجيوش الصديقة للبيئة”.

أيضا أشار المارشال البريطاني، مايكل فيجستون، القائد في سلاح الجو، إلى أن “تحويل الأسطول البريطاني من المقاتلات وقاذفات القنابل والناقلات وطائرات النقل نحو استخدام الوقود الحيوي البيولوجي، يمكن أن يجعل سلاح الطيران يصل إلى مرحلة الحياد الكربوني بالكامل بحلول عام 2040، أي قبل عشر سنوات من الموعد المحدد له مسبقا”.

التصريحات والاستراتيجية الجديدة للجيش البريطاني، عبرت عن توجه جاد يستهدف تحقيق “التحول الأخضر” للجيش البريطاني على المدى المتوسط والبعيد، مع التركيز على عدم تأثير هذا التوجه على قوة وقدرات الجيش البريطاني على المستوى العملياتي.

من جهة ثانية، سعت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تبني إجراءات تدفع باتجاه جعل الجيش الأميركي من الجيوش الصديقة للبيئة، كجزء من الجهود الأميركية للحد من التلوث بنسبة 50 إلى 52 بالمئة على مدى العقد المقبل. وقد أشارت جريدة “بوليتيكو” لأول مرة في آذار/مارس 2021 إلى أن “البنتاغون” يأمل في أن تعتمد جميع المركبات التابعة للجيش الأميركي على الطاقة الكهربائية بحلول عام 2030.

قد يهمك:“مهاجرو المناخ”.. لماذا يرفض العالم منحهم صفة اللاجئين؟

من أجل ذلك، خصص بايدن في ميزانية الدفاع الأميركية التي اعتمدتها إدارته مبلغا ماليا كبيرا بقيمة 617 مليون دولار للتحول المناخي لوزارة الدفاع الأميركية، مع تركيز أكثر من 40 بالمئة من الأموال على جعل قواعد الجيش الأميركي أكثر مرونة في مواجهة الاضطرابات الجوية الشديدة، وفي إطار الميزانية الجديدة، تخطط الوزارة أيضا لإنفاق ما يقرب من 200 مليون دولار أميركي على نماذج تكنولوجيا الأسلحة الأقل اعتماداً على الوقود الأحفوري و153 مليون دولار أخرى لتحسين كفاءة استخدام الطاقة للطائرات والسفن والمركبات العاملة بالفعل.

ما الدوافع للتوجه نحو “الجيوش الخضراء”؟

التماشي مع الاستراتيجيات الوطنية لمواجهة ظاهرة التغير المناخي، وهو أحد الاعتبارات الرئيسية التي تقف خلف توجه العديد من الدول نحو بناء “جيوش خضراء” صديقة للبيئة، يتمثل في كون هذا التوجه جزءا من الاستراتيجيات الوطنية والعالمية الرامية إلى مواجهة تداعيات ظاهرة التغيرات المناخية والتكيف معها والتحجيم من خطرها.

تأثير التغيرات المناخية على الصراعات المسلحة، حيث ذهبت العديد من التقديرات والدراسات إلى أن التغيرات المناخية سوف تدفع في السنوات المقبلة باتجاه زيادة معدلات الصراع المسلح في العديد من النطاقات الجغرافية، وأشارت بعض الدراسات الغربية إلى أنه “إذا لم يتم تخفيض الانبعاثات الحرارية العالمية، فإن خطر العنف الناجم عن المناخ سوف يزيد بمعدل خمسة أضعاف”، خصوصا مع الزيادة المحتملة في معدلات التنافس على الموارد الطبيعية، وهي اعتبارات تزيد من الحاجة إلى إحداث تغييرات هيكلية واستراتيجية في بنية الجيوش للتعامل مع التهديدات المستقبلية المرتبطة بظاهرة التغيرات المناخية.

بعض التقديرات أشارت إلى أن ارتفاع درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط تقع على رأس التحديات التي تواجه عمل القوات الأميركية في المنطقة، إذ تساهم ظاهرة ارتفاع درجات الحرارة في إصابة العديد من المقاتلين بشكل يومي بالإجهاد الحراري وضربات الشمس أو الإرهاق، وهي تداعيات تُقلل من قدرة المقاتلين على التحمل.

العلاقة بين التغيرات المناخية والأمن الدولي، كانت ضمن نقاش موسع في قمة “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) التي عُقدت في حزيران/يونيو 2021، حيث أصدرت مجموعة الخبراء التابعة للمجلس العسكري الدولي الخاص بالمناخ والأمن “أي إم سي سي إس”،  تقريرها السنوي الثاني حول المناخ والأمن في العالم، محذرة من “العواقب الوخيمة لتغير المناخ على الأمن”، وهي العواقب التي تتطلب تكييف الأمن العالمي على الفور مع المناخ على جميع المستويات، وأن يتم التركيز بشكل أكبر على دور الجيوش في الاستجابة لمخاطر الأمن المناخي الناشئة، وهي تحذيرات دفعت قادة الجيوش في الدول العظمى إلى أخذ مسألة “التحول الأخضر” للجيوش على محمل الجد.

أبرز التحديات أمام الجيوش العالمية

هناك إرادة سياسية واضحة لدى العديد من الدول الكبرى للتوجه نحو ظاهرة “الجيوش الخضراء”، إلا أن بعض التحديات الرئيسية تواجه هذا الطرح، الذي يرتبط بشكل رئيسي بتشكيك بعض الدوائر الداخلية في فاعلية هذا التوجه على المستوى العسكري والعملياتي، وتأثيراته المحتملة على قوة الجيوش.

في الولايات المتحدة يخشى “الجمهوريون” من أن يؤدي تبني سياسات خضراء في سلاح الجيش البري والبحري والقوات الجوية بشكل أسرع مما ينبغي؛ إلى إبطاء انتاج الأسلحة في الداخل الأميركي، ويؤكد “الجمهوريون” في هذا الصدد أن “التحول الأخضر” للجيش الأميركي قد يُعرقل قدرة الولايات المتحدة على إحراز تقدم عسكري يتلاءم مع متطلبات مواجهة التهديدات الصينية.

التحدي الآخر الذي يواجه التوجه نحو بناء جيوش صديقة للبيئة فيتمثل في التحديات البنيوية التي تعوق التحول قريبا إلى “الجيوش الخضراء”، ففي الوقت الذي تعتمد فيه معظم جيوش دول العالم بشكل كبير على المصادر التقليدية كأساس لعمل الجيوش، فإن التحول نحو الاستعاضة عن هذه المصادر بأخرى صديقة للبيئة، لن يكون بالأمر السهل، وسوف ينتج تداعيات سلبية على المستوى التكتيكي والعملياتي للجيوش.

أثر التغير المناخي على جيوش الشرق الأوسط

التغير المناخي في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي دول الخليج بشكل خاص بات يعيق الجيوش في المنطقة، سواء جيوش هذه الدول أو القوات الأجنبية المتواجدة فيها، ففضلا عن إضعاف صحة الموظفين، اتضح أن العتاد غير مناسب للعواصف الرملية الشديدة والعواصف الرعدية العنيفة.

ففي معظم أوقات الصيف تتجاوز درجات الحرارة في هذه المناطق الـ 50 درجة مئوية، وهو ما يسبب انخفاض قدرة القوات على التحمل من جهة وهو ما يسمى “الإرهاق الحراري”، وعدم كفاءة المركبات والأسلحة من الناحية القتالية من جهة أخرى خاصة من ناحية التكييف الهوائي وأنظمة الرمي والتجهيزات الإلكترونية.

كما تعتبر الفيضانات المفاجئة والعواصف الرعدية المدمرة من الأخطار المناخية المباشرة الأخرى التي تهدد الاستعداد القتالي، لهذا فإن  الأزمة المناخية لها تأثير على المهمات والخطط والقدرات وتولد إخفاقات في القدرات القتالية.

هل يمكن أن تتحول جيوش الشرق الأوسط لـ”جيوش خضراء”؟

من المهم النظر إلى حجم الإنفاق العسكري لدى أبرز دول المنطقة، من أجل استخلاص إمكانية أو قدرة بعضها على هذا التحول أم لا، فبحسب بيانات “البنك الدولي”، بلغ إجمالي الإنفاق العسكري للدول العربية خلال السنوات العشر 2009-2018 نحو 1477 مليار دولار، فيما بلغ الرقم خلال الأعوام العشرين الماضية 1999-2018 نحو 2028 مليار دولار، بما يعادل 5.6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية خلال الفترة نفسها.

الجيوش والتلوث البيئي “وكالات”

تُعَدُّ هذه النسبة مرتفعة مقارنة بمتوسط الإنفاق العسكري السنوي العالمي البالغ نحو 2.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. بشكل أكثر تحديدا، بلغت نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج المحلي الإجمالي لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تضم مجموعة الدول المتقدِّمة اقتصاديا 2.29 بالمئة خلال العقدين المذكورين ذاتهما.

تتفاوت دول الشرق الأوسط في إنفاقها العسكري بحسب حجم اقتصاداتها، ومنذ عقد التسعينيات بالقرن الماضي ارتفع الإنفاق العسكري بالسعودية، ليحتل المركز الأول بالشرق الأوسط والمركز السادس عالميا، فيما ارتفع إنفاق الإمارات العسكري بشكل ملحوظ بالتزامن مع التغيرات المصاحبة للاحتجاجات التي انطلقت في بعض الدول بالعقد الأخير.

في العام 2020، ضمت قائمة الأربعين دولة الأكثر إنفاقا في المجال العسكري عالميا ست دول عربية هي السعودية والجزائر والعراق والكويت وعمان والمغرب إضافة إلى إيران وإسرائيل.

السعودية أتت في المركز السادس على القائمة متراجعة من المركز الخامس عام 2019، وخلافا للدول الخمس السابقة في القائمة سجلت المملكة تراجعا في الإنفاق العسكري بمعدل 10 بالمئة عن عام 2019، ليكون المبلغ المنفق في عام 2020 عند حدود 57.7 مليار دولار، ولتحتل المركز العاشر على قائمة الدول التي سجلت أكبر التراجعات خلال 2020، رغم وجودها بين أوائل الدول الأكثر إنفاقا عام 2020.

لكن على الرغم من ذلك، لم تتطرق دول الشرق الأوسط بما فيها الدول العربية الكبرى لفكرة تحويل جيوشها إلى “جيوش خضراء”، من أجل مواجهة التغير المناخي، إنما لا تزال هذه الدول تعمل وفق رؤية تقوم على التأكيد على جدّية التعامل مع البُعد البيئي، وتغيّرات المناخ في إطار تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتحول الرقمي من خلال تقديم مشاريع محقِقة لهذه الأهداف، ووضع خريطة على مستوى المحافظات للمشاريع الخضراء والذكية وربطها بجهات التمويل، وجذب الاستثمارات اللازمة لها من الداخل والخارج، وتعظيم استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إطار خطط هذه الدول للتحول الرقمي.

إقرأ أيضا:قمة المناخ “كوب 27”.. محاولة عالمية لمعالجة مشاكل الأرض؟

أي أنه من الناحية العملية، لا يمكن لدول المنطقة البدء في هذا المشروع لوجود العديد من العوائق، وعلى رأسها عدم وجود خبرة كافية، وعدم وجود خطط في الأصل تنتهج هذا التوجه في الوقت الحالي، إضافة لعدم وجود موازنات مالية كافية ضمن خطط التسليح الخاصة بها تضمن العمل وفق هذا التوجه.

خلاصة واستنتاجات

لا شك أن التغير المناخي من أبرز التحديات التي تواجه العالم ككل في الوقت الراهن وفي المستقبل، وهذا ما يدعو المجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة والدول الكبرى على وجه الخصوص لإجراء العديد من الدراسات حول الحد من الانبعاثات الكربونية في شتى المجالات ومن بينها الجيوش.

من الناحية العملية هناك قدرات علمية وتقنية ومالية لدى بعض الدول للعمل نحو تحويل جيوشها إلى “جيوش خضراء” صديقة للبيئة، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الدول تجري حساباتها فيما إذا تم هذا التحول وفق ميزان القوة والناحية العملياتية للجيوش وقدرتها على مواكبة التطورات لدى الدول الأخرى.

أما بالنظر إلى منطقة الشرق الأوسط التي تعد من المناطق التي تعاني من تغير مناخي كبير، فمن الصعب على دول هذه المنطقة تحويل جيوشها وفق هذا النمط، وذلك لاعتبارات عديدة، أهمها عدم وجود تقنيات علمية وعسكرية كافية، أيضا تفتقر معظم دول المنطقة إلى التمويل الكافي للبدء بهذا التحول، كما أن جيوش المنطقة العربية في الأصل قديمة من ناحية التسليح الذي يعتمد على الأسلحة الروسية غير القابلة للتطوير، لتبقى هناك دول محدودة في الشرق الأوسط ربما تكون قادرة على السير في هذا الطريق، من بينها السعودية والإمارات والتي بدأت بالتوجه نحو الطاقة النظيفة من خلال العمل على استبدال السيارات العاملة بالوقود إلى سيارات صديقة للبيئة.

بالنتيجة فإن التغيرات المناخية دفعت العديد من الدول ودوائرها الأمنية إلى إجراء تعديلات على استراتيجيات الجيوش، بما يضمن اشتمال مهام الجيوش على مواجهة ظاهرة التغيرات المناخية والتكيف معها، كجزء من التحول في مفاهيم الأمن القومي للدول، وهو التحول الذي جعل من التغيرات المناخية على رأس مهددات الأمن القومي.

إقرأ:آثار اقتصادية لتغير المناخ.. هل يتجاوزها “كوب 27″؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.