توترات متصاعدة تشهدها العلاقات الإيرانية الأذربيجانية، من مناورات عسكرية يجريها الطرفان بالقرب من حدودهما المشتركة، إلى سحب باكو لموظفي سفارتها في طهران بعد الهجوم الذي تعرضت له السفارة، وأدى لمقتل مسؤول أمنها. ومن إعلان باكو (عاصمة أذربيجان) عن افتتاح سفارة لها في إسرائيل إلى محاولة الاغتيال الفاشلة للبرلماني الأذربيجاني، مصطفى فاضل، والمشهور بانتقاده للنفوذ الإيراني، مما وجه أصابع الاتهام بعملية الاغتيال الفاشلة إلى طهران.

حدة التوترات تزايدت مع تعزيز الجيش و”الحرس الثوري” الإيرانيين لوجودهم العسكري على الحدود الشمالية الغربية للبلاد مع تصاعد التوترات بين أذربيجان وأرمينيا. وقيام قائد القوات البرية لـ”الحرس الثوري” الإيراني، محمد باكبور بزيارة لمعسكر عاشوراء على الحدود المشتركة بين إيران وأرمينيا وإيران وأذربيجان، حسب وكالة “فارس”.

كما حلّقت مقاتلات إيرانية بالقرب من حدود أرمينيا وباكو وناختشيفان، حسب صحيفة “اعتماد”. الأمر الذي اعتبرته باكو، وفقا لمذكرة الاحتجاج المسلمة للسفير الإيراني لديها “سلوك استفزازي وغير ودي، يهدد سلامة الطيران المدني، ويزيد من تدهور العلاقات الثنائية”.

العلاقات السياسية بين طهران وباكو، كانت قد تدهورت منذ الحرب الأذربيجانية الأرمينية في ناغورنو كاراباخ عام 2020، بينما زادت أذربيجان من علاقاتها العسكرية مع خصوم إيران الإقليميين، إسرائيل وتركيا.

وبموجب وساطة روسية لإنهاء الصراع، تعّين على أرمينيا توفير ممر بري (زانجيزور) يربط أذربيجان بإقليم ناخيشيفان التابع لها، مقابل ممر (لاتشين) يربط أرمينيا بمناطق الأرمن في أذربيجان. تقاعس بريفان في تنفيذ الاتفاق، صاحبه دعم إيراني، لكون ممر زانجيزور يجرد إيران من أهميتها كدولة عبور.

في هذه الأجواء المشحونة، تحول تبادل لإطلاق نار بين عسكريين أرمن وأذربيجانيين، خلال دورية حدودية روتينية إلى معركة، اندفع فيها الجانبان نحو ذخائر أثقل. تزامن الحادث مع نشر قناة سباه “باسداران” التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني على “تلغرام” تهديد الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، بالقتل، مع إقلاع مسيرات إيرانية للقيام “بمهام استطلاعية بالقرب من الحدود مع أذربيجان وأرمينيا” حسب “I24NEWS”. مشيرا إلى أن “الحرس الثوري” الإيراني كان ينقل ويهرب المسلحين والأسلحة إلى جيب كاراباخ الانفصالي، الذي يسكنه الأرمن في الأراضي الأذربيجانية.

جذور عميقة للتوتر

الحوادث المتصلة بالأمن ليست السبب الرئيسي للتوتر، حسب موقع “فنَك”، بل نتيجة لتناقضات طويلة الأمد. لذا، من المتوقع أن يكون لهذه التناقضات تأثير على العلاقات بين إيران وأذربيجان لفترة طويلة من الزمن.

فالعداء له جذور عميقة، حسب موقع “Middle East Eye”، حيث يشير بعض الإيرانيين إلى جمهورية أذربيجان باسم “جمهورية باكو”، في إشارة إلى الأراضي التاريخية لأذربيجان التي تضم مقاطعتين في شمال إيران، ومنهم الطالب سروش ذو الـ26 ربيعا، فـ”جمهورية باكو” وفق تسميته “ليس لها مستقبل سوى الانضمام إلى وطنها الأم”. الأمر الذي يذّكرنا بالنظرة الروسية لأوكرانيا ومآل الأمور بينهما.

وكانت المملكة القاجارية الفارسية قد فقدت السيطرة على مختلف أراضي القوقاز، ومنها أذربيجان، في أوائل القرن التاسع عشر، بعد هزيمتها في حربين مع روسيا. ولا تزال الاتفاقات (كلستان وتركمنشاي) التي تنازلت بموجبها عن تلك الأراضي تثير غضب القوميين الإيرانيين، يستشهد بها عادة لانتقاد العقود والصفقات السيئة.

الباحث في مركز “الحوار للدراسات والأبحاث”، كميل البو شوكه، يُشّرّح العلاقة بين الدولتين بالقول، رغم اشتراكهما الديني/المذهبي، نجد التشيع الأذربيجاني مختلط بالفكر العلماني والفكر القومي التركي مع الواقعية الاجتماعية والسياسية، عكس إيران “الجمهورية الإسلامية”، التي يختلط فيها المذهب بالتعصب والتخلف. مما يولد خلاف بالمبادئ الدينية بينهما. منوها لعامل تاريخي جوهري. بالقول، لا نستطيع القول بوجود تاريخ مشترك بينهما، لأن المملكة التي جمعتهما تاريخيا، منذ عهد الصفويين حتى عام 1812 (معاهدة كلستان التي ألحقت أذربيجان بروسيا) وحتى عام 1925، كان يحكمها الأتراك. بعدها تفرنس النظام الحاكم في إيران، وعليه يمكن القول بوجود تشابه ديني/مذهبي وليس تاريخي أو ثقافة مشتركة.


يضيف البو شوكه في حديثه “للحل نت”، تحاول إيران عبر خلاياها النائمة في أذربيجان زعزعة أمن واستقرار الأخيرة؛ لاعتقادها بأحقية تاريخية في أذربيجان. في المقابل، هناك فكر قومي أذربيجاني ينادي بحقوق إخوته الأذر الإيرانيين. لذا، تتمحور أسباب التوتر بين الجانبين في رؤية إيران لأذربيجان على أنها أرضي إيرانية، واعتبار أذربيجان خطر على الأمن الإيراني لتعاملها مع إسرائيل ومع الأذر الإيرانيين، إضافة لمساعيها لتأسيس حلف تركي يربط آسيا الوسطى بتركيا.

في المقابل، تتوجس أذربيجان من تدخل إيران في شؤونها الداخلية عبر خلاياها النائمة. وتنتهك إيران حقوق الشعب الأذري لديها، مما يغيظ أذربيجان. كما تقدم الدعم لأرمينيا، بغية قطع الطريق أمام التحام الأذر الإيرانيين بأذربيجان، إضافة لقطعها جسور التواصل بين تركيا وأذربيجان. مما يعني أن الصراع بين الدولتين جيوسياسي، قومي، أمني. ولإضعاف أذربيجان، تبقي إيران هذه الصراعات مستمرة ودون مستوى الحرب المفتوحة، وإنما حرب استخباراتية تحت الطاولة، وتصريحات استفزازية من قادة الصف الثاني الإيراني مع انتقادات من قبل الصف الأول. غير أن حظوظ باكو بإضعاف طهران أكبر، نتيجة علاقتها الجيدة مع الغرب وإسرائيل وتركيا، مع تأثيرها على الأذر الإيرانيين.

وفقا لحديث خبير العلاقات الدولية الإيراني، علي بيغديلي، لـ”الحل نت” فإن الخلافات “بدأت بين إيران وأذربيجان عام 1990. نتيجة مساعي إيران لإنشاء نقاط ساخنة للمقاومة في أذربيجان، مما أدى للنزاع بين البلدين. قررت أذربيجان على إثره إغلاق القنصليات الإيرانية على أراضيها. رفعت العلاقة الأذربيجانية الإسرائيلية منسوب التوتر بين إيران وأذربيجان، لما يحمله الوجود الإسرائيلي في أذربيجان من تهديد أمني لإيران. نافيا احتمالية حدوث أي مواجهة عسكرية بين إيران وأذربيجان.

في الوقت الذي تنظر فيه أذربيجان إلى ناغورنو كاراباخ على أنها جزء من أراضيها وتحتلها أرمينيا، تنظر إليها إيران بأنها قضية أمنية تتعلق بالحدود الإقليمية، حسب المحلل السياسي، ديمتري بريجع. وهذه القضية تشكل عاملا مهما في توتر العلاقات بين البلدين. هذا إلى جانب التباين في السياسات الخارجية لكل منهما، من خلال ميول أذربيجان إلى الغرب والتحالف مع دول الناتو، فيما تميل إيران إلى التعاون مع روسيا والصين، بالإضافة إلى الدور الإقليمي للدولتين في منطقة القوقاز والشرق الأوسط، حيث تتعارض مصالح البلدين في بعض المجالات، مما يزيد من توتر العلاقات بينهما.

تعدد السيناريوهات

إذا قررت أذربيجان التحرك إلى أرمينيا للاستيلاء على الأراضي من أجل السيطرة على ممر زانجيزور، فمن المرجح أن تحاول إيران منع ذلك عن طريق إرسال قوات ومعدات ثقيلة إلى أرمينيا وعلى طول الحدود الأرمينية الأذربيجانية، وذلك وفقا للزميل المشارك في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، فرزين نديمي، مضيفا في حديثه لموقع “Middle East Eye”. يبدو أن إيران لديها أجندة واضحة وهي الحفاظ على طرق عبورها عبر أرمينيا مفتوحة وآمنة،  وعليه، فإن هناك ترجيح لمحدودية وسرعة احتواء أي مواجهة عسكرية بين أذربيجان وإيران، مع “بعض الخسائر الملحوظة على كلا الجانبين.

العلاقة بين الدولتين باقية على نفس الحالة، صراع مع تجنب مواجهة عسكرية أو قطع للعلاقات بين الجانبين، حسب البو شوكه، مع بقاء الحرب الاستخباراتية مشتعلة بينهما، والعمل على إضعاف بعضهما البعض. مستبعدا اندلاع مواجهة عسكرية بينهما في وقت الراهن؛ نظرا للضابطين الروسي والتركي لإيقاع العلاقة بين الدولتين. كما أن المجتمع الدولي لا يسمح بصراع مفتوح في هذه المنطقة الحساسة من العالم، إضافة إلى أن النمو الاقتصادي الهائل لأذربيجان يمنعها من دخول صراع مفتوح ينسف هذا النمو، لاسيما مع وجود العدو الأرميني المتربص. في المقابل، لا ترغب طهران بصراع مفتوح مع أذربيجان، في ضوء صراعها الموجود مع أميركا ودول المنطقة العربية، مشيرا لوجود هيئة في كلا الدولتين، وتسميها وزارة الخارجية الإيرانية بـ “الغرفة الفكرية”، وهي المختصة بإدارة الصراعات وضبطها تحت مستوى المواجهة المفتوحة. 

بدورها، ناقشت صحيفة “فيرارو” الإيرانية، أربع سيناريوهات للموقف الإيراني تجاه حرب أذربيجانية أرمينية جديدة، من انخراط عسكري شامل إلى انخراط عسكري محدود إلى اعتزال وعدم التدخل، مرجحة سيناريو إمداد طهران لأرمينيا بالأسلحة مع وجود مستشارين عسكريين إيرانيين على أراضيها.

في ظل الإصرار الإيراني على ممارسة دور “الولاية” على أذربيجان، بناء على قناعات تاريخية، يقابلها إصرار أذربيجاني على الاستقلال الاستراتيجي، وبناء علاقات خارجية تهتم بمصالح أذربيجان فقط، ولاسيما في ظل صراعها المتجدد مع أرمينيا، فإنه لا يمكننا رؤية أفق لنهاية الصراع المكبوت بين طهران وباكو، حسب إياد حمود، مدير مركز “نورس للدراسات”.

مضيفا في حديثه “للحل نت”، تلعب العوامل الاقتصادية والتجارية بين الطرفين دورا هاما في لجم هذا الصراع، غير أن سوء التقدير لتصرف معين، لاسيما من قبل طهران، قد تؤدي للانزلاق نحو صراع مفتوح بالنظر إلى القوة الأذربيجانية الصاعدة، مصحوبة باقتصاد قوي مع تحالفات وعلاقات دولية ناجحة. يمثل ممر زانجيزور عقدة منشار الصراع المكبوت بين الدولتين، فبنظر باكو الممر ضرورة سيادية لربط البر الأذربيجاني بإقليم ناختشيفان التابع لها.

فيما تراه طهران يقوض مشاريعها الجيوسياسية في المنطقة ويهدد استقرارها الداخلي، نتيجة وجود الجمهورية الأذربيجانية على تماس مع الأذر الإيرانيين. وعليه، بدون تغيّر النظرة الإيرانية لممر زانجيزور ، من خلال احترام حقوق باكو في السيادة على أراضيها، فلا حديث عن نهاية قريبة للتوتر بين الجانبين، إن لم نقل أن الأمور بينهما تزداد سوءا.         

مقولة ألبرت آينشتاين “لا يمكنك تجنب الحرب والاستعداد لها في نفس الوقت”، قد ترسم مستقبل العلاقة الأذربيجانية الإيرانية بدقة. إذ أن المخاوف المتبادلة لدى الطرفين، وما تفرضه من جهود لامتلاك أوراق القوة والضغط في مواجهة الآخر، قد تجعل الأمور تخرج عن السيطرة في مرحلة ما. ويعزز هذا الاحتمال، بلوغ التنافس التركي الإيراني المجال الحيوي، في كل من أذربيجان وشمال العراق، مع هزيمة استراتيجية محتملة لروسيا في أوكرانيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات