في سوريا، بات مفهوم “التكييش” ظاهرةً تثير القلق وتطرح تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة، فتحت ضغوط الأوضاع الاقتصادية الصعبة، حيث يجد السوريون أنفسهم مضطرين إلى اللجوء إلى هذه الطريقة المحفوفة بالمخاطر لتأمين سيولة نقدية ومواجهة احتياجاتهم الأساسية.

“التكييش” ليس مجرد ممارسة اقتصادية عابرة، بل هو نظام ذو تداعيات وآثار على الاقتصاد الوطني والشعب، فمن خلال هذه الطريقة، يقوم الأفراد بشراء السلع بنظام التقسيط ثم بيعها لاحقا مقابل دفعة نقدية أقل من قيمتها الأصلية.

هذا الإجراء يتسبب في تحمّلهم لفائدة إضافية تجعلهم يدفعون مبالغ أكبر مما دفعوا من أجل شراء هذه السلع بالأساس، وهذا الضغط المالي يمكن أن يكون مكلفا جدا على الأفراد، ويعرّضهم لمخاطر كبيرة بما في ذلك الوقوع في دوامة الديون والتّعثر في السداد.

وما يزيد من تعقيد الأمور هو أن ممارسة “التكييش” تعرض أولئك الذين يلجؤون إليها لخطر السجن، وهذا الأمر يجعله خيارا خطيرا؛ لكن في ظل ضيق الخيارات المتاحة للأفراد الذين يعانون من الضغوط الاقتصادية، يجدون أنفسهم مضطرين لتجاوز العواقب المالية والقانونية المحتملة.

“التكييش” يهدد الاقتصاد ويُضعف العملة

بحسب بعض الخبراء والباحثين، فإن “التكييش” يهدد الاقتصاد الوطني ويضعف العملة المحلية، لأسباب عدة، منها، أنه يؤدي إلى تضخم الأسعار وتقليل القيمة الحقيقية للسلع، مما يضر بالمنتجين والمستهلكين على حدّ سواء.

أحمد التوتنجي الذي يعمل موظفا في إحدى الدوائر الحكومية، قال لـ”الحل نت”، “أنا موظف حكومي، وراتبي لا يكفي لتغطية نفقاتي الشهرية، خاصة مع ارتفاع الأسعار والتضخم، لذلك اضطررت إلى اللجوء إلى التكييش، واشتريت ثلاجة بالتقسيط بسعر 30 مليون ليرة سورية، ثم بعتها نقدا بسعر 20 مليون ليرة، لأحصل على السيولة النقدية، وهكذا خسرت 10 ملايين ليرة”

ريم المسالمة، وهي ربّة منزل تعيش في درعا، ذكرتْ “زوجي يعمل في القطاع الخاص، ولدينا ثلاثة أطفال، نحن نعاني من صعوبات مالية كبيرة، ولا نستطيع توفير الأموال لشراء الأشياء الضرورية، مثل الأجهزة الكهربائية والملابس والأدوية”.

خلال حديثها لـ”الحل نت”، تضيف ريم “قررنا الاستفادة من التكييش، واشترينا غسالة بالتقسيط بسعر 20 مليون ليرة، ثم قمنا ببيعها نقداً بسعر 15 مليون ليرة، لنشتري بعض الحاجيات، صحيح خسرنا 5 ملايين ليرة وزادت ديوننا، ولم نستفد من الغسالة، ولكن ماذا نفعل، هذا هو الحال الذي نعيشه في سوريا، ولا نرى أي خيار آخر”.

من جهته كشف التاجر محمد الشريف، والذي يعمل في مجال بيع الأجهزة الكهربائية بالتقسيط، أنه يستفيد من التكييش، ويبيع السلع بأسعار مرتفعة للمشترين، ثم يشتريها منهم بأسعار أقل، ليحصل على الربح السريع، وبهذا الإجراء يربح مرتين ويزيد من رأس ماله، مبيّنا أن هذا هو السوق الذي يعملون فيه بسوريا، نظرا لتراجع القوة الشرائية.

خطر على القطاعات الإنتاجية والخدمية

ظاهرة “التكييش” ليست مقتصرة على سوريا، فهذه العملية تنتشر في بعض البلدان التي تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، إلا أن الخبير الاقتصادي، ماجد الحمصي، حذّر من تداعياتها، خاصة أنها تؤدي إلى تقليل الإنفاق والاستثمار والتوفير، وزيادة الديون والفقر والبطالة، مما يُضعف النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية.

خلال حديث لـ”الحل نت”، بيّن الحمصي أن “التكييش” يؤدي إلى تهريب الأموال والسلع إلى الخارج، وزيادة الطلب على العملات الأجنبية، وانخفاض سعر صرف العملة المحلية، مما يزيد من العجز التجاري والميزانية، فضلا عن أنه يقوض النظام المصرفي والمالي، ويزيد الفساد والتلاعب والاحتكار، مما ينال من الثقة بالمؤسسات والسياسات الاقتصادية.

ليس ذلك فحسب، فطبقا للدراسات الاقتصادية بما أن “التكييش” يشمل تجنّب دفع الضرائب والرسوم الحكومية، فإنه يؤدي إلى تقليل إيرادات الحكومة، هذا يمكن أن يُضعف القدرة على تقديم الخدمات العامة والاستثمار في البنية التحتية.

كما أنه يؤدي إلى تداول سلع وخدمات بشكل غير شرعي وقد يتسبب في تقويض الثقة في النظام المالي والاقتصادي، يمكن أن يزيد ذلك من التشدد النقدي والتضخم، وذلك سيؤدي حتما لتثبيط استثمارات الشركات والأفراد، وهذا بدوره سيؤدي إلى نمو اقتصادي ضعيف وفقدان فرص العمل.

التكييش في سوريا.. أزمة أم مخرج؟

بعد أحدث زيادة في منتصف آب/أغسطس الماضي، وصل الحد الأدنى لرواتب العاملين بالقطاع العام في مناطق سيطرة الحكومة السورية إلى 185940 ليرة سورية، فيما يبلغ متوسط تكلفة المعيشة نحو 55 ضعف الحد الأدنى، وفق إحصائيات وتقارير متخصصة.

الحد الأدنى للرواتب بعد الزيادة يعادل نحو 13.3 دولار أميركي مقارنة مع سعر الصرف وقت تحرير التقرير، إذ سجل سعر الدولار الأميركي في دمشق 13700 ليرة سورية للشراء و 13900 للمبيع، حسب موقع “الليرة اليوم” المتخصص بمتابعة أسعار الذهب والعملات الأجنبية.

في منتصف العام الحالي، تجاوز متوسط تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد، بحسب “مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة“، حاجز ستة ملايين ونصف مليون ليرة سورية، فيما وصل الحد الأدنى إلى نحو أربعة ملايين و100 ألف ليرة سورية، ليتضح حجم الهوة التي تفصل الحد الأدنى للأجور عن متوسط تكاليف المعيشة الآخذة بالارتفاع باستمرار.

لكن عقب الزيادة تضاعف حجم هذه الاحتياجات، تأثرا بارتفاع الأسعار الكبير المرافق لهذه الزيادة، إذ ارتفع متوسط تكاليف المعيشة إلى أكثر من 10.3 مليون ليرة سورية، فيما تضاعف الحد الأدنى لتكلفة المعيشة لنحو ستة ملايين ونصف مليون ليرة، وفق “مؤشر قاسيون“.

لكن هناك من يرى في ظاهرة “التكييش” مخرجا للحصول على السيولة النقدية اللازمة لتلبية الاحتياجات الأساسية، وهناك من يرى فيها أزمة تزيد من التضخم والفقر والتدهور الاقتصادي، لاسيما بعد الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته البلاد في السنوات الأخيرة.

هكذا، نجد أن العجز في الميزان التجاري السوري الذي خرج عن السيطرة، وشكّل تهديدا خطيرا للاقتصاد الوطني والمجتمع السوري، حيث أدى إلى نفاد الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة، وتدهور سعر الصرف لليرة السورية مقابل الدولار واليورو، أدى بدوره إلى انتشار ظاهرة “التكييش” داخل سوريا، في حين أن تداعياتها ستكون كبيرة وستظهر في المستقبل القريب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات