مثّل اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، نقطة فاصلة في الشرق الأوسط عبر مستويات عدة، خاصة ما يتصل بتنظيمات الإسلام السياسي السّني الذي كان له تأثير عَبر تراكماته النظرية والإيديولوجية في مسار “ثورة إيران” من خلال كتابات حسن البنا وسيد قطب (ترجم علي الخامنئي المرشد الإيراني أحد مؤلفات سيد قطب وحوله للفارسية بعنوان آخر هو “بيان ضد الحضارة الغربية”).

كما أن نجاح مسار تلك “الثورة”، في طهران، منح جماعات الإسلام السياسي السّنية دفعةً نحو تصوّراتهم لبنية الحكم وقدرتهم على الانقلاب السياسي للقفز على السلطة. لكن تباين المذاهب فيما بينهما، ظاهريا، لم يقطع امتلاكها ذات التصورات السياسية نحو الغرب والولايات المتحدة الأميركية، وتقاطعات ذلك على المستوى التكتيكي والاستراتيجي في شكل تلك العلاقات ومنسوب المصالح الذي يحدّد ويصيغ المدّ والجزر عَبر الرؤى البراغماتية لتنظيمات الإسلام السياسي بصيغتها السّنية والشيعية.

حماس والتحالف مع إيران

بدت الأحداث السياسية خطّا رئيسيا سعت من خلاله طهران، لتموضع أذرع سياساتها الخارجية في الشرق الأوسط، سواء كان ذلك قبل أحداث العام 2011، مع “حزب الله” في لبنان، أو فيما تلى ذلك عَبر اليمن والعراق وغيرها. بيد أن صيغة التحالف التي نشأت فيما بين طهران وحركة “حماس”، جاءت من خلال عدّة متغيرات جيواستراتيجية عكست ارتباكات إقليمية وتوترات دولية كشفت عن تلك التحالفات.

ثمة علاقة انتهازية تجمع إيران بحركة “حماس” الإسلامية- “الصورة من الإنترنت”

ثمة وجهتَين ينبغي النظر إليهما عند فحص تلك العلاقات الانتهازية التي تجمع “حماس” بطهران، خاصة عبر السنوات الأخيرة والضربات المتلاحقة التي مزّقت جسد تنظيم “الإخوان المسلمين”، وتداعيات ذلك على الرفض المبين الذي واجهته “حماس” كممثل لذات التيار. الأمر الذي ارتأت من خلاله طهران أن ذلك يمثّل فرصة استراتيجية لاحتواء “حماس” وتوفير الدعم المالي واللوجيستي، مما يسمح لها بالنفاذ داخل تلك الحركة والتأثير على قراراتها عَبر  فلسطين  كقضية مركزية لها بُعد ديني في ذهنية العالم الإسلامي.

فيما تبدو الوجهة الأولى أن تلك العلاقة لا ترتكز على أي أساس ديني أو أيديولوجي سواء في مفهوم “حماس” أو قادة الحكم في طهران، مما لا يجعلها في ذات التراتبية التي يتمتع بها “حزب الله” في لبنان. تمثل الوجهة الأخرى حيّز البراغماتية والآليات الوظيفية إذ يدرك الأخير -طهران – أن تلك العلاقة تسمح لها بهامش مناورة مع الولايات المتحدة الأميركية من خلال تسييل مسرح الأحداث في قطاع غزة وتداعيات ذلك في ظل تعاظم حالة الاستقطاب والصراع العسكري فيما بين روسيا وأوكرانيا والتشكيلات الجيوسياسية التي تحدث في قمة العالم. بينما الأول ينظر لتلك العلاقة باعتبارها ظهيرا داعما على مستوى التسليح والدعم المالي الأمر الذي أقرّته قادة “حماس” غير مرة خلال السنوات الأخيرة.

منح اندلاع عملية “طوفان الأقصى” خلال السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وجاهة منطقية لعديد الترجيحات التي أشارت إلى الدعم الهائل والمباشر الذي تلقّته “حماس” وذراعها العسكري “كتائب القسام” لتنفيذ تلك الضربة الفُجائية التي بدت كصدمة عنيفة لتل أبيب، مما يسمح برفع درجة تهديد الأمن الإقليمي وخلط الأوراق بشكل كبير في تلك اللحظة الحرجة التي تواجه النظام الدولي. فضلا عن كون ذلك يشي بمتانة تلك العلاقات وتحوّلها لورقة رئيسية لدى صقور طهران في صراعهم الاستراتيجي الطويل والممتد مع الغرب.

إلى ذلك، يراوح منسوب رد الفعل الصادر عن إيران، مرّة عبر مضمون الخطاب والتصريحات الرسمية، ومرات أخرى عبر وكلائها من خلال العمليات الميدانية ورفع درجة التصعيد، بمحددات الرؤية التكتيكية لطهران ومدى حاجتها لتوسيع إطار العمليات أو ضبطها. بيد أن الواقع وفحصه جيدا يؤشر إلى أن  إيران وجميع القوى الخاضعة لها سيعملون وفقا لأولوية الوضع في غزة ومدى تطور الوضع الميداني.

التنظيمات الإسلاموية كبوابة دخول للمنطقة

من الضروري التعامل مع مسرح الأحداث في غزة كونه في حالة سائلة، وفي طور التشكّل، من خلال كثافة الأحداث وتعدّد الفاعلين وأثرهم على مسار الأحداث. غير أن شكل وملامح  العلاقة فيما بين إيران والحركات التابعة لها، سيظل مرتبطا بمدى تغير درجة الحرب واحتياج “حماس” و”كتائب القسام” إشغال الجانب الإسرائيلي عبر جبهات مختلفة، مما يدفع بخطر توسيع أفق الحرب؛ وهي الورقة التي تناور بها إيران الولايات المتحدة الأميركية، بينما الأخيرة تدرك ذلك ودفعت بعدد من آلياتها العسكرية في الجغرافيا الساخنة كي تراقب وتدقق مسار الأحداث وتعمل على ضبط مجريات الحرب داخل أُطر تكتيكية منضبطة.

يُعد تكامل جميع وكلاء طهران في عمل منضبط ضد الأهداف الإسرائيلية والأميركية بمثابة السيناريو الأخطر الذي ينذر بانفراط جبهة الحرب نحو مناطق أخرى. ورغم قلة ترجيح هذا السيناريو وضرورة أن تحتسب إيران وتتحوّط من هذا الاحتمال وإلا تخاطر بكل وكلائها في معركة واحدة حتى وإن بدا للبعض أن ذلك يحقق مبدأ “وحدة الساحات” (الذي يحمل من الدعاية و البروباغندا السياسية أكثر من الواقع العملياتي سياسيا وميدانيا).

يُعد تكامل جميع وكلاء طهران في عمل منضبط ضد الأهداف الإسرائيلية والأميركية بمثابة السيناريو الأخطر الذي ينذر بانفراط جبهة الحرب نحو مناطق أخرى.

غير أن إيران ستدرك أن تلك اللحظة ينبغي عليها أن تعمل من خلال ربط “حزب الله” بحركة “حماس” وذراعها العسكري بشكل متدرج وتكتيكي، وأن يظل نموذج التحالف الذي تأّسس بين طهران و”حماس”، نموذجا يسمح لإيران بتشييد تجارب أخرى مع تنظيمات الإسلام السياسي السُّنية، الأمر الذي يسمح لها بالانخراط في مسارح الشرق الأوسط.

في هذا السياق المهم واللافت، يذهب الدكتور محمد الزغول الباحث المختص في الشأن الإيراني، إلى أن المتغيرات الأساسية التي حكمت وصاغت العلاقة فيما بين تنظيم الإخوان وإيران خلال السنوات الأخيرة جرت عبر عوامل عدة ساهمت بالتقارب فيما بينهم. ومن أهم تلك العوامل حالة الضعف التي أصابت الإخوان، مما جعلها في وضع بعيد عن منافسة إيران في زعامة العالم الإسلامي، بمعنى عدم حضور التنافس الأيديولوجي على قيادة الحراك المناهض لدول الاعتدال.

يتابع الزغول في إطار تصريحاته لـ”الحل نت” بقوله إن إيران ارتأت يقينا بأن هذا التيار “الإخوان المسلمون” حاليا يمر بحالة وهن، وذلك بعدما كانت تنظر إليه بخشية خاصة خلال تلك الفترة التي تمكّنت من السيطرة على حُكم مصر وتونس، مما حدا بطهران أن ترتاب من خطر الإخوان خصوصا خلال الفترة التي وصل فيها الإخوان إلى حكم مصر، وبدا فزع طهران من تشكّل هلال إخواني في مقابل الهلال الايراني.

ثمة عامل آخر ينبغي الانتباه إليه وهو أن الايرانيين عندهم تناقضَين؛ تناقض دائم مع “الصهيونية” و”قوى الاستكبار العالمي” كما في أدبياتهم، وتناقض آخر مع السلفية الوهابية. فالآن السلفية الوهابية وما يتفرع عنها من تنظيمات إرهابية  تحتل مساحة رئيسية من  تناقض إيران مع العالم قد تراجعت بفعل عاملين: العامل الأول يتمثل في تراجع تنظيمات إرهابية سنية بشكل عام وكذا اندحارها في المعركة التي حصلت في العراق وسوريا.

تخوف طهران من تشكّل هلال إخواني في مقابل الهلال الايراني أدى إلى التحالف مع التنظيمات الإسلاموية- “الصورة من الإنترنت”

هذا فضلا عن هزيمتها أمام التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب. وبالتالي تفككت “داعش” وتفككت “القاعدة” نسبيا. ثم الجانب الآخر يبدو في توجهات المملكة العربية السعودية الجديدة والمنفتحة اجتماعيا وثقافيا والتي خلعت رداء المفهوم السّلفي وتخلّت عن  الدولة الدينية السلفية، وتحولت إلى محددات دولة وطنية طبيعية متخلية على ضوء عن فكرة زعامة العالم الإسلامي بالمعنى الأيديولوجي ومتخلّيةً عن السلفية التي كانت إيران في تناقض عميق معها. الأمر الذي جعل خشية إيران من أن ينافسها في الجانب السّني على زعامة العالم الإسلامي ولتيارات الإسلاموية تتراجع قليلا وتتجه إلى تدشين وتمتين علاقاتٍ مع التنظيمات السّنية دون خوف من تغولها عليها.

صيرورة حالة المقاومة

يرى الدكتور محمد الزغول في سياق تصريحاته لـ” الحل نت”، أن “الوضع في سوريا من جهة أخرى لعب دورا لافتا في تخفيف حدة التناقضات بين حماس كممثل إسلاموي تنظيمي سنّي وإيران لأنه كان تناقضا أساسيا بين إيران وحماس، حيث الخلاف حول سوريا والصراع الذي جرى هناك إذ كان تنظيم الإخوان في سوريا في حالة حرب مع سلطة دمشق بقيادة بشار الأسد. وبالتالي لم تكن تستطيع حماس أن تتخلى عن إخوان سوريا بهذا الشكل والمرتبط بالترويج لنفسها كقوة مقاومة والمقاومة مرتبطة بحق تقرير المصير. أما ظهورها كإسلامية فهو يقتضي نصرتها للإخوان المسلمين في سوريا. فلا فكرة المقاومة ولا فكرة الإسلامية كانت تسمح لها بأن تكون في موقف مناصر لما يجري في سوريا. وكانت في حالة تناقض وحرج شديدين. فلما خفّت حدّة الحرب في سوريا أضحى لدى حماس أسباب أكثر نحو تفعيل الاقتراب من إيران أو بالأحرى القول العودة إلى إيران”.

يلفت الزغول إلى أنه من الخطأ اعتبار “حماس” كتلة متجانسة واحدة؛ إذ إنها تمثل ثلاث كتلٍ رئيسة؛ في الأول “حماس العسكرية” والثاني “حماس الإخوانية” والثالث “حماس الإيرانية”. فالأخيرة يمثلها إسماعيل هنية ومجموعة الغزاويين والسنوار. بينما تيار الثاني يمثله خالد مشعل ونستطيع القول عنهم الميل أو بالأحرى الاحتفاظ بفكرة البُعد العروبي ضمن رؤاهم السياسية، ولديهم رغبة بأن تبقى “حماس” دائما قريبة أكثر من عالمها العربي ومحيطها  العربي. ولذلك علاقاتهم دائما تتمحور حول سياقات الاستدامة مع الأطراف العربية.

عندما خفّت حدّة الحرب في سوريا أضحى لدى “حماس” أسباب أكثر نحو تفعيل الاقتراب من إيران أو بالأحرى القول العودة إلى إيران.

محمد الزغول، الباحث في الشأن الإيراني لموقع “الحل نت”

 التيار الإيراني داخل “حماس” السياسي كان يعتقد منذ البداية أن العرب لن يقدّموا لـ”حماس” شيء. وبالتالي الأفضل لهم العمل نحو الاقتراب مع إيران بشكل فاعل، وبدون تركيز على الحساسيات المذهبية. أما الجانب العسكري من “حماس” فلا شك بأنه مرتبط ارتباط عميق جدا بـ”الحرس الثوري” الإيراني. إذ إن عددا كبيرا من هؤلاء تلقّوا التدريب سواء كان في العراق أو في لبنان أو في إيران ذاتها على يد “الحرس الثوري”. وهؤلاء عقيدتهم القتالية وسلاحهم وتمويلهم مرتبط بطهران بشكل مباشر رغم أي تقاطعات بينية حدثت فيما بينهم.

إذاً ما يجمع تلك التيارات ويقرّبهم صوب هدف واحد ومحدد هو ما يمكن تسميته بصيرورة حالة المقاومة وديمومة ذلك تستدعي بالضرورة التحالف مع طهران.

“حماس” و”الحرس الثوري”

ثمة نقطة لافتة حول ما إذا كانت إيران تتعامل مع “حماس” بنفس المنطق السابق لدى الأخيرة، ويجيب الزغول بـ”لا”. ويقول إنه في إيران ثلاثة اتجاهات، فإيران الحرس الثوري مرورا بالمرشد علي خامنئي ويعني بيت القائد وحتى إيران الحكومة. هذا على الجانب السياسي. وبالتالي هؤلاء يمثّلون  مراكز صنع القرار الثلاثة الرئيسية.

الحكومات في إيران بغض النظر عن توجهاتها هي بالنهاية معرضة للناخبين كل عامين. وبالتالي أولوية الحكومة هي الوضع المحلي في إدارة البلاد بينما “الحرس الثوري” أولويته مشروع الثورة. وهنا مساحة الحركة الخاص بالحرس ممتدة عبر الجغرافيا وضد الغرب. وأخيرا قائد المؤسسة الدينية وامتداده الاقتصادي.

إلى ذلك يحدد الزغول أن أقوى ارتباط حاصل مع “حماس” يقع مع “الحرس الثوري”، وهو الذي يدفع نحو الحفاظ على الحركة ومنع انحسارها في المجال العام داخل فلسطين واعتبار أن اجتثاث الحركة الإسلامية من القطاع خطٌ أحمر لن يسمح “الحرس الثوري” في إيران بحدوثه بينما يتم النظر إلى خسارة الآليات العسكرية باعتباره أمرٌ يمكن تعويضه مباشرة شرط الحفاظ على هيكل الحركة وبنيتها داخل القطاع.

وكل ما يختص بـ”حماس” يُعد ضمن أجندة “الحرس الثوري” سواء كان ذلك مرتبطا بعلاقات الحركة مع القوى الوازنة التي ترتبط بتحالفات مع طهران مرة عبر العلاقات مع روسيا وأخرى مع كوريا الشمالية، وفق الزغول. فضلا عن تنسيق صفقات السلاح وتسليمه إلى “حماس” من كوريا الشمالية عبر قيادة “الحرس الثوري” الذي حقّق أيضا المواءمة والتنسيق ما بين “حماس وحزب الله” في لبنان وما بين “حماس والحوثيين” في اليمن وما بين “حماس والميليشيات العراقية” في العراق.

يؤكد ذلك التقارير التي ظهرت مؤخرا والتي تقول بأن مئاتٍ من الذين شاركوا في هجوم “حماس” تلقّوا تدريبا في العراق وفي إيران. وعليه هناك تنسيق مع “الحرس الثوري” منذ فترة ما بعد مقتل قاسم سليماني وتبنى فكرة إنشاء ما يسمى “الحرس الثوري الإقليمي” وهي التي من خلالها طرح فكرة وجود غرفة عمليات مشتركة لجميع التنظيمات المنضوية تحت لواء “الحرس الثوري” في طهران وغرفة العمليات المشتركة تتولى عملية التنسيق ما بين الوكلاء والفصائل التي قادت الهجمات المباغتة على إسرائيل. لأنه زاد عددهم بشكل كبير والتنسيق بينهم تراجع تحت وطأة العقوبات الدولية على إيران بما أدى إلى ضعف الرابطة ما بين إيران وما بين هذه التنظيمات.

لذلك لجأ “الحرس الثوري” لتلافي نقاط الضعف لعمل غرفة عمليات مشتركة لكل الميليشيات وأضحى مكتب إسماعيل قاآني، بنفسه هو الذي يشرف على غرفة العمليات المشتركة. وهذا عمل تمّ تنسيقه ما بين كل التنظيمات التي يمكن تصنيفها تحت محور تنظيمات ما تعرف بـ”محور المقاومة” فضلا عن كون “الحرس الثوري” استطاع حل الخلافات العميقة التي كانت موجودة ما بين “الجهاد الإسلامي وحماس”.

وأجرى مصالحة بينهما عبر زيارات مكوكية قام بها ضباط من الحرس وقاموا من خلالها بعقد مجموعة كبيرة من اللقاءات ما بين قادة “حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله” ومن خلالها تم إنهاء معظم الخلافات التي كانت تعوّق التنسيق بين كل تلك التنظيمات وذلك بدا واضحا خلال الأحداث الميدانية الأخيرة في قطاع غزة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة