تُعد حالة “الإخوان المسلمين” في السودان من أكثر حالات التنظيم غرابة، حيث انفلتت الجماعة من مبدأ الولاء والبراء؛ لصالح جملة من الانقسامات؛ جعلتها أشبه بتيار عام، أكثر من كونها تنظيم هرمي مُحكم القيادة.
واقع التنظيم في السودان يشي بوجود مقاربة أشبه بــ “التشظي الخلّاق”، ففي السودان، الآن، تنظيمان يحمل كلّ منهما اسم “الإخوان المسلمون”، بعد فشل عملية الاتحاد، وانسلاخ جناح عوض الله حسن سيد أحمد، بالمجموعة الأكثر فعالية، والتي خلّفه على قيادتها، سيف الدين أرباب، بينما يقود المراقب العام، عادل علي الله إبراهيم، التيار التقليدي المعترف به من الجماعة الأم في مصر، رغم أنّه الأقل تأثيرا. إضافة إلى ذلك، تنتشر الأيديولوجيا الإخوانية بين الأذرع المكوّنة للتيار الإسلامي العريض، من اليمين السلفي، مرورا بالحركة الإسلامية السودانية، المرجعية التنظيمية لحزب المؤتمر الوطني المنحل، وصولا لجماعة “الإخوان المسلمين”، جناح عادل علي الله إبراهيم، والذي اختير رئيسا للتيار؛ ما زوّد جماعة الإخوان بقاعدة انتخابية محتملة جديدة يمكن استغلالها مستقبلا، في مرحلة ما بعد الحرب.
تشظي “الإخوان” في السودان إلى تيارات وأذرع متعددة، أدى إلى ملئ الفراغ الأيديولوجي داخل مؤسسات الدولة، وتمدّد الظاهرة “الإخوانية” كمكون رئيسي يصعب التخلص منه، حتى بعد سقوط نظام البشير، وهو الأمر الذي لم تنتبه إليه قوى الحرية والتغيير (قحت)، وحكومة حمدوك الانتقالية؛ حيث أبدى الفكر الإخواني مقاومة شرسة تجاه كل محاولات التغيير، وهو ما تجلّى بوضوح إبان قرار إقالة مدير المناهج والبحث التربوي، عمر القراي، من منصبه، بعد موجة انتقادات “إخوانية” حادة، صاحبت وضع مناهج جديدة، اعتبرها “الإخوان” مسيئة للدين الإسلامي.
الإخوان والحرب كبوابة للعودة
كل الطرق قبل الحرب كانت تشير إلى أن جماعة “الإخوان” باتت في طور الأفول، فمن جهة باشرت لجنة تفكيك النظام السابق عمليات مصادرة قاسية، طالت أصول الجماعة وأموال قياديّيها، ومن جهة أخرى جاء الاتفاق الذي وقّعه عبد الفتاح البرهان، رئيس القوات المسلحة والحاكم الفعلي الحالي للسودان، مع عبد العزيز الحلو، رئيس الجيش الشعبي لتحرير السودان، على فصل الدين عن الدولة، ليفجّر حالة من القلق داخل المكوّن الإسلاموي بشكل عام، حيث جاء ذلك في أعقاب الاتفاق السوداني الإسرائيلي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2020. وفي الوقت نفسه بدأ وزير الشؤون الدينية، نصر الدين مفرح، في إعداد تشريع لحظر قيام الأحزاب السياسية على أساس ديني.
نشط “الإخوان” عبر أذرعهم المختلفة على عدة محاور، كان أولها مقاومة تحركات لجنة التفكيك، وبحسب مصدر سياسي سوداني مطلع، تحدث إلى “الحل نت”، توصل “الإخوان” إلى اتفاق مع زعيم المجلس الأعلى لنظارات البجا، محمد الأمين ترك، على التحرك الميداني، وقطع الطرق في بورتسودان ومناطق نفوذ البجا، اعتراضا على أعمال لجنة التفكيك، الأمر الذي تزامن مع اقتحام مقرها، لينتهي المطاف بحلّ اللجنة.
وفي الوقت نفسه، لم تلجأ الجماعة إلى أي مواجهات خشنة مع البرهان، في أعقاب انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وهو ما يؤكده بيتر شومان، النائب السابق للممثل الخاص المشترك لبعثة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في دارفور، حيث قال: “عندما حدث الانقلاب في أكتوبر 2021 وما بعده، التزمت جماعة الإخوان المسلمين الصمت”. حيث تخلّصت الجماعة أخيرا من محاولات حكومة حمدوك، تجفيف منابعها المالية والثقافية، ومحاصرة بؤر نشاطها اجتماعيا.
كما لعب “الإخوان” على وتر التوتر بين الجيش والجبهة الثورية الاشتراكية، وكذا الخلافات حول دمج “قوات الدعم السريع” في الجيش الوطني، ومن هنا لعب الإسلاميون دوراً رئيسيا في تصعيد التوترات.
وعلى خلفية الحرب الأهلية التي تفجّرت بين قوات الجيش السوداني، و”قوات الدعم السريع”، شبه العسكرية، أدرك “الإخوان” أن عودتهم إلى المشهد السياسي باتت مسألة وقت، حيث استدعت الجماعة مكونات الدعم الذي اكتسبته عبر عقود بين مختلف شرائح المجتمع السوداني؛ لتظهر بشكل فاعل في الأحداث، من خلال دعم الجيش؛ واستعادة نفوذها على القيادة العسكرية السودانية.
من جهة أخرى، نظر جنرالات الجيش إلى جماعة “الإخوان” كحليف محتمل، نظرا لما تملكه الجماعة من قاعدة شعبية واسعة، وقدرة على حشد الدعم بين مختلف الجماعات الإسلامية، داخل التيار الإسلامي العريض.
وبناء عليه، تحرّك الطرفان تجاه بعضهما الآخر، ونشطت اللجان الشعبية “الإخوانية”، وشبكة الجماعة الواسعة تجاه الحشد لصالح الجيش؛ نظرا لقدرتها على التعبئة داخل البلاد، بفضل اختراقها بنجاح للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، كما ظهر على الساحة، ما يعرف بقوات الظل، في بؤر القتال، وأظهر “الإخوان” بتحالفاتهم المختلفة، خاصة في ولايتي البحر الأحمر، والنيل الأبيض؛ دعما هائلا للجيش، الأمر الذي منح التنظيم بأذرعه المختلفة، قدرة أكبر على التّحرك العلني بين المكونات المختلفة، وتثبيت الأقدام على الأرض من خلال محورَين؛ الأول: هو الانتقام السياسي. والثاني هو العمل على تشكيل مليشيات مسلحة؛ تنخرط في الصراع بين الجيش و”قوات الدعم السريع”.
الانتقام السياسي
منذ اللحظة الأولى، قرّر “الإخوان” الانتقام من خصومهم، فمارس التنظيم دعاية واسعة ضدّ قوى الحرية والتغيير، واتهمها “الإخوان” بالتواطؤ مع “الدعم السريع”، وممارسة أدوار خفية ضدّ الجيش السوداني، والعمالة للإمارات.
وفي ظل تقارير أميركية أشارت إلى أن الإمارات ربما تقوم بدعم “قوات الدعم السريع”، عبر ميناء أم جرس في تشاد، تلقفت أبواق “الإخوان” الأمر، ونشطت الجماعة بشكل كبير، تجاه تحريض المكوّن العسكري على طرد السفير الإماراتي من بورتسودان، وإطلاق جملة من التصريحات المعادية لـ أبو ظبي؛ بهدف إخلاء الساحة الخارجية من أحد أبرز الأعداء الطبيعيين لـ “ لإخوان”. كما جاء ذلك، بحسب مصدر مطلع، استجابة لرغبة الفريق ياسر العطا، نائب البرهان، والذي يلعب على إقصاء الإمارات من الساحة السودانية.
وبحسب المصدر، فإنه إثر اجتماع جمع قيادة “إخوانية” بارزة، ومحمد الأمين ترك ناظر البجا، وقيادة عسكرية، يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، تم الاتفاق على تطوير عملية التشهير بالإمارات، عن طريق تنظيم وقفة احتجاجية في ولاية البحر الأحمر، لكن الوقفة شهدت حضورا ضعيفا للغاية.
جناح سيف الدين أرباب، انتقد عدم مشاركة أبناء قبائل البجا بكثافة في الوقفة، بينما أرجع ترك ذلك إلى العجلة وسوء الأحوال الجوية، وهنا أدخل “الإخوان” ذراعهم الدعوي، المتمثل في هيئة علماء السودان، على خط المواجهة مع الإمارات، حيث أصدرت الهيئة بيانا طالب بطرد السفير الإماراتي من السودان، والتظاهر أمام مقر إقامته في بورتسودان، عقب صلاة الجمعة 1 كانون الأول/ ديسمبر الجاري من أمام الجامع الكبير.
تأتي هذه التحركات، استجابة لتحالف ضمني بين الفريق ياسر العطا، وجناح “الإخوان”، حيث يسعى العطا إلى تقويض تردد البرهان، فيما يتعلق بقطع العلاقات مع الإمارات.
وبحسب المصدر أيضا، فإن الهيئة تنسق أعمالها الميدانية، بتقديم الغطاء الديني للجيش، بشكل مباشر مع مكتب الفريق ياسر العطا، عضو مجلس السيادة ومساعد قائد القوات المسلحة، والذي هاجم الإمارات مؤخرا، واتهمها بإرسال المساعدات إلى المتمردين عبر مطار إنجمينا. التحركات تواصلت على الصعيد الخارجي، حيث جرت عدة ترتيبات لتنظيم تظاهرة حاشدة، يوم 3 كانون الأول/ ديسمبر أمام السفارة الإماراتية في لندن.
وبالتزامن مع ذلك، وبحسب المصدر المطلع، التأم اجتماع ضم عمر صديق الدابي، رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة في ولاية النيل الأبيض، ومهدي الطيب الخليفة رئيس الهيئة المجتمعية لأهل النيل الأبيض، وهو من القيادات الشعبية “الإخوانية”، وفيه تمّ الاتفاق على حشد التيارات والشعبية، في مسيرة ضد الإمارات، جرت بالفعل في كوستي بالنيل الأبيض.
تأتي هذه التحركات، استجابة لتحالف ضمني بين الفريق ياسر العطا، وجناح “الإخوان” الذي يتزعمه سيف الدين أرباب، حيث يسعى العطا إلى تقويض تردد البرهان، فيما يتعلق بقطع العلاقات مع الإمارات، وبالطبع كان “الإخوان” شريكا جذّاباً في هذا السياق.
تكوين ميليشيات عسكرية
منذ اندلاع الصراع في السودان في 15 نيسان/ أبريل الفائت، تبنت “قوات الدعم السريع” لهجة مناهضة للإسلاميين بشدة، واتهمت جماعات مثل جماعة “الإخوان المسلمين” باختراق القوات المسلحة السودانية، وأكد يوسف عزت، المستشار السياسي لقوات الدعم السريع، في أكثر من مناسبة، وجود مليشيات إخوانية مسلحة، قائلاً: “نحن نقاتل الإسلاميين، وليس القوات المسلحة السودانية. وأضاف: “لقد اختطف الإسلاميون القوات المسلحة السودانية، ويريدون السيطرة على البلاد. وهذا هو السبب الجذري للحرب، لقد وعد الإسلاميون البرهان بأن يكون رئيسا كامل السلطة، دون قوات الدعم السريع”.
وبحسب تقارير ميدانية مطلعة، فإنه منذ بداية الصراع، انخرط “الإخوان” ضمن جميع القوات الموازية والميليشيات المساعدة المرتبطة بالجيش، وكذا اللجان الشعبية في أحياء الخرطوم، بالإضافة إلى خلايا التجسس التي تنشط في مراقبة تحركات العناصر الشعبية الموالية للدعم السريع.
اللافت في الأمر، هو ظهور عناصر جهادية، معروفة بولائها للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، داخل السودان؛ حيث انخرط هؤلاء ضمن الميليشيات الإخوانية، وشكل آخرون تنظيمات جهادية خاصّة، أعلنت ولاءها للجيش السوداني؛ فبعد نحو شهرين من اتساع نطاق الحرب الأهلية في السودان، أثار مقتل محمد الفضل عبد الواحد عثمان، القيادي البارز في كتيبة البراء بن مالك الجهادية، خلال معارك مديرية المدرعات في منطقة الشجرة، مخاوف من تحول البلاد إلى ساحة جذب للجهاديين، حيث إن محمد الفضل، سبق وبايع تنظيم “داعش” الإرهابي.
القيادي “الإخواني” البارز، علي كرتي، أشاد بالجهادي القتيل، ووصفه بــ “شهيد الكرامة”؛ ما يعني أن الجماعة ضالعة في استدعاء عتاة الجهاد الإسلامي؛ لمعالجة النقص الحاد في كوادرها العسكرية، بالإضافة إلى توظيف العناصر الهاربة من مراكز الاحتجاز في الخرطوم بعد اندلاع الحرب.
ويرى “الإخوان” أن المعركة ضدّ “قوات الدعم السريع” هي فرصتهم الأخيرة لاستعادة نفوذهم، والدخول في مساومة تاريخية مع الجيش السوداني، عبر توجيه قراراته السياسية في مرحلة ما بعد الحرب، بعد أن قدمت خلايا المجاهدين المسلحة، التي تضم مختلف أطياف التيار الإسلامي، نفسها كقوة ضاربة خفية للجيش، يقودها “الإخوان” كأداة فعّالة في المعارك.
- حماة تدخل بوضع جديد.. وحراك سياسي دولي بعد التطورات في سوريا
- تبعات “ردع العدوان” تظهر في دمشق ودير الزور.. ماذا جرى؟
- وسط انهيار كامل للجيش السوري.. فصائل المعارضة تتقدم في ريف حماة
- دمشق تتواصل مع السعودية ومصر وهذه آخر التطورات الميدانية بحلب
- “ردع العدوان”.. ما هي الأسباب التي أدت إلى التقدم السريع للمعارضة؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.