ليس هناك أفق لـ”هيئة تحرير الشام” وزعيمها أبو محمد الجولاني، فالسيولة التي تجري من حوله وتحت أقدامه تزعزع أي استقرار محتمل تحت وطأة الأوضاع التي تحتشد بقوة أمام بقائه واستمراره، فالجولاني بعد التخلص من أبو ماريا القحطاني بما له من ثقل ونفوذ عسكري، ثم البطش الأمني العنيف والهمجي ضد المتظاهرين، يؤكد أن طاقة القمع والعنف باتت سلاحه الوحيد، والفائض الأمني لا يعكس سوى أعباء تضاف للتنظيم وتحاصره في ظل تعرّضه للانحسار فضلاً عن ضعف مرتكزاته التنظيمية البنيوية.

التظاهرات هنا كاشفة لأكثر من مستوى وعدة أبعاد، أولهما أن الجولاني يفتقد منذ لحظة وصوله للسيطرة على إدلب لأي حاضنة أو حوامل اجتماعية وسياسية تجعله يتمدد ويستقر ويكون له ثمة مشروع يمكن لآخرين استكماله، وثانيهما أنه مجرد تكتل تنظيمي لا يتخطى كونه ثكنة عسكرية أو مربع أمني مؤقت بحماية خارجية، لا سيما تركيا، كأحد حراس بوابتها التجارية والمصالحية في تركيا، ويوفر للأخيرة ضمانات تسوية إقليمية لوجودها في سوريا مع اللاعبين المتعددين، ويشكل كذلك بطاقة لضمان (عسكري/ أمني) للوجوه الإسلاموية الراديكالية وحرية حركتها وتمددها، وأخيراً أنه يقع في منطقة تبدو كحاجز ثقيل للحديقة الخلفية للنظام التركي وروسيا للضغط على حكومة دمشق والاستدارة نحو بشار الأسد، ويستكمل الجولاني في هذه المنطقة الحصار تجاه المناطق الكردية الواقعة تحت حكم “الإدارة الذاتية” بخاصة مع الرديف الإسلاموي في شمال غرب سوريا بعفرين المحكومة بقبضة الجانب التركي وما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري”.

بالتالي، في ظل التموضع الوظيفي للجولاني داخل الحيّز الجغرافي بإدلب وحدوده وامتداداته وارتباطاته البراغماتية إقليمياً مع الطرف الخارجي الذي يوفر له الغطاء الرعائي، فإن الانقسام الذي حدث في قمة الهرم التنظيمي يفاقم وضعه على مستوى صراع آخر من خلال احتكاكه بالمجتمع وفئاته، وهو المجتمع الذي يقاوم سياساته وينبذ قيمه ويرفض دعايته وتطبيقاته المختلفة.

المحتجون في إدلب وريفها والتي خرجت في صور حاشدة وضخمة شعر من خلالها إسلاميو المدينة السورية بالأرض التي تتلاشى والهيمنة التي تتراجع والنفوذ الذي يتهدم بقوة شعبية. فالاعتداءات البالغة السوء والدهس العشوائي للمواطنين ناهيك عن الاعتقالات والتعذيب لا تعدو كونها أكثر من مجرد لحظة فقدان الصوابية السياسية وغيرها التي تؤدي إلى اندفاع البارود من دون رأس أو عقل يفكر كأي صراعات صفرية لا نتيجة أو أفق.

“هيئة تحرير الشام” وفرض نظامها

في السنوات الأخيرة، حاولت “هيئة تحرير الشام” تطوير نظام حكم خاص بها. إلا أن هذه العملية لم تكن خطّية متسلسلة ونضجت تدريجياً مع مرور الوقت. ومع ذلك، فبعيداً عن مسائل الحكم، يتطلب جزءًا مهماً من بناء الدولة إنشاء سردية تقوم على كتابة تاريخ خاص بشعب ما وتكوين ذاكرته الجماعية. وكما قال بينيدكت أندرسون في كتابه الشهير “الجماعات المتخيلة: تأملات حول أصل القومية وانتشارها”، تُبنى الدول أو “الجماعات المتخيلة” اجتماعياً، لأنه ليس من الضروري أن يعرف جميع أفراد نظام الحكم بعضهم البعض ولكن يجمعهم تاريخ وتجربة مشتركان. وينطبق هذا الأمر على “هيئة تحرير الشام” التي منذ منتصف آب/أغسطس، تقوم بنشر “موجزات” عن مختلف المدن والقرى والمناطق الخاضعة لسيطرتها، من خلال هيكلية حوكمتها البلدية، “إدارة المناطق المحررة”، وفق “معهد واشنطن“. 

عناصر تابعة لـ”هيئة تحرير الشام” يقطعون الطريق على متظاهرين في بلدة بنش في إدلب، الجمعة 17 مايو الحالي- “أ ب”

وبالتالي، يبدو أن “هيئة تحرير الشام” تحاول بناء روابط بين مختلف المناطق الخاضعة لسيطرتها مستخدمة أحداثاً تاريخية فعلية على أمل جمع سكان أراضيها لتصوير أوجه الشبه بينهم وبالتالي إنشاء “مجتمع متخيل” ضمن نظام الحكم الذي تفرضه “الهيئة”.

ووفق “المعهد الأميركي”، فثمة إشارة لتقسيمات “الهيئة” المدنية والأهداف من وراء ذلك، إذ إنه منذ 28 شباط/فبراير 2023 تم نشر 39 موجزاً حول المواقع التالية: إدلب، حارم، أريحا، الأتارب، سرمدا، سلقين، بنش، جسر الشغور، أطمة، تفتناز، كفر نجد، الدانا، دارة عزة، وادي مرتحون، أرمناز، بداما، قميناس، المرج الأخضر، منطف، حلوز، آفس، عقربات، كفر تخاريم، كفر كمين، كفر دريان، الناجية، كللي، حرنبوش، جبل الزاوية، كتيان، الدويلة، إحسم، كفر يحمول، ترمانين، ونهر العاصي، والينابيع التي تتميز بها منطقة جسر الشغور، ومهرجان الرمان في دركوش، وحمامات الشيخ عيسي، ونبذة عن الزلازل التي ضربت المنطقة بعد الزلزال الذي هزّ سوريا والذي بلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر في 6 شباط/فبراير 2023. وتؤكد هذه الموجزات مدى اتساع الحملة التي ترمي إلى بناء “مجتمع متخيل” لا يقتصر على ضم أكبر المواقع وأكثرها شهرة ضمن الأراضي الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”. 

وتابع: “في البداية، تُفصّل الموجزات موقع المنطقة، وتذكر المدن والقرى القريبة منها، ومدى قربها من إدلب، وأحياناً ارتفاعها عن سطح البحر. وبهذه الطريقة، تُظهر كيفية ترابط جميع هذه المدن والقرى والمحلات ببعضها البعض كوحدة سياسية واحدة، لكي تبني مجتمعةً ما يسمى بـ”المجتمع المتخيل”. علاوةً على ذلك، تسلط الموجزات الضوء على الميزة الزراعية التي تتمتع بها المناطق ومصادر المياه الرئيسية فيها، في إشارة إلى أن “هيئة تحرير الشام” تحاول إظهار النجاح الذي حققته في توفير هذه الموارد لسكان المناطق التابعة لها. على سبيل المثال، وفقاً لإحدى الموجزات تُعرف بلدة حارم بأشجارها وحدائقها، حيث يُزرع فيها المشمش والجوز والزيتون والتين. كما تتميز “بكثرة المياه نظراً لأمطارها السنوية الغزيرة، بالإضافة إلى تواجد سبعة ينابيع تروي غوطتها الجميلة؛ وبسبب كثرة ينابيعها أُطلق عليها  مؤرخو العصر اسم “دمشق الصغرى”.

اعتداءات على المتظاهرين

بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، فإن مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” في شمال غربي سوريا شهدت العديد من الاعتداءات القمعية من قبل عناصر “الهيئة” وجهازها الأمني بحق المتظاهرين الذين خرجوا في عدد من المدن والبلدات مطالبين بإسقاط أبو محمد الجولاني. 

كما هاجمت عربات مصفحة تابعة لعناصر “الهيئة” المتظاهرين في بلدة بنش في ريف إدلب محاولة دهسهم وتفريق المظاهرة التي خرجت في البلدة، بينما اعتدى عناصر “جهاز الأمن العام” على المتظاهرين في مدينة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي وأطلقوا الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين والاعتداء عليهم بالضرب باستخدام العصي والهروات، وأقدم العناصر على اعتقال أحد خطباء المساجد رغم إصابته السابقة على يد عناصر “الهيئة”.

إن التهميش والقمع المتزايدَين في ظل تنامي الصراعات الجهوية والمناطقية بثقلها العائلوي وما تفرضه من اعتبارات عديدة سيجعل الصِدام المرير الدموي حتمياً ومرشحاً بين كل فترة وأخرى.

وتابع: “كما حاول عناصر حاجز عسكري تابع لعناصر الهيئة بالقوة منع المتظاهرين من دخول مدينة إدلب للمشاركة في المظاهرة المركزية التي شهدتها المدينة، وتعرض أحد النشطاء الإعلاميين للاعتداء على يد عناصر الهيئة خلال محاولته دخول المدينة”.

فيما انطلقت خلال اليومين الفائتين مظاهرات حاشدة في عدد من المدن والبلدات في مناطق ريفي إدلب وحلب وعدد من المخيمات مطالبين بإسقاط “الجولاني” ورافعين لافتات تندد بالقبضة الأمنية ضد المدنيين من قبل “هيئة تحرير الشام”، وكانت “الهيئة” قد استبقت خروج المظاهرات بنشر الحواجز العسكرية وقطع الطرق ومنع دخول المدنيين من دخول مدينة إدلب. وشهدت مناطق ريفي إدلب وحلب حالة استياء شديد وغضب شعبي نتيجة الطريقة التي وصفت بالتشبيحية التي تتصدى بها “هيئة تحرير الشام” للمظاهرات الشعبية، وفق المرصد الحقوقي.

“صدام دموي”

تفاقمت الأوضاع إثر احتدام الوضع الأمني والقمعي مع المواجهة العنيفة والخشنة لعناصر “الهيئة” بحق المتظاهرين، وكانت “الهيئة” في تطويقها المدينة الجمعة الماضية ونشر قواتها بالأسلحة على نحو بالغ منذ بدء التظاهرات في نهاية شباط/ فبراير الماضي، مثيراً لحفيظة المواطنين، خاصة مع استمرار الاعتداءات والتغييب القسري بتُهم واهية منها “العمالة”. فيما يواصل وزير الداخلية في حكومة الإنقاذ التابعة لـ”الهيئة” محمد عبد الرحمن تهديداته المتسببة في تعبئة واستنفار المجتمع ضد القيود المفروضة عليه، وشلّ إرادته وحركته لتحسين شروط واقعهم السياسي والمجتمعي، فهدد بـ”الضرب بيد من حديد على كل يد تريد العبث في أمن وأمان المحرر وجرّه إلى الفتنة” متهماً المحتجين بـ”الفتنة”.

احتجاجات في مدينة بنش التابعة لإدلب السورية، في 17 مايو الحالي-“أ ب”

بدوره زعم الجولاني أنه “ليس هناك خلاف على السلطة في إدلب”، وقال إن “الاتفاق على بديل عنه بنسبة 60 أو 70 بالمئة”، وهدد بـ”استخدام القوة لحماية ما حققه خلال السنوات الماضية”. كما شدد على ضرورة “عدم العودة إلى المربع الأول” في رسالة موجهة للمتظاهرين بعدم استئناف التظاهرة حيث “العودة إلى الوراء خط أحمر بالنسبة إلى الهيئة”.

إذاً، لا يختلف الموقف المتشدد والهجومي العدائي ضد المتظاهرين والمدنيين في إدلب لدى وزير الداخلية عما يصرح به الجولاني، والذي يروج للاتهامات ذاتها كما يتوعد المتظاهرين بمزيد من القمع، وقال إن هناك “خطوط حمراء يجب أن لا يصل لها أحد”. متّهماً الساعين للحراك المدني بأن هدفهم “الخراب”، وما بين العبارة شديد العمومية والاتهامات الفضفاضة يتم القتل بشرعية مجهولة وغامضة وبأياد غير علانية كما سبق وحدث مع القحطاني.

كما أن الانقسامات والتصدّعات القائمة من الناحية التنظيمية الحركية وعلى مستوى البُنى المجتمعية لا سيما بين مركز المدينة الذي يقبض عليه الجولاني كونها مركز سلطته وريفها إنما يؤدي لمزيد من الاحتقانات والصدامات في ظل التباينات وتوغل الأزمات بينما لا تصنع انفراجة. بل إن التهميش والقمع المتزايدَين في ظل تنامي الصراعات الجهوية والمناطقية بثقلها العائلوي وما تفرضه من اعتبارات عديدة سيجعل الصِدام المرير الدموي حتمياً ومرشحاً بين كل فترة وأخرى، فـ”الهيئة” أضحت على المحك أو الحافة و تؤطرها تناقضات تهددها وجودياً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة