سقطت مروحيةٌ تقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، يوم الأحد الفائت، على طول محافظة أذربيجان الشرقية، في منطقة جبلية شمال غرب إيران. وكان رئيسي قد قام برحلة في ذلك اليوم لافتتاح سد على نهر أراس. وسافر مع الرئيس وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، وحاكم مقاطعة أذربيجان الشرقية الإيرانية، ومسؤولون آخرون وحرّاس شخصيون. لم ينجُ أي من الركاب من الحادث. 

تقول حكمة سياسية قديمة: “السياسة لا تعرف الفراغ، ولا تعترف به”. فسرعان ما يذهب سياسي يحلّ محله الآخر. هذا ما عاشته إيران خلال الساعات الماضية، فما إن أعلن وفاة رئيسي إلا وصاحبه إعلانا مرفق عن البديل وقفاً للدستور الإيراني. ليبدو السؤال هنا: هل غياب رئيسي سيؤثر على سياسة إيران وعلى المشهد السياسي في الشرق الأوسط، أم ستكون طهران أكثر شراسة؟

ترتيب كراسي السلطة أولاً

قبل الشروع في الإجابة عن السؤال السابق، توجد تفصيلة مهمّة لابدّ من ذكرها حتى يمكننا تقدير الموقف الراهن بشكل صحيح، هو أن رئيسي من الناحية النظرية هو الرجل الثاني في الدولة الإيرانية، ولا يتمتع بنفس النوع من الاستقلال والقدرة على المناورة التي يتمتع بها الرئيس في دول الديمقراطيات الغربية. فهو يخدم بناءً على طلب المرشد الأعلى لإيران. 

من يقف خلف حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه؟ (3)
يظهر الزعيم الديني الإيراني آية الله علي خامنئي في نشرة أخبار بي بي سي في هذه الصورة التوضيحية التي التقطت في 19 مايو/أيار 2024. (تصوير ياب آريينز/غيتي)

كما أنه لا يتمتع بسلطة مستقلة لصنع السياسة الخارجية. لذا فإن وفاته ستكون في الواقع تتعلق بملء مكانه بإيجاد شخص يتقدم ويتدخل للحفاظ على التماسك داخل النظام. وعلى المدى القريب، ستكون التأثيرات الرئيسية محلية وليست دولية. لأن السلطة القسرية للدولة في إيران تخضع للمرشد الأعلى، وليس للرئيس. 

ومع هذا، فقد كان رئيسي شريكاً موثوقاً به وصديقاً أيديولوجياً للمؤسسة الدينية الثورية. وفي الواقع، تكهّن الكثيرون أن يترشح لمنصب المرشد الأعلى بعد مغادرة آية الله علي خامنئي البالغ من العمر 85 عاماً المشهد. فقد كان خامنئي يثق برئيسي كخليفةٍ له بسبب قساوته مع الإصلاحيين عكس ابنه مجتبى. 

لهذا ربما تثير وفاة رئيسي احتمالات تجدد التنافس على المنصب. وهذا لا يضمن صعود الشخص الذي يُنظر إليه على أنه المنافس الرئيسي لرئيسي على هذا المنصب، نجل خامنئي. 

هناك مقاومة عميقة لوراثة السلطة في إيران، ولا تزال المؤسسة الدينية الأوسع تفتخر بامتلاكها خطاً عميقاً من الجدارة، وهو ما من شأنه أن يؤدي صعود مجتبى إلى المحسوبية إلى تقويضه بشكل أكبر من صعود رئيسي. 

المحلل السياسي، فلاح الذهبي، في تعليقه لـ”الحل نت”، حول تداعيات مقتل رئيسي على المشهد السياسي العام، يرى أن إيران دولة مؤسساتية لا تتعاطى مع أشخاص سواء في إيران أو العراق أو المنطقة بكاملها؛ لأنها تتحرك في سياستها وفق مصالحها وأمنها القومي فقط، فهي دولة قومية وليست دينية كما يتوهم البعض وحادثة سليماني شاهد على ذلك وكذلك من قُتلوا في سوريا أيضاً. 

فإيران لم تضرب إسرائيل بشكل مباشر من أجل فلسطين بل حدث ذلك  حينما طال الأمر أمنها القومي المتمثل بسفارتها في دمشق. لذا فإن إيران ستكون مضطرة خلال الفترة المقبلة للتعاطي مع العراق والمنطقة بنهج مختلف. 

بل ويتوقع الذهبي، أن تتخلى طهران عن الحرس القديم في العملية السياسية في العراق لاستبدالهم بوجوه مقبولة شعبيا كتغيير في نهجها تجاه العراق، وهذا ليس له علاقة بموت رئيسي وإنما لأن الصراعات في الشرق الأوسط ستأخذ أشكالاً جديدةً من المحافظة على سياسة التهدئة، والمحافظة على المكاسب السياسية الراهنة دون التمدد المندفع أو المتهور، وخاصة أن إيران وحتى الفترة المقبلة ستكون مشغولة بترتيب بيتها الداخلي.

سياسة طهران وفقاً لطبيعة رحيل رئيسي !!!

خلال ما يقرب من ثلاث سنوات في السلطة، قام رئيسي بنقل السياسة الداخلية والسياسة الاجتماعية في إيران باتجاه أكثر تحفّظاً ودفع البلاد إلى مزيدٍ من دور الخصم الواضح للولايات المتحدة في المنطقة بعد سلفه حسن روحاني – الذي هزمه في الانتخابات الرئاسية عام 2017 – سعى أولاً إلى تحقيق انفراجة مع الغرب بشأن البرنامج النووي الإيراني قبل تكثيف الهجمات بالوكالة. 

من يقف خلف حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه؟ (2)
رجل يقرأ صحيفة تحمل على صفحتها الأولى تقريرًا عن تحطم مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خارج كشك في طهران في 20 مايو/أيار 2024. (تصوير عطا كناري/وكالة الصحافة الفرنسية)

هنا يشير الباحث المختص في الشأن الإيراني، أسامة الهتيمي، إلى أن الرحيل المفاجئ للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وطبيعة هذا الرحيل، هو بمثابة صدمة كبيرة لتزامن ذلك مع تفاعلات وتطورات خطيرة تشهدها المنطقة سيما قطاع غزة. 

كذلك ما تبع هذه الأحداث من تداعيات أبرزها الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل فضلا عن تكثيف الجهود من أجل احتواء البرنامج النووي الإيراني وآخرها المحادثات الأميركية – الإيرانية التي ترعاها سلطنة عمان. 

وعلى الرغم من أن الجميع يدرك أن تحديد السياسة الإيرانية الخارجية والداخلية على السواء مرهونةٌ بما يراه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وطبعا وفق ما أٌعطي من صلاحيات مطلقة، الأمر الذي يعني أن غياب رئيسي لن يؤثر كثيرا على التحركات الإيرانية أو مواقفها إزاء الملفات المعنية بها. 

إلا أنه ووفقا لحديث الهتيمي لـ”الحل نت”، فإنه لا يمكن التكهّن بشكل حاسم بردود فعل كلٍّ من إيران أو أذرعها في حال ثبُت أن هذا الرحيل نتيجة عملية اغتيال من قبل الولايات المتحدة الأميركية أو إسرائيل، إذ سيعمل ذلك وفي الحد الأدنى على زيادة التوتر في المنطقة والإيعاز للأذرع الإيرانية بالتصعيد كشكل من أشكال الثأر والانتقام لاغتيال رئيسي ومرافقيه. 

فيما ستتباطأ بكل تأكيد المباحثات المتعلقة بالبرنامج النووي وهو الموقف الذي سيحظى ببعض الدعم الشعبي تعبيرا عن رفضه لاغتيال قياداته. 

في مقابل ذلك وفي حال أثبتت التحقيقات أن مقتل رئيسي ومرافقيه كان حادثا عارضا وليس للخارج يدٌ فيه، وهي النتيجة التي ظهرت بالأمس وفقا لـ هيئة الأركان الإيرانية، فإن غالب الأوضاع ستكون على ما كانت عليه في عهد الرئيس رئيسي دون تغيير كبير فيما يتعلق بالخارج؛ وإن كانت تشير بعض المؤشرات إلى أن رحيل رئيسي على المستوى الداخلي يُعد فرصة جيدة لعقد مصالحة بين النظام والشعب الذي كان يرى في رئيسي جزّاراً لمشاركته في الإطاحة باحتجاجات 2019 أو تورّطه في مذبحة 1988 وغير ذلك.

ضعف التقنية الإيرانية

إن رحيل رئيسي ووزير الخارجية لا تمثل مشكلة في دولة كبيرة مثل إيران، وإنما القلق يأتي من الحِراك من قبل المؤسسات داخل إيران مما يؤثر على طبيعة الأحداث في الشرق الأوسط بالتحديد في  البلدان التي بها أذرع إيرانية عسكرية. 

من طهران إلى دمشق فضيحة ارتباك تزلزل حكومة رئيسي وإيران (5)
عرض صواريخ وهمية على لافتة تصور زعيم حركة الحوثي اليمنية عبد الملك بدر الدين الحوثي خلال معرض أقيم تضامنا مع الفلسطينيين في 03 يناير 2024 في صنعاء، اليمن. (تصوير محمد حمود/ غيتي)

فربما يسعى “الحرس الثوري” الإيراني، وهو أكبر فرع من القوات المسلحة الإيرانية إلى السيطرة بشكل أكبر على مساحات كبيرة من اقتصاد البلاد، وأن يستخدم الاضطرابات لتعزيز قبضته ومن المرجّح بنفس القدر تقريباً احتمال ظهور شخصية سياسية من داخل الحكومة تتعهد بالإصلاح وتحسين الحُكم والتنشيط الاقتصادي. 

ومن غير الواضح حجم التغيير الحقيقي الذي قد يحدثه ذلك. هذا مع وجود احتمال حدوث اضطرابات جذرية هو أقل من 10 بالمئة. وهنا يُلفت الباحث اليمني، نبيل البكيري، إلى أن مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يمثل خسارة كبيرة للنظام الإيراني وسيكون له تداعيات ما على السياسة الإيرانية ومن ثم على سياسات الشرق الأوسط، عموماً وذلك لما أظهر الحادث من ارتباط وهشاشة الدولة الإيرانية كدولة تقدم نفسها قوى إقليمية. 

بل أظهر الحادث طبقا لحديث البكيري لـ”الحل نت”، بأنها أقلّ بكثير من أن تكون قوى إقليمية وهي لا تستطيع الحفاظ على سلامة كبار قادتها وزعمائها، هذا عدا عن حالة العجز الكبير الذي ظهرت به إيران تقنياً، وكل هذا يكشف إلى أي مدى إيران دولة هشّة وغير متقدمة تكنولوجياً بعكس الصورة التي حرص الإعلام الإيراني على مدى سنوات أن يقدمها عن إيران التكنولوجية والنووية والمتقدمة. 

اليمن بالتأكيد ليست خارج مسار هذا الأمر، فإيران بهذه الطريقة دخلت في مرحلة حرجة فيما يتعلق بسياساتها وخفوت سطوة نفوذها لدى خصومها ولدى أتباعها على حدٍّ سواء، حينما ظهرت إيران بكل هذا الضعف والهشاشة الأمنية والتقنية. 

وبالتالي والحديث للباحث اليمني، بالتأكيد سيكون لهذا الأمر تأثير على سياسات إيران في المنطقة كلّها وفي القلب منها اليمن، ولكن إلى أي مدى ستتسارع هذه التداعيات وستظهر على سطح المشهد، هذا يعتمد على من سيخلف الطاقم الإيراني الذي سقط بهذه الطائرة وكيف سيكون الطاقم البديل للقيادة الإيرانية.

 إسرائيل: لن نذرف دمعة

من الناحية الواقعية، فإن السياسة في الشرق الأوسط لن تتأثر برحيل رئيسي؛ لأن هذه السياسة مقترنة ومرتبطة بـ”الحرس الثوري” وعلاقته بالخلايا النائمة. و”الحرس الثوري” لا يخضع لسياسة الدولة الإيرانية أو لسلطة رئيسي، فهو دولة داخل الدولة، وسياسته مرتبطة بخامنئي. 

من يقف خلف حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه؟ (4)
إيرانيون يصلون على روح الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في ساحة فالياسر وسط طهران في 19 مايو/أيار 2024. (تصوير أفتا كناري/وكالة الصحافة الفرنسية)

وبالتالي له علاقة بالأيديولوجية الدينية الإيرانية. كما أن رئيسي لم يكن تلك الشخصية المعرفية الواسعة أو المرجعية الدينية أو السياسية شاملة فهو شخص نمطي مقارنة بشخص خامنئي، أما مسألة ترشّحه ليحل محل خامنئي تظل مجرد فرضية، وليس أمراً واقعي. 

هذا بالإضافة إلى أن إيران لا تعتمد في سياستها على المنهجية الدبلوماسية وإنما على العسكرة، وهي الطريقة السوفيتية في الحكم. ولهذا يوضح لماذا كان رئيسي قريب من “الحرس الثوري” القائم على سياسة الإعدام  والتخلص من المعارضين له بأبشع الصور.

إذا كان هناك شكٌّ في احتمال حدوث تغييرات في سياسة إيران فيما يتعلق بالبلدان العربية التي لها فيها ميلشيات وقواعد عسكرية، فمن المستحيل أن يحدث تغير في السياسة الإيرانية تجاه إسرائيل والولايات المتحدة. فعندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين إيران والولايات المتحدة، وإسرائيل، فلن يتغير شيئاً. لأن هناك قضايا أوسع نطاقاً بين هذه الدول ومن المرجح أن تبقى تلك القضايا، فهذه قضايا عميقة الجذور.

إيران رفضت إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع الولايات المتحدة ورفضت الاعتراف بدولة إسرائيل لعقود من الزمن، ولا تزال تحت وطأة العقوبات الأميركية والغربية الشديدة. فشلت محاولات إحراز تقدم في محادثات إحياء الاتفاق النووي الإيراني مراراً وتكراراً خلال رئاسة إبراهيم رئيسي. وقال المسؤول الإسرائيلي الذي طلب عدم نشر اسمه لـ”رويترز”: “لم نكن نحن السبب في وفاته”. 

وعلى الرغم من ذلك، قال عضو الكنيست أفيجدور ليبرمان، رئيس حزب “يسرائيل بيتنا” المعارض، إن إسرائيل لا تتوقع أن يُحدث موت إبراهيم رئيسي أي فارق في سياسات إيران في المنطقة. وفي حديثه مع صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية، أكد أن وفاة رئيسي لن تؤثر على موقف إسرائيل تجاه إيران، موضّحاً أن سياسات إيران يحددها الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي. وقال أيضًا: “على أي حال، لا شك أن الرئيس كان رجلًا قاسياً.. لن نذرف دمعة”. 

وأخيراً، سياسة إيران باقية بنفس التكنيك وخطوات والأدوات والأهداف؛ فهي سياسة قائمة على الهيمنة وفرض النفوذ باعتمادها على  تداخل استراتيجي بين الدين والأيديولوجيا والسياسة و الديناميات الإقليمية. وسهل عليها موقعها في قلب منعطفات جيوسياسية في الشرق الأوسط التواجد العسكري وبناء أيديولوجيات ذات طبيعة براغماتية سياسية لا تخضع لأشخاص وإنما لقوالبٍ تشكّلت في مراحل تاريخية متغيرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات