في توسعة لجغرافيا الصراع المشتعل بينهما، انخرطت روسيا وأوكرانيا عسكريا في الحرب الأهلية في السودان، أو بالأدق، انخرطت كييف إلى جانب الجيش السوداني في محاربة قوات “الدعم السريع”، على اعتبار الوجود العسكري الروسي سابق، ويعود لنهاية عام 2017، حينما زوّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره السوداني، عمر البشير، بقوات من الشركة الأمنية “فاغنر”، بناء على طلب الأخير لمجموعات حماية خاصة.     

أيام قليلة فصلت بين زيارة السفير الأوكراني لدى الخرطوم، والمقيم في القاهرة، ميكولا نارهوني، إلى مدينة بورتسودان ولقائه عددا من كبار مسؤولي الحكومة السودانية، نهاية نيسان/ أبريل الماضي، وزيارة مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، إلى المدينة ولقائه بكبار المسؤولين الحكوميين أيضا، معلنا اعترافه بشرعية مجلس السيادة الذي يسيطر عليه الجيش، مع استعداد بلاده للتعاون مع السودان في كافة المجالات. 

زيارة الطرفين للسودان ليست الأولى منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”. فقد سبقها زيارات سرية وعلنية، مدفوعة بتسابق محموم لإيجاد موطئ قدم لهما في السودان. كما كشفت تقارير إعلامية، مشاركة جنود الدولتين في جبهات القتال السودانية، خاصة في مدينة أم درمان الاستراتيجية، حيث شاركت نخبة من القوات الخاصة الأوكرانية في عمليات عسكرية في أم درمان دعما للجيش، فيما شارك مقاتلون يتبعون لمجموعة “فاغنر” إلى جانب قوات “الدعم السريع”.

أول مركز بحري وثاني مشتر للأسلحة

“التحركات الروسية نحو السودان تُقرأ في سياق حالة التنافس بين موسكو والغرب، حول منطقة وسط وشرق إفريقيا بحثا عن الموارد والسيطرة على منافذ المياه الإقليمية”، حسب المحلل السياسي، الهضيبي ياسين. وتحمل زيارة بوغدانوف لمدينة بورتسودان “مخاوف روسية من إرهاصات التحركات الأوكرانية نحو السودان والاستفادة من موارد معدن الذهب في مقابل توفير السلاح المتطور”. وعليه، “تسعى روسيا إلى كبح التحركات الأوكرانية في إفريقيا والتي ربما تهدف إلى جعل السودان مدخلا لذلك”.

إضافة للدعم العسكري التقني، كون السودان ثاني أكبر مشترٍ للأسلحة الروسية في إفريقيا، فإن مصالح روسيا أمنية بالدرجة الأولى في السودان، وفق دراسة أجراها المركز الأوروبي. وتشير الدراسة إلى 16 اتفاقية معقودة بين البلدين، منحت موسكو قواعد وأتاحت لها حرية استخدام المطارات السودانية لنقل الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية اللازمة لإنشاء قاعدة أو مركز لوجستي للبحرية الروسية في مدينة بورتسودان الساحلية، والسماح بإرسال عدد محدود من السفن و300 فرد كحد أقصى إلى الميناء، وهو أول مركز بحري لروسيا في إفريقيا، حيث تسعى موسكو أن يكون لها قاعدة عسكرية بحرية تضمن لها وجودا في المياه الدافئة في منطقتي البحرين المتوسط والأحمر، المليئة بالثروات والكنوز والمواد الخام.

بالنسبة لأوكرانيا، فإنها تحاول مزاحمة روسيا في السودان أو في أي منطقة أخرى، لكنها لا تمتلك أدوات وإمكانات لذلك، حسب الباحث في العلاقات الدولية، مصطفى صلاح. مضيفاً، لذا، تعتمد كييف على الكتلة الغربية في تحقيق ذلك، كما أن التمدد الروسي في مناطق الشرق الأوكراني، سيحول تركيز اهتمام كييف على مواجهة هذا التقدم العسكري الميداني، على عكس موسكو التي تمتلك القدرة على تطوير جبهات تقدمها في كثير من الدول والمناطق حول العالم.

أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف، حسني عبيدي، يعّدد أسباب اختيار كييف للسودان بأنها: رسالة لموسكو بأن كييف قادرة على تصدير الحرب وإلحاق الضرر بالمجهود الحربي الروسي، وقدرة أوكرانيا على ضرب قوات “فاغنر”، وإضعاف قدرة “فاغنر” على الإنتاج والتمويل، من خلال حرمانها من الأموال الطائلة التي تجنيها من السودان، حيث تتواجد “فاغنر” بمناطق “الدعم السريع” التي تسيطر على مناجم الذهب. ما يمثل “تلاقي مصالح” بين أوكرانيا والغرب في ظل الانزعاج الأميركي – الغربي من نفوذ روسيا العسكري في أفريقيا.

مع ذلك، لن يتغير مجرى الحرب أو موازين القوى داخل السودان، حسب عبيدي. فيما يشير موقع “BBC”، إلى أن هزيمة قائد قوات “الدعم السريع”، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وتعزيز علاقات أوكرانيا مع السودان، قد يعيقان خطط إنشاء قاعدة عسكرية روسية في بورتسودان.

بذور التعاون

أثناء عودته من جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول/ سبتمبر الماضي، عقد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، خلال توقفه في مطار شانون الإيرلندي، اجتماعا مع قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان. ناقشا خلاله قضايا الأمن الدولي، و”تهديدات الجماعات غير القانونية التي تمولها روسيا”. وبحسب مكتب زيلينسكي، اجتماع المطار الذي يستخدم غالبا للتزود بالوقود في الرحلات الجوية عبر المحيط الأطلسي، لم يكن “مخطط”، لكن القوات الخاصة الأوكرانية لعبت دورا رئيسيا في عقده.

في هذا السياق، أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال“، إلى مساعدة الجنود الأوكرانيين للبرهان على الفرار من الخرطوم في آب/ أغسطس الماضي، عندما أحاطت قوات “الدعم السريع” بمقره، وإن قرابة 100 عنصر من قوات خاصة أوكرانية بقيادة ضابط مخابرات يعرف باسم “تيمور” وصلوا إلى السودان بعد مكالمة هاتفية بين البرهان وزيلينسكي. وبحسب الصحيفة، عبر توفير مسيرات تتيح رؤية مباشرة للأهداف وشن غارات ليلية ضد قوات الدعم السريع، غيّرت الوحدة الأوكرانية طبيعة الحرب الأهلية السودانية.

من جانبها، وفي إشارة لتمسكها بمصالحها في السودان، لم تغلق موسكو سفارتها في الخرطوم بعد بداية الحرب كما فعلت سفارات غربية عدة، بل نقلت أعمالها إلى بورتسودان، وظل السفير يباشر أعماله منها. كما نقل موقع “سودان تربيون” عن مصادر دبلوماسية لم يسمها عرض موسكو على الخرطوم، خلال لقاء وفد روسي جلّه من كبار القادة العسكريين والأمنيين، بقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان مساعدات عسكرية نوعية تتطلب وجود عناصر روس على الأرض، مع بناء قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر. 

دخان يتصاعد فوق مبان في جنوب الخرطوم – (فرانس برس)

“نحن أمام مشهد مختلف في طبيعة التوجهات بين الجانبين، بما يلغي فرضية نقل الصراع الروسي الأوكراني إلى الأراضي السودانية”، قال الباحث مصطفى صلاح في حديث مع “الحل نت”، فأوكرانيا لا تمتلك ما يمكن تقديمه إلى الأطراف المتحاربة هناك، على عكس روسيا التي دعمت بصورة رسمية الجيش السوداني وتتحرك في اتجاه امتلاك قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر، في حين تقوم مجموعة “فاجنر” بصورة غير مباشرة في دعم قوات الدعم السريع وتأهيله وتدريبه مقابل الحصول على الذهب والثروات الطبيعية التي تمكن روسيا من مواجهة الضغوط الغربية والعقوبات المفروضة عليها.

اعتمادا على شهادة عسكريين أوكرانيين وسودانيين، قال تحقيق أجرته “وول ستريت جورنال”: “زوّد البرهان كييف سرا بالأسلحة بعد وقت قصير من الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022”. بدأت عمليات التسليم قبل اندلاع الحرب في السودان، حيث يمتلك الأخير مخزونا قديما من المعدات العسكرية، ولديه صناعة دفاعية قوية.

كذلك يشير التحقيق إلى مقاطع فيديو، قد تكون الصحافة الأوكرانية حصلت عليها من مصدر عسكري أوكراني، تظهر سلسلة هجمات نفذتها مسيرات انتحارية في الخرطوم، مع مشاركة قوات خاصة أوكرانية في عمليات استهداف قوات “الدعم السريع” في العاصمة السودانية. وبحسب جنود أوكرانيين تحدثوا للصحيفة، فإن “طرفي النزاع السوداني لم يقوما بالهجوم ليلا”، لكن الأوكرانيين المجهزون بنظارات الرؤية الليلية والمسيرات دخلوا الخرطوم، وقاموا بمفاجأة مقاتلي قوات الدعم السريع الذين اعتادوا على النوم في العراء على طول خط المواجهة، بغارات ليلية”.

“عدو عدوي صديقي”

المخابرات الأوكرانية لم تؤكد أو تنفي تورط كييف في السودان، لكنها قالت إنها “تنفذ أنشطتها في مناطق جغرافية مختلفة، حيث يكون ذلك ضروريا لحماية المصالح الوطنية الأوكرانية”. ووفقا لمحللة خدمة الرصد الإعلامي في”BBC”، بيفرلي أوتشينج، “ما تقوم به الوحدات الأوكرانية في السودان تبدو أكثر تركيزا على استهداف روسيا من تقديم الدعم للجيش السوداني في محاربة قوات الدعم السريع”. فرئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية، كيريلو بودانوف، قال: “كل مجرمي الحرب الروس الذين قاتلوا أو سيقاتلون ضد أوكرانيا، سيُعاقبون في أي مكان في العالم”. وكان بودانوف قد لمّح سابقا لمشاركة بعض مرتزقة “فاغنر” المتمركزين بالسودان في الحرب على أوكرانيا.

بحسب الباحث في معهد “نيو لاينز”، نيكولاس أ.هيراس، تحاول أوكرانيا رسم صورة الدولة القادرة على تهديد المواقع الروسية في أي مكان. “ويصب ذلك في صالح أوكرانيا كوسيلة إثبات للمجتمع الدولي أن زيلينسكي سيواجه بوتين في أي وقت وفي أي مكان، وليس فقط في أوروبا”. ويقوم الترتيب بين زيلينسكي والبرهان على مبدأ “عدو عدوي هو صديقي”. مع ذلك، قدرات أوكرانيا محدودة في السودان، ولا تستطيع تزويده إلا بوحدات صغيرة من القوات الخاصة. في المقابل، “تمتلك روسيا قدرات استكشافية أكبر في السودان، من خلال مجموعة فاغنر، مع كتائب من مقاتلين مدعومين بالمدفعية وأنظمة صواريخ أرض-أرض، وتوفر إمدادات لوجستية لقوات الدعم السريع”. 

إلى ذلك يشير صلاح بالقول: ليس هناك ثمة موازنة منطقية بين الانخراط الروسي والأوكراني في السودان، لأنها في معظم جوانبها ليست متكافئة. فالانخراط الروسي في السودان يعد جزءا من استراتيجيتها الواسعة لتعزيز نفوذها في القارة السمراء، وبالتالي فإن أدوات روسيا أكثر مما تمتلكه أوكرانيا من قدرات لموازنة هذا النفوذ. فروسيا في السودان -تحديدا- اتبعت نهجا مزدوجا في اللعب على التناقضات الداخلية بين المجلس العسكري وقوات الدعم السريع. في حين ركزت الأدوات الأوكرانية على تقديم بعض المساعدات الغذائية.

فبرأيه، أوكرانيا لا تمتلك مكونات القوى الدولية أو الإقليمية الكبرى بما يؤهلها إلى الاستمرار في هذا التوجه، ولديها من الأزمات الداخلية ما يعيقها من تنفيذ ذلك. كما أن هذه التوجهات تتطلب استمرارية في الأدوات وتوفير مخصصات وموارد لها، وهو ما يعطي روسيا ميزة إضافية في هذا الشأن.

الانخراط الروسي الأوكراني في الحرب الأهلية في السودان، مع دلالته على رغبة الدولتين في توسيع دوائر صراعهما خارج جغرافيا البلدين، يدل أيضا على تدويل المسألة السودانية، واعتبارها ساحة لصراع أكبر، أطلسي-روسي. وهو مؤشر أيضا على إمكانية استغلال جميع أزمات المنطقة لتصارع القوى العالمية وتصفية حساباتهم على أراضيها.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات