في ذكرى اغتيال المفكر المصري فرج فودة، على يد عناصر من الجماعات الإسلاموية المتشددة في 8 حزيران/ يونيو العام 1992، تمتلئ الصحف والمواقع كما باقي المنصات الإعلامية والنُّخب الثقافية حول أفكاره التي لم تنتهِ، وظلت مواقفه وطروحاته الجدلية محل تداول ونقاش، بل إن الحاجة اليوم تبدو مُلحّة لاستعادتها أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد وقوع كل ما حذّر منه، وعانى المواطنون شرور التيار الإسلامي الذي حكم في “عشرية سوداء” بعد الربيع العربي بتونس، وفي سنة مشؤومة بالقاهرة. 

كان فرج فودة رقماً صعباً في المعادلة، يكتب ويثير الجدل ويطرح آراءه بوضوح وجسارة ومن دون تردد، بل بعبارات مباشرة وجمل بلاغية صريحة لا تحتمل تأويل أو الالتفاف. وذلك ما كان يضج مضاجع الإسلاميين ويُثير حساسيتهم ونعراتهم المتشددة، فما كان منهم سوى التخلص منه.

فودة، المسجى على الأرض بعدما قضى في لحظة إطلاق النار عليه، لم تكن تلك هي النهاية كما توقّعها العقل الإسلاموي المتشدد الذي أصدر فتوى القتل والحكم بالرّدة، وكذا الذراع التنفيذية له، بل إن الأفكار التي لم تكن تهدأ لحظة، ويرتج لها جسده المخضب بالدماء في انفعالاته أثناء المناظرات مع رموز التيار المتشدد والأصولي والتكفيري، بقيت تتنقل من جيل إلى آخر، ويعتنقها آخرون ويحرسونها ويطوّرونها، وقد اختاروا الحياة بدلاً من التجهم والموت، والمستقبل عوضاً عن الماضي، وجعلوا من العقل إماماً ولم يهدروا قيمته.

فرج فودة ومطاردة أفكار الإسلامويين

اعتنق المفكر المصري فرج فودة مباديء وأفكار الدولة المدنية، وطارد محاولات تيار الإسلام السياسي في فترة صعوده وذروة نشاطه بل وقوته التي تهدف إلى جذب الأفراد نحو أفكار الدولة الدينية، واستعادة “الخلافة” والمطالبة بـ”التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية” والتي تعني لديهم تطبيق “الحدود” بمعنى العقوبات البدنية القاسية والعنيفة المتمثلة في قطع الأيدي والرجم وغيرهما. 

بعد عقود قليلة، أفصح التيار الإسلامي عن حقيقة اغتياله لـ فرج فودة، وأن السبب في ذلك، بلاغته وقدرته على السرد من دون تعقيد أو لغة جامدة-“العربية”

وبينما كان فودة بمثابة المثقف العضوي بتعبير المفكر والفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، يواجه بمفرده تحديات تلك المرحلة الصعبة والمريرة، فإنه لم يخشى لحظة تهديدات الميلشيات التي تقتل باسم الدين وتعتقد أنها تملك التفويض الإلهي لتصفية هذا أو ذاك. كان الفرد الأعزل من أي سلاح سوى الكلمة في مواجهة “الجماعة” بتوحّشها وعدوانيتها. ورغم الاستعانة بالحوار لمواجهتهم إلا أنهم اختاروا البطش والنهاية الدموية.

جيل كاتب هذه السطور المنتمي لثمانينات القرن الماضي، ظل يتساءل عن أسباب إيمان كاتب لهذا الحد بأفكاره وطرحه إيّاها بمستوى من الوضوح والفصاحة والبلاغة حتى جعلت مقاعد هذا التيار الأصولي المتشدد والتفكيري تضج من الخوف والتوجس، وتشعر بارتياب وتهديد كبيرين، وتنتهي إلى قرار نهائي بضرورة اغتياله. 

شيئاً فشيئاً وبعد عقود قليلة، أفصح التيار الإسلامي عن حقيقة اغتياله لـ فرج فودة، وأن السبب في ذلك، بلاغته وقدرته على السرد من دون تعقيد أو لغة جامدة، وبالتالي، كسر احتكار التيار الإسلامي من جهة قدراته الخطابية وحيازة الجماهيرية. كان لـ فودة جمهوره الذي يكبر يوماً تلو الآخر.

ويمكن القول إن إمكاناته المختلفة في الكتابة والنقاشات، بالندوات وعلى شاشة التلفاز، وسط الجمهور كما بين النّخبة، لها القدرة على إحداث التأثير الضخم عقلاً ووجداناً وإرباك موازين التيار المعارض له وتفكيك سردياته بهدوء وروية.

معركة وجود

غير أن السبب الذي عثرت عليه مصادفة بشأن الاستماتة في الدفاع عن الأفكار لهذا الحد الذي جعله يواجه الموت من دون عازل أو حماية، لم يكن في قوة الفكرة وحدها، أو الإيمان الوطني ورغبته في التطوير والتقدم والحداثة، أو رؤيته أبعد من اللحظة التاريخية لما ستؤول إليه الوقائع مع التمكين السياسي للإسلامويين ووصولهم للحكم، إنما هو كل ذلك وقد لخّصه في مقدمة أحد كتبه الذي وجهه إلى: “زملاء ابني الصغير أحمد الذين رفضوا حضور عيد ميلاده تصديقاً لأقوال أبائهم عني….إليهم حين يكبرون ويقرأون ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وإن ما فعلوه كان أقصي علي من رصاص جيل آبائهم”. 

وكان الكتاب بعنوان: “نكون أو لا نكون”. ويعني فيه ضمن ما يعنيه أن المعركة مع التيار الإسلاموي هي معركة وجود، معركة تجاه المستقبل، أن نكون رقماً صحيحاً أو ننتهي تحت إرهابهم.

إذ إن فودة في كل مؤلفاته ونشاطه السجالي يباشر دوره لفض الغمامة السوداء التي تتسع لتغطية المستقبل، لا سيما أنّه حذّر من المجتمعات الموازية التي تشكّلها التيارات الإسلاموية، الأمر الذي تحذّر منه الحكومات الغربية راهناً، وقد نجحت تلك التيارات في تعميق مبادئ العزلة والانعزالية لتكون هناك مجتمعات بديلة تتهيأ في أي لحظة للانقضاض والمساهمة في دورها التدميري بالتاريخ والخروج من هذا الخراب بحلم “الخلافة” السوداوي. 

انبرى فرج فودة في الدفاع عن حرية الإيمان وضرورة الفصل بين الدين/ الإسلام من ناحية والمطالبين بالدولة الدينية من ناحية أخرى، فالأخيرة هي تسييس للدين أو شأن سياسي محض لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد.

وقد قال في نهاية الثمانينات إن الإسلامويين نجحوا في “تكوين دولة موازية”، في إشارة لتضخم شبكاتهم المالية واقتصادياتهم وكانت تلك الفترة قد شهدت صعوداً لما عُرف بشركات توظيف الأموال التي نهبت أموال المصريين وأهدرت مدّخراتهم. فضلاً عن الميلشيات أو الجيوش المؤدلجة الخاصة بتلك الكيانات الدينية، ومنها جماعة “الإخوان المسلمين”.

ولهذا، شدد فرج فودة في كتابه: “النذير” على أهمية الإيمان بالدولة المدنية، وقوانينها، وإعلانه بوضوح أن غضّ الطرف عن العلمانية هو “جهل بالحضارة الحديثة”، في حين ظلت رموز عديدة ثقافية تتخوف من إعلان الانتماء للعلمانية. ورفض أن تكون العلمانية رديف للكفر، موضحاً كذلك أن المناداة بالخلافة أو الدعوة لدولة دينية هو “جهل بالتاريخ”. 

تفرّد فرج فودة بمواقفه التي لم يكن يهادن فيها أو يلجأ إلى المساومة، ويقول: “لا أبالي إن كنت في جانب، والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم. ولا أجزع إن خذلني من يؤمن بما أقول. ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول. وإنما يؤرقني أشد الأرق، ألا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت. فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح. وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة. وقصاد الحق لا طالبي السلطان. وأنصار الحكمة لا محبي الحكم”.

المناظرة التي قتلته!

المحطة الأخيرة “قبل السقوط” في حياة فرج فودة، هي المناظرة التي جمعته مطلع عام 1992، برموز تيار الإسلام السياسي والعقول الأصولية المتشددة، منها مأمون الهضيبي والذي كان نائب مرشد جماعة “الإخوان” الإرهابية، وكذا الشيخ محمد الغزالي المعروف بمواقفه المتشددة ومحمد عمارة الذي نال من مفكرين آخرين مثل نصر حامد أبو زيد. المناظرة التي واجه فيها فرج فودة هؤلاء كانت بعنوان: “مصر بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية”. 

صورة يقال انها لاغتيال فرج فودة أمام مكتبه في مصر الجديدة عام 1992-“صفحة كلنا فرج فودة على فيسبوك”

ولم تكن الندوة وفق التسجيل الموثّق على الفضاء الإلكتروني سهلة أو مطمئنة بأي حال، فالحشد الإسلاموي فيها واضحاً وله الغلبة، وهتافاتهم المميزة تصدح في المكان، وتردد بصرخات ملتاعة مقولات “الإخوان” المذكورة في أدبياتهم: “الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.

لكن فرج فودة حين جاء دوره في الحديث بدا هادئاً مرتاحاً كأنما يجلس في شرفة يرى فيها نجوم وليست وجوه متجهمة تبطن الكراهية وتتأبط الشر، ودخل في صميم القضية بعد ما ألمح في حديثه إلى أن التيار الديني الذي يسعى بشكل محموم للوصول للحكم يبدو متخبطاً ولا يملك الأدوات الكافية أو التصورات لطبيعة الحكم وشكل الدولة، وقال إن الدولة هي “الدولة فهي كيان سياسي وكيان اقتصادي واجتماعي يلزمه برنامج تفصيلي يحدد أسلوب الحكم”. 

كما عرج بوضوح على تجارب سياسية للحكم الثيوقراطي، وقال إن الحكم الديني تورّط في القتل والعنف، لافتاً إلى الدولة الإيرانية وقال: “إذا كانت هذه هي البدايات، فبئس الخواتيم”. ولم يتردد في الإضاءة على فصول التاريخ، والتأكيد على أن الخلافة ومنها “الخلافة الراشدة”، لا تعبّر سوى عن أنماط متباينة للحكم، ولا علاقة لها بالإيمان إنما كانت سياسة ولا تتصل بالدين في شيء، وقال إن “الخلافة الراشدة فترة كافية لكى تقدم نموذجاً للإسلام الدولة كما يجب أن تكون.. فقد قُتل ثلاثة خلفاء من أصل أربعة، ومُثل بجسد أحدهم”. 

استفز حديث فرج فودة عن العنف المسلّح مرشد “الإخوان” الهضيبي، واعترف للمرة الأولى بضلوع جماعته في هذا العنف من خلال ما يعرف بـ”الجهاز السري” أو “التنظيم الخاص”، وهو كيان مسلح أسسه المرشد المؤسس حسن البنا، ليكون بمثابة جيش ميلشياوي للجماعة ينتمي لها عقائدياً ويدافع عن مبادئها وأفكارها.  وقال الهضيبي: نحن نتقرب إلى الله” بهذا التنظيم. 

وفي المحصلة، انبرى فرج فودة في الدفاع عن حرية الإيمان وضرورة الفصل بين الدين/ الإسلام من ناحية والمطالبين بالدولة الدينية من ناحية أخرى، فالأخيرة هي تسييس للدين أو شأن سياسي محض لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد. وقال إن “العدل لا يتحقق بصلاح الحاكم، ولا يسود بصلاح الرعية، ولا يتأتى بتطبيق الشريعة، وإنما يتحقق بوجود ما يمكن أن نسميه نظام حكم”. وتابع: “تطبيق الشريعة الإسلامية وحده ليس جوهر الإسلام، فقد طُبقت وحدث ما حدث…. فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية وحلق الشارب”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات