منذ الانقلاب الفاشل و المباغت لقائد قوات “فاغنر” الروسية يفغيني بريغوجين على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهناك سيناريوهات عديدة تطاول المجموعة التي تتموضع في عدة مناطق إقليمية، وتؤدي أدواراً متباينة لجهة عسكرة السياسة الخارجية، وتشكيل قوى عسكرتارية حول المصالح الجيو ستراتيجية لموسكو في سوريا وليبيا، فضلا عن المناطق الغنية بالثروات والموارد الطبيعية في إفريقيا. 

تبدو مسألة إعادة هيكلة الذراع الأمنية الروسية تطرح ذاتها بشكل مُلحّ، مع مرور 8 أشهر على رحيل بريغوجين، وتوضح صحيفة “بوليتيكو” الأميركية، أن “فاغنر” في ظل مهامها الاستراتيجية لصالح بوتين تحتاج إلى وقوعها ضمن دائرة خضوع وهيمنة موسكو بحيث لا تحدث هزات ارتدادية وانقلابية كما في السابق، و بالشكل الذي يضمن انضباطها السياسي والأمني. 

إعادة هيكلة “فاغنر”

الصحيفة الأميركية نقلت عن مسؤولين أميركيين، أن السلطات الروسية قسّمت الآلاف من عناصر “فاغنر” إلى 4 مجموعات على الأقل، لجهة تفادي تكرار أحداث التمرد التي قادها يفغيني بريغوجين، وقال أحد المسؤولين الأميركيين، إن “جزءا من هدف إعادة الهيكلة هو التأكد من وجود المزيد من السيطرة على العمليات بشكل عام”.

ووفق المسؤولين الأميركيين (لم تكشف الصحيفة عن هوياتهم)، فإن القوات الخاصة الجديدة منتشرة بالفعل في جميع أنحاء العالم في مهام خاصة، بما في ذلك في أوكرانيا وإفريقيا، حيث من المتوقع أن تلعب دورا مزعزعاً للاستقرار على المسرح العالمي بشكل مماثل لما كان في عهد بريغوجين. 

وتابعت “بوليتيكو”: “لقد أجبرت المجموعات شبه العسكرية المُعاد تشكيلها بالفعل إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، على سحب القوات الأميركية، من النيجر وتشاد في انتكاسة كبيرة لجهود مكافحة الإرهاب، بينما تواصل (المجموعات) تحدي سياسات واشنطن في دول إفريقية أخرى”.

ومن بين المجموعات الجديدة التي تشكلت على أنقاض “فاغنر”، قوات متحالفة مع “الحرس الوطني الروسي”، وجرى نقلها بالفعل إلى أوكرانيا وفقدت عددا كبيرا من مقاتليها، بحسب الصحيفة الأميركية، وتضاف تلك القوات إلى مجموعتين تعملان تحت سيطرة وزارة الدفاع وأجهزة المخابرات في موسكو، ومجموعة رابعة – معروفة باسم “فيلق إفريقيا” وتتحالف مع مجموعة أخرى قائمة، تُعرف باسم “ريدوت”، وتسعى إلى تولي السيطرة على قوات “فاغنر” السابقة في بعض العواصم الإفريقية، بينما لا يُعرف الكثير عن تركيبة هذه الفصائل الجديدة وعدد أعضائها القادمين من “فاغنر” مقابل منظمات أخرى، أو دور نجل بريغوجين في قيادة مجموعة العناصر الموالية لوالده.

منذ اعتلاء بوتين لسدة الحكم في روسيا كان الميراث السياسي مثخن بالجراح على المستوى الفيدرالي الداخلي بشكل اقتصادي وسياسي واجتماعي. إذ إن انهيار الاتحاد السوفيتي أحدث فراغا إداريا هائلا داخل روسيا نفسها، فيما الدول التي نالت استقلالها كانت صغيرة وكانت ترتب ملفاتها قبل الانهيار بسنوات. 

وربما شكّلت الحرب مع الشيشان، وتحديدا معركة غروزني، هاجسا لبوتين بحيث أنها كانت تحدي وجودي على الاتحاد الروسي ذاته. وكـ “ضابط” استخبارات حاد الملامح متوسط الذكاء استخدم بوتين خياراته العسكرية دائماً، وكان من ضمن خياراته تدشين ميليشيات تواجه ما اعتبرها هو حرب من مجموعات متطرفة شيشانية مدعومة برواية وتأييد إسلاموي.

روسيا بوتين ومعضلة الحُكم 

يوضح المحلل السياسي المختص في شؤون الأمن الإقليمي ميار شحادة في حديث مع “الحل نت”، أنه على مستوى الدولة الروسية والتي استلمها بوتين في حالة فوضى، كان لابد بحسب بوتين، وجود رابطٍ وطني وقومي يلتف حوله جميع الروس باختلاف مجتمعاتهم المتباينة.

ووفق بوتين، فإن الأقاليم التي لا ترتبط بالعرقية السلافية مثل الشيشان وتتارستان، فكان لابد من “إنشاء ميليشيات موالية للدولة مناط لها مهمات عسكرية حتى لو كانت مهامها قذرة ولكنها بعيدة عن الدولة بمسافة كي لا يرتبط أي عمل عدائي -على تلك المناطق الانفصالية- بالدولة، وهذا ما حصل في الاتفاق الذي تم مع رمضان قديروف، لديه ميليشيات وأفراد تقوم بكل القذارات ولكن دون وجود ارتباط مباشر مع الدولة للعيان طبعاً”، بحسب شحادة.

في الفترة الممتدة بين عامي 2005 و2014، كان بوتين يحشد المجتمع في مشروعه القومي مستفيدا من الميزات الغربية بالتعاون الذي أطلقته مجموعة السبع الصناعية، ما مكّن بوتين من إنشاء جذور قومية ليس في مؤسسات الدولة فحسب، بل امتدت لمجموعات مجتمعية في أوكرانيا ورومانيا ومولدوفا، وكذا مجموعات سياسية في أوروبا كأحزاب اليسار والقوميين في هنغاريا وصربيا وسلوفينيا وسلوفاكيا ودول البلقان، وحتى دول وسط آسيا. هذه التحركات تبعتها أحداث “الربيع العربي” حيث طمح بوتين للتوسع أكثر في محيط ووسط آسيا وشرق أوروبا و إفريقيا الغنية بالموارد، ليست فقط على مستوى الطاقة بل الذهب ومعادن ثمينة أخرى، وكانت البداية في سوريا كمثال.

قوات “فاغنر” كانت عبارة عن مجموعة أمنية خاصة تم تدشينها من قبل خليط من العسكريين الروس القدامى وكانت غير واضحة المعالم، وفق شحادة، وذلك في بدايتها، إذ إن هذه القوات كانت تابعة لوزارة الدفاع الروسية دون الإعلان عن ذلك رسميا، بينما كانت مهمتها الأساسية تتبّع المعارضين السياسيين واغتيالهم بطرق غامضة. ويمكن القول إن المجموعة الأمنية الخاصة مرتبطة بمجموعات اقتصادية تابعة لشخصيات النظام الروسي، ونظرا لتمدد هذه الشبكات ومصالحها كان من الصعب تتبّع مصدر قراراتها وحتى طريقة تحركاتها.

ولأن بوتين رجل استخباراتي، أراد توجيه المجموعة خارج الحدود الروسية حتى لا يصبح لها سيطرة ونفوذ في دوائر القرار القريبة منه وتقوى خارج حدود سلطته، فقد قام بتصعيد يفغيني بريغوجين الذي كان خارج نطاق دائرة “فاغنر”، وفق شحادة، فـ بريغوجين هو رجل أعمال وعليه عدّة قضايا مالية ولأنه شخص يطمح للنفوذ والقوة، وعلم بوتين نقطة ضعفه، جعله يباشر عمله في إدارة شبكات الميلشيات الروسية من الناحية، تحديدا في منطقة الدونباس وشبه جزيرة القرم.

كانت لبوتين تجربة مع بريغوجين تحديداً في ليبيا حيث بعد الاطاحة بنظام معمر القذافي، استخدمت روسيا قوات “فاغنر” هناك لحماية آبار الغاز والنفط التي كانت جزءا من شراكة روسيا مع القذافي. بريغوجين، وفق المحلل السياسي المختص في شؤون الأمن القومي، أدار الأمور بحرفية نوعا ما، ولم تتمكن الجهات الدولية الفاعلة من ربط تحركاته تحديدا المالية التي غالبا ما استخدمت شبكات غير قانونية بالإدارة الروسية.

وبعد ليبيا انتقلت “فاغنر” لافتتاح مقرات لها في الدول الإفريقية ذات الصراعات الأهلية مستغلة بداية انسحاب الغرب وفرنسا تحديدا، كما هو الحال في إفريقيا الوسطى ومالي والنيجر والغابون وغيرها من الدول ذات الثروات الهائلة والصراعات الكبرى. فيما أصبحت “فاغنر” تكتسب سمعة أوسع في القارة السمراء، من خلال سيطرتها محليا، وذلك وسط افتقار دول إفريقيا لسلطات حازمة، إذ إن تلك المجتمعات هشّة تسهل فيها الانقلابات العسكرية. 

“فاغنر” في مجال روسيا الجيو ستراتيجي

بوتين يعلم أن تكلفة احتلال القرم بالطرق العسكرية التقليدية مكلفة، لذلك وفّر غطاء جويا وبحريا لقوات “فاغنر”، ما يمكنه من إظهار أن الأحداث في شبه جزيرة القرم في عام 2014 كانت محلية بحتة، مع الأخذ في الاعتبار أن بوتين زرع الانفصاليين داخل القرم وفي منطقة الدونباس ليخلق حالة فوضى حتى يسهل مهمة “فاغنر”. وعندما نجح في اقتناص القرم دون ردة فعل غربية مؤثرة من النواحي العسكرية، عاد ليستخدم “فاغنر” مباشرة في سوريا للدفاع عن مناطق استراتيجية لتسهيل مرور الغاز والنفط الروسيين للمياه الدافئة، وهذه مهمات تختلف عن مهام الجيش الروسي الذي كان يعمل مع القوات السورية ويظهر كقوة إدارية أكثر منها عسكرية.

لكن يتبقى معرفة ما إذا كانت “فاغنر” ستكون وحدة خاصة تابعة للجيش، لاستخدامها لاحقا في مولدوفا ورومانيا وإفريقيا، أم أنه سيذيب المجموعة وسط الجيش؛ لأن الخيار الأول سيعني أن وحدةً من الجيش ستتمتع بامتيازات أعلى من بقية الوحدات، وفي الخيار الثاني يستلزم بناء قواعد نظامية، ضمن شروط سياسية وحضور رسمي في إفريقيا، يقول شحادة.

بالعودة للصحيفة الأميركية “بوليتيكو”، فقد رجّح المسؤولون، أن يكون بريغوجين الابن مسؤولا عن بعض القوات في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، موضحة أن “وفاة بريغوجين تركت مصير إمبراطوريته في حالة من عدم اليقين، حيث كانت فاغنر تقيم علاقات مع زعماء دول إفريقية مارقة وتوفر الأمن لهم مقابل مكاسب اقتصادية مربحة. كما أدارت حملات تضليل واسعة شملت تنظيم احتجاجات ونشر أخبار مزيفة لزعزعة الاستقرار في دول إفريقية وغربية. فـ أذرع التضليل الإعلامي التي كانت تنشّط هذه الحملات، باتت الآن على الأرجح تحت سيطرة جهاز المخابرات الخارجية الروسي، وربما تم وضع موظفي بريغوجين الاقتصاديين تحت مكاتب استخبارات أخرى، بما في ذلك إدارة الاستخبارات العسكرية”.

وقال المسؤولون، إن السيطرة المباشرة لموسكو على المجموعات شبه العسكرية يمكن أيضا أن تدفع بعض الدول الإفريقية التي كانت قد ابتعدت سابقا عن “فاغنر”، والتي كانت تخضع لعقوبات عالمية كمنظمة إجرامية، نحو إعادة النظر في موقفها السابق. ويظهر استخدام موسكو للمقاتلين شبه العسكريين لنشر نفوذها في إفريقيا بشكل واضح بالفعل في النيجر، أحد أهم بؤر  الحرب ضد الإرهاب، والتي استولى فيها قادة عسكريون على السلطة بعد انقلابهم على الرئيس المنتخب، محمد بازوم، في تموز/ يوليو الماضي. 

وفي وقت سابق من هذا الشهر، وصل مئات “المرتزقة الروس” إلى العاصمة نيامي، زاعمين أنهم هناك للمساعدة في تدريب الجيش النيجري والدخول في شراكة رسمية مع المجلس العسكري الحاكم، وفق المصدر ذاته، وجاء وصولهم قبل أيام فقط من إعلان إدارة بايدن أن الولايات المتحدة ستسحب ألف جندي من البلاد بعد نحو 10 سنوات، وظهر هذا وكأن القوات الروسية تحلّ محل الأميركية، وفي بوركينا فاسو، أصبحت قوات “فاغنر” السابقة الآن تحت سيطرة “فيلق إفريقيا”. كما يظل مقاتلو “فاغنر” السابقون نشطين في مالي وليبيا والسودان، حيث لديهم عقود لتوفير الأمن للأنظمة غير المستقرة هناك.

ويحذر مسؤولان أميركيان في حديثهم للصحيفة الأميركية، من المخاطر المحدقة باستراتيجية روسيا، خاصة فيما يتعلق بالتساؤلات المستمرة بشأن ولاء مقاتلي “فاغنر” السابقين واستعدادهم لتلقي الأوامر من وزارة الدفاع الروسية التي غالبا ما تتعرض للانتقاد في البلاد. فلا يزال الكثير من مقاتلي “فاغنر” مخلصين لذكرى بريغوجين وهم يواصلون كراهية وزير الدفاع الذي يقود بعضهم الآن في مجموعة انتقائية للغاية تُعرف باسم “وطني”، تشرف عليها وزارة الدفاع وتموّلها.

وقال مسؤول أميركي ثالث، إنه “من غير الواضح ما إذا كانت موسكو ستتمكن من تحقيق ما فعلته فاغنر لسنوات”، موضحا أن “وضع هؤلاء المقاتلين في نظام بيروقراطي قائم قد يُبطئ الأمور ويجعلهم أقل خطورة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات