تحركات عسكرية روسية في البادية السورية جديدة ولافتة، منها التنسيق المشترك مع قوات الجيش السوري في عدة مواقع، فضلاً عن الضربات التي طالت مناطق يتمركز فيها مسلحون من دير الزور وحمص والتي تنتشر فيها عناصر تنظيم “داعش”، فما قصة ما يحدث؟
أعلن الجيش الروسي أن المناورات التي تجري بين الطرفين وبعضها في طرطوس على ساحل المتوسط، وكذا التدريبات على المدفعية وراجمة الصواريخ، هي لـ “حماية سلامة الأراضي السورية من التهديدات الداخلية والخارجية”، وتتزامن مع تلك الضربات التي كشف عنها اللواء يوري بوبوف، نائب “المركز الروسي للمصالحة في سوريا”.
بوبوف ذكر، أن المناورات بين قواته وعناصر الجيش السوري تباينت في عدة مناطق، تحديداً الجهات البرية وشرق المتوسط، وتابع: “الغرض من المناورات هو التطبيق العملي للإجراءات الهادفة إلى حماية سلامة الأراضي السورية” حيث “العمل مستمرٌّ في سوريا من أجل التوصّل إلى حلٍّ غير عسكري للنزاع، وتقديم المساعدة الشاملة للمواطنين السوريين في استعادة الحياة السلمية”.
وقال بوبوف: “تم تنفيذ دوريات من قبل وحدات الشرطة العسكرية الروسية في محافظة حلب والرقة والحسكة، كما يتم مراقبة الالتزام بوقف إطلاق النار بين الأطراف المحاربة”، مؤكداً أنه “لم تُسجل أي هجمات على مواقع قوات الجيش السوري في منطقة خفض التصعيد في إدلب”.
ما أهداف المناورات المشتركة؟
ثمة إشارة لافتة أوضحها المسؤول الروسي، تؤشر إلى طبيعة الأهداف الخفية ومضامينها السياسية والأمنية الاستراتيجية وراء تلك الضربات وكذا المناورات المشتركة، إذ قال، إن “طيران التحالف الدولي يواصل خلق مواقف خطيرة في سماء سوريا، من خلال تنفيذ رحلات تنتهك بروتوكولات تجنب عدم التصادم وانتهاك المجال الجوي السوري.. تم تسجيل ثماني حالات انتهاك للبروتوكولات من قبل التحالف، تتعلق برحلات غير منسّقة لطائرات مسيّرة استطلاعية هجومية”.
الإشارة هنا إذ تعني شيئاً، فهي تكشف عن دور روسي يتنامى أو بالأحرى يتّخذ انعطافة مؤثرة بعد مرحلة خفوت وكمون إثر الانشغال بالحرب الأوكرانية، وذلك لجهة استعادة الارتكازات التي ملأت فراغاتها قوات “الحرس الثوري” الإيراني، وكانت تشغلها القوات الروسية مع قوات “فاغنر”.
وتُعد المناطق التي استهدفتها القوات الروسية بضرباتها والمتاخمة أو تقع بالتماس وبالقرب مع البادية السورية، نقطة شديدة الحساسية على خلفية الأجسام السياسية التي تتنازع عليها، بداية من الميلشيات الإيرانية وقوات الجيش السوري ووجود خطوط تهريب تستخدمها طهران مع وكلاء آخرين في العراق ولبنان. بالتالي، تتعدد المصالح لموسكو في تلك المنطقة التي تجعل الأقدام الروسية تختبر البيئة بامتداداتها وأطرافها، ناهيك عن مشاغلتها الولايات المتحدة في مناطق “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا.
ولذلك، فإن الحدود السورية العراقية وتحديداً بمناطق دير الزور والبوكمال تتنوع فيها النزاعات والصراعات الميدانية وهي بالأساس صراع إرادات للقوى الفاعلة والمنخرطة بسوريا، وتتماثل الصورة ذاتها بين ضفتي نهر الفرات، ويبرز على متن ذلك الصراع، التنافس الروسي الإيراني ومحاولات الأول حيازة عدة استحقاقات لتمكين وجوده الاستراتيجي والدائم في سوريا، للوصول إلى مرحلة الضغط القصوى المُلحّة لمزاحمة الولايات المتحدة.
إذاً، هذه المنطقة، البادية السورية التي تشكّل قرابة نصف مساحة سوريا الجغرافية وهي شبه صحراوية وجبلية، يتموضع فيها “داعش” بشكل حر تقريباً، حسبما يوضح الدكتور زارا صالح، الباحث السياسي الكردي في دراسات السلام وحل النزاعات الدولية في “جامعة كوفنتري” ببريطانيا، لافتاً في حديثه لـ “الحل نت”، إلى أن هذه المناطق لا يمكن السيطرة عليها، وهناك طرق إمداد رئيسية واستراتيجية بينما الحكومة السورية وروسيا تحاولان السيطرة على هذه الطرق وخاصة أنها تربط المناطق الشرقية مع العاصمة دمشق.
ولذلك، فإن هذه الحملة لن تستطيع القضاء على “داعش”، ودمشق وروسيا “تعلمان ذلك جيداً”؛ لأنها مناطق شبه خالية وكبيرة و”داعش” يتوغل فيها ويتحرك بسهولة، بالإضافة إلى خبرته فيها، ولا سيما بعد هزيمته في آخر معاقله في الباغوز 2019، فإنه توجّه لتمركز خلاياه النائمة في البادية السورية، وهناك بعض المصادر ومنها “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، تقول إنه ثمة أكثر 3 آلاف عنصر من “داعش” يتواجد في تلك المناطق، وبالتالي يصعب السيطرة على البادية السورية، كما يقول صالح.
عامل إضافي لصعود “داعش”
هناك نقطة أخرى ساعدت في صعود “داعش” بالبادية، هي شبه عدم تواجد للحكومة السورية في البادية السورية، وبالتالي فإن السكان الذين يعيشون هناك، يخضعون لسيطرة قوة “داعش”، وهذا الأخير يفرض قوته و إتاوات عليهم، بجانب إجبارهم على تأمين طرق إمداد رئيسية لهم والتعاون معهم، وفق تقدير زارا صالح.
بالإضافة إلى ذلك، تحاول هذه الأطراف مجتمعة؛ روسيا والحكومة السورية وإيران وحتى تركيا، دفع “داعش” نحو المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، حيث يرون في ذلك إضعافاً للقوات التي يقودها الكُرد في شمال وشرق سوريا، يضيف زارا صالح.
ويأتي هذا بالطبع في سياق الصراع الروسي مع الأميركيين، أي أن روسيا تريد السيطرة على مناطق “قوات سوريا الديمقراطية”، وكذلك تركيا وإيران. ورغم اختلاف المصالح بين هذه الأطراف الثلاثة، إلا أنها تتفق فيما بينها بشأن مسألة سيطرة “قسد” على شمال وشرق سوريا.
لهذا، كان لافتاً ما أعلنته وكالة “تاس” الروسية للأنباء، قبل أيام، بخصوص 6 ضربات في محافظتي حمص ودير الزور. وقد أوضح “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، أن مقاتلات حربية روسية شنّت غارات جوية على مواقع انتشار تنظيم “داعش” لليوم الثاني على التوالي في بادية الرصافة بريف الرقة وبادية تدمر والسخنة بريف حمص الشرقي، دون ورود معلومات عن سقوط خسائر بشرية.
وتابع المرصد: “يتزامن ذلك مع استمرار حملة تمشيطٍ أطلقتها كل من قوات النظام وقوات الفرقة 25 مهام خاصة والدفاع الوطني في البادية السورية، ضد خلايا تنظيم (الدولة الإسلامية)، حيث وصلت أرتال الفرقة 25 إلى البادية السورية، للمشاركة في حملة ضد خلايا التنظيم بدءا من محيط التنف شرقي تدمر وصولاً إلى ريف حماة الشرقي، بالإضافة إلى باديتي دير الزور والرقة”.
ومن جانب آخر، هناك طرق خارجية لدعم وإمداد “داعش”، ممثلة في طريقي الإمداد الحدودي، العراقي والتركي، نظراً لتقاطع الحدود مع سوريا، ودليل على ذلك، أن كل قادة تنظيم “داعش” قتلوا في مناطق سيطرة “فصائل المعارضة السورية” المدعومة من تركيا، وفق الباحث السياسي في دراسات السلام وحل النزاعات الدولية في “جامعة كوفنتري”. أيضاً يأتي هذا التصعيد الروسي ضد “داعش”؛ لأن موسكو تنافس إيران في هذه المناطق، وكما نعلم أن منطقتي البوكمال والميادين مناطق نفوذ إيرانية، وروسيا تحاول إثبات وجودها هناك وتقليل النفوذ الإيراني رغم صعوبة تحقيق ذلك، لكن الرسائل الروسية هذه المرة لعدة أطراف، خاصة بعد تهميش الوجود الروسي بسوريا نتيجة تركيزه في الحرب بأوكرانيا.
تزامنت مع الضربة الروسية، إعلان “جهاز الأمن الوطني” العراقي، تنفيذ عملية في سوريا والإطاحة بقيادي في تنظيم “داعش”. وذكر الجهاز الأمني العراقي، أنه “استناداً إلى معلومات استخبارية دقيقة، تمكنت مفارز خلية مكافحة الإرهاب في جهاز الأمن الوطني، بعد الحصول على الموافقات الرسمية، من قتل قيادي بعصابات داعش الإرهابية في سوريا، بعد التنسيق مع التحالف الدولي”.
ونقل بيان “وكالة الأنباء العراقية” (واع) عن الجهاز، أن “مفارز الجهاز، تابعت تحركات الإرهابي (خ.ش.ش) والمكنى (أبو زينب) خلال الأيام الماضية قبل أن تحاصره في منطقة البصيرة بالرقة السورية، ليتم قتله بعد اشتباكه مع القوة المنفذة”، حيث أن “الإرهابي عمل ضمن مفارز العبرة في الحدود العراقية السورية، واشترك بعمليات عدة على القطعات الأمنية في جزيرة الصينية بصلاح الدين وجزيرة البعاج، وكان مسؤولاً لـ (مفرزة العبرة) من العراق إلى سوريا، فضلاً عن نقله الأسلحة والمواد المتفجرة”.
أهداف الضربات الروسية ضد “داعش”
يرجح الباحث السياسي المختص في الشؤون الإقليمية، مصطفى النعيمي، بأن روسيا تسعى من خلال توجيه تلك الضربات تجاه التنظيم المتطرف، “إثبات قدراتها الأمنية على مجابهة داعش في ظل انخفاض مستوى العمليات الأميركية بشأن مواجهتها للتنظيم، وتحاول استثمار هذه الأزمة من خلال إظهار عامل القوة والتفوق العسكري لإدارة ملف الإرهاب، خاصة المتعلق بالأمن الدولي ومحاربة التنظيم، لكن المنظومة الدولية برمتها تدرك تماماً بأن التموضع الروسي في سوريا الغاية منه تثبيت أركان (النظام السوري) وكذلك أيضاً مشروع التوسع الإيراني. وبالتالي لا قيمة استراتيجية لكل تلك العمليات التي تنفذها روسيا تحت مسمى محاربة الإرهاب أو محاربة تنظيم داعش”.
وبسؤال النعيمي عن رؤيته لتلك الضربات في منطقة دير الزور تحديداً على وقع التنافس الإيراني الروسي ورغبة موسكو في التموضع أكثر وإزاحة تهديدات “داعش” في البادية المتاخمة للمنطقة، ناهيك عن وجود “قسد” في شرق الفرات، يبين في حديثه لـ “الحل نت”، أن “الضربات التي يوجهها سلاح الجو الروسي ضد داعش ما هي إلا زوبعة في فنجان، الغاية منها توظيف هذا المنجز استراتيجياً، بحيث يتم دفع روسيا لأن تكون شريكاً في مكافحة الإرهاب”. وهذا في اعتقاد النعيمي، “مرفوض بشكل كبير غربياً وأميركياً، نظراً لحجم الانتهاكات والممارسات القمعية التي تنتهجها روسيا في اجتياحها لأوكرانيا. بالتالي لا توجد أي قدرة لدى روسيا حتى تفرض نفسها على أنها شريكة في مكافحة الإرهاب، إنما تحاول من تلك الخطوة تثبيت أركانها في سوريا على أقل تقدير في هذه المرحلة”.
ويتابع النعيمي: “تتجه موسكو في المراحل المتقدمة نحو تقوية الحكومة السورية، ومحاولة سحب بعض القيادات في النظام بدمشق إلى الضفة الروسية على حساب إجراء هذا التوازن مع الجانب الايراني، بالتالي هنالك مصالح براغماتية تهيئ هذه التحركات والمناورات في مناطق نفوذ دمشق، وتمنح الطرف الروسي عدة استحقاقات ومكاسب، بينما الضحية في كل ذلك الشعب السوري الذي يتعرض لتهديدات باسم بنود متعددة، ومنها مكافحة الإرهاب، وفي حقيقة الأمر الغالبية العظمى من تلك الضربات الروسية الجوية قضى فيها مدنيون سوريون، وهنا أتحدث عن طبيعة الضربات الروسية التي تدّعي بأنها قد أصابت أهدافاً لتنظيم داعش، مع العلم أن الأخير يلجأ إلى استراتيجية الذئاب المنفردة في مواجهته للقوات البرية والجوية، وذلك لتجنب الأضرار الناجمة عن حيازة الأرض”.
وحول ما إذا كانت الضربات الأخيرة تتعلق باحتمالية انتقال الصراع بين موسكو و”داعش” لسوريا أم هو إجراء عسكري تكتيكي، فيرجّح النعيمي، بأن الصراع بين الجانب الروسي والتنظيم المتطرف “لا قيمة استراتيجية منه، إنما الغاية الحقيقية تتمثل في توظيفه سياسياً من حيث دور روسيا في الأزمات الجارية بالمنطقة، ومحاولة طرح روسيا كشريك لإدارة تلك الأزمات. وهذا الذي تسعى إليه موسكو من خلال عملها مع شركائها المحليين ومحاولة فرضه كأمر واقع لسلطات عسكرية الهدف منه الهروب إلى الأمام لا أكثر أو أقل، ولن تؤدي تلك التكتيكات الروسية إلى تغيير استراتيجي، ولن تكون لموسكو قدم في ملف مكافحة الإرهاب طالما هناك رفض أميركي – غربي مزدوج”.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.