وسط تأزم الأوضاع بالمنطقة عموماً، لا سيما حالة الصراع والتوتر العسكري التي تشهدها العديد من دول المنطقة، تعاود تركيا مجدداً بعث رسائل مبطنة لحكومة دمشق من أجل إعادة العلاقات معها، وحلّ العديد من الملفات التي تبدو وكأنها باتت تشكل أعباءً كبيرة وصعبة جداً لا يمكن مقارنتها بأي ملفات مع دول أخرى.

والملفت في رسائل تركيا عبر وزير خارجيتها هذه المرة، أنها تتحدث بلهجة تكاد تكون تهديدية وعلى دمشق الموافقة، وإلا فإن ذلك سيؤدي إلى جملة من الأزمات، مثل شن حرب جديدة مع “فصائل المعارضة” التابعة لها في شمال وغرب سوريا، بالإضافة إلى استخدام ورقة اللاجئين السوريين بتركيا كما في كل مرة.

بجانب إلى ذلك، بعثت تركيا رسالة في متن حديث وزير خارجيتها، أنها تريد إعادة علاقاتها مع دمشق، ولكن وفق شروطها ومصالحها فقط، بما في ذلك شرعنة وجودها في سوريا بحجة ضمان سلامة أمن بلادها، والقضاء على مشروع “الإدارة الذاتية” في شمال وشرق سوريا، بذريعة أنهم مجموعة “إرهابيين” ويهددون أمن البلاد.

وتلميحات تركيا بشأن الوجود الكُردي تحمل رسائل تحفيزية لحكومة دمشق، بهدف تنشيط ذاكرة العداء المشتركة بينهما ضد هذا الوجود الذي يعتبره كل منهما “إرهابياً” و”انفصالياً” بينما يهدد الأمن القومي في البلدين. بل إن التقارب بينهما وبوساطة روسية سيمثل لحظة تحدي في حال إتمامه للاستقرار النوعي الذي تشهده مناطق في سوريا منذ “خفض التصعيد”، ويجعل “المعارضة السورية” المدعومة في تركيا بسلاحها أمام مرحلة تصعيد جديدة توظفها (دمشق وأنقرة) ضد المناطق الكُردية لتوتير الأوضاع ومحاولة هدم عوامل البناء السياسية والمجتمعية القائمة لصالح عبور آخرين وتحقيق سياساتهم التدميرية والبراغماتية.

لكن، طرق باب التسوية مع دمشق، تحتاج أولاً وقبل كل شيء، إلى إرادة ورغبة سياسية وإقليمية، بما فيه تحقيق شرط دمشق وهو الانسحاب من كافة الأراضي السورية والكف عن تهديداتها العسكرية بشأن الشمال السوري، وهذا ما أكده الرئيس السوري بشار الأسد حديثاً للمبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف، حيث كرر انفتاحه على العلاقة مع تركيا، لكن مكرراً شروطه المسبقة للتوصل إلى مرحلة إعادة العلاقات مع أنقرة.

تركيا والتقارب مع سوريا

قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إن توقف الصراع المسلح بين الجيش السوري و”فصائل المعارضة” هو في الوقت الحالي “الإنجاز الرئيسي” لتركيا وروسيا. وأضاف في مقابلة مع قناة “خبر تورك” التركية، ليل الاثنين- الثلاثاء، أن “أهم ما تمكن الروس ونحن من تحقيقه في سوريا هو أنه لا توجد حرب حالياً بين الجيش والمعارضة، ومفاوضات أستانا وغيرها جعلت ذلك ممكناً في الوقت الحالي”.

لقاء سابق ما بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان- “أ ف ب”

وأشار إلى أن دمشق في حاجة إلى “استغلال فترة الهدوء هذه بحكمة، كفرصة لإعادة ملايين السوريين الذين فرّوا إلى الخارج ليعيدوا بناء بلادهم وإنعاش اقتصادها”، ملفتاً إلى أنه شدد على هذا الأمر خلال اجتماعاته مع الجانب الروسي ولقائه الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو مؤخراً، مع التأكيد على أنه “يجب على سوريا أن تفعل ذلك بنفسها”.

وقال: “نحن ندرس هذا الأمر. عودة اللاجئين أمر مهم”، مضيفاً: “ما نريده هو أن تستغل الحكومة السورية هذه الفترة من الهدوء، بعقلانية، وأن تستغل كل هذه السنوات كفرصة لحل المشاكل الدستورية وتحقيق السلام مع المعارضة، لكننا لا نرى أن دمشق تستفيد من ذلك بما فيه الكفاية”.

يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بهذا الاتجاه نحو حكومة دمشق يهدف إلى تجديد محاولاته ليس فقط للتواصل مع الأسد، وإيجاد قاعدة مشتركة بينهما للانطلاق ضد خصومهم المشتركين، وعلى رأسها “الإدارة الذاتية”، إنما لبعث رسائل للأطراف الخارجية بأن وجوده في سوريا سيظل قائماً وحتمياً طالما التهديدات على حد زعمه من الوجود الكُردي مطروحاً، فضلاً عن القوى الأخرى التي تنخرط في الصراع وتنتظر لحظة قطف الثمار، إذ لا أحد بداية من تركيا وقوى المعارضة مروراً بإيران وميلشياتها وحتى روسيا سيترك الساحة ويحدث فراغاً يقوم هذا الطرف أو ذاك بملء حدوده والاستفادة منه لصالحه. 

فالرسالة التركية مفادها أنها هنا باقية (وربما لن تتمدد على طريقة داعش بأكثر مما يلزم)، وتنتظر التسوية مع الطرف الممكن وتحويل عدائهما التكتيكي منذ فترة ما بعد 2011 إلى فرصة تعاون استراتيجية لتصفية الوجود الكُردي، سياسياً وقومياً.

وتدعيماً لهذا الكلام، فقد انتقدت تركيا على لسان وزير خارجيتها، الدعم المُقدّم من بعض الدول الحليفة لها في “حلف شمال الأطلسي” (ناتو) لـ”وحدات حماية الشعب” الكُردية، أكبر مكونات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

وقال فيدان: “لدينا مشكلة مع دولتين ونصف مشكلة مع دولة (من حلف ناتو) فيما يتعلق بالدعم المقدم للوحدات الكُردية: الولايات المتحدة وبريطانيا، وقليلاً مع فرنسا”. 

وأضاف فيدان أن “الولايات المتحدة تواصل وجودها هناك، ونحن نطرح هذه المشكلة على جدول الأعمال على كل المستويات، ونؤكد أن هذا يتعارض مع أهدافنا ومع روح التحالف، وننفذ أعلى مستوى ممكن من الدبلوماسية لضمان عدم حدوث ذلك”.

وتابع: “نقول هذا دائماً لأميركا وبريطانيا. نقول إن لدينا حساسية في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني أكثر مما لديكم في الحرب ضد الإرهاب، وسنستمر حتى يقضي هذا التهديد على نفسه أو يتم القضاء عليه بطريقة أخرى”.

أهداف براغماتية

وفي ما يبدو أن نبرة تركيا ربما تبطن رغبة منها في تحقيق نتيجة وأفق سياسيين تحت وطأة الانشغال بحرب غزة، واحتدام الصراع في غزة بين “حماس” وإسرائيل وامتداداته العنيفة على الجبهة الجنوبية بلبنان. 

إعادة العلاقات بشكل كامل ما بين دمشق وأنقرة قد لا يحدث خلال الفترة الراهنة على الأقل، لكن ربما يتم التوصل إلى صيغ تفاهمية محدودة وضمنية، مثل إعادة فتح المعابر ما بين مناطق دمشق و”المعارضة”، وفتح “معبر أبو الزندين” اليوم، بهدف اعتماده “كمعبر تجاري رسمي”، يعزز من هذا الاحتمال.

غير أن الرئيس التركي الذي عادة ما يصطاد في الماء العكر ويسعى إلى تدشين معاركه السياسية أو العسكرية والميدانية في فترات يتمكن فيها من المواربة والتخفي لإتمام صفقاته، سواء كان ميدانياً فيتملص من الإدانات التي عادة ما تلاحقه إثر جرائم قواته كما في عفرين بشمال سوريا، أو سياسياً حيث لا يتوانى عن ممارسة الابتزاز للحصول على أهدافه، كما سبق واستغل عدة أزمات (فيروس كورونا) ووظف ورقة اللاجئين السوريين لعدة أغراض ضد الغرب و”الاتحاد الأوروبي”.

وبغض النظر عن الطرف الروسي الذي يحاول التقريب بين دمشق وأنقرة، وأهداف موسكو من ذلك، والمتمثل في تقليص الوجود الأميركي في سوريا، فإن نسب التقارب ما بين دمشق وأنقرة يبدو أنه لن يتم التوصل إلى استعادة العلاقات بشكل كامل، بل قد تبقى محدودة وضمن أطر معينة.

وبالعودة إلى تصريح الأسد للمبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف، فإنه أضاف وفق ما نقلته وكالة “سانا”، أنه منفتح على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة مع تركيا على أن تكون “مستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى”.

وأشار الأسد إلى أن تلك المبادرات تعكس إرادة الدول المعنية بها لإحلال الاستقرار في سوريا والمنطقة عموماً”. واللافت أن دمشق كانت قد نفت قبل أيام، عقد أي لقاءات عسكرية أو أمنية مع تركيا في قاعدة حميميم باللاذقية السورية، وجددت الحديث عن تمسكها بشروطها المسبقة لدفع المحادثات بين الطرفين.

من لقاء الرئيس السوري، بشار الأسد مع ألكسندر لافرنتييف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين- “إنترنت”

كذلك، قالت مصادر لصحيفة “الوطن” المحلية، إنه “لم يطرأ أي تغيير في الموقف السوري تجاه شروط التقارب مع أنقرة، وبشكل خاص إبداء الاستعداد للانسحاب من سوريا، وتوصيف الفصائل المعارضة بشمال وغرب سوريا أنها إرهابية”. ومع استمرار تركيا ودمشق في تأكيد عدم التنازل عن شروطهما لإتمام التطبيع، فيبدو من المستبعد حدوث التقارب بين البلدين.

هذا بالإضافة إلى وقوع تراشق حاد خلال جلسة مجلس الأمن الدولي حول الوضع الإنساني والسياسي في سوريا، ليل الثلاثاء – الأربعاء الماضي، بين المندوب التركي أحمد يلدز، ونظيره السوري، قصي الضحاك، الذي اتهم تركيا بالتسبب في معاناة ملايين الأطفال السوريين، ليردّ يلدز أن “نظام الرئيس بشار الأسد، “منفصل عن الواقع”.

الضغط على دمشق

ومن الواضح أن تركيا تريد الضغط على الحكومة السورية وبعض الأطراف الإقليمية بعدة أمور، منها تهدئة “فصائل المعارضة”، وكأنه يهدد بأن حالة التهدئة مع “فصائل المعارضة”، قد لا تبقى على ما هو عليه، أي أنه من المحتمل العودة إلى حالة الحرب، وألمح هاكان فيدان لذلك بشكل غير مباشر، عندما قال:” إن دمشق في حاجة إلى استغلال فترة الهدوء هذه مع المعارضة بحكمة، كفرصة لإعادة ملايين السوريين الذين فرّوا إلى الخارج ليعيدوا بناء بلادهم وإنعاش اقتصادها”.

إضافة إلى اللجوء بالضغط إلى ورقة اللاجئين السوريين على دمشق وبعض الأطراف الإقليمية، وكأنها تريد القول:”إذا لم تستجب دمشق للتقارب وفق شروطنا، فإننا ماضون في تنفيذ مشروع الإعادة الطوعية للاجئين السوريين، وفق خطة حلب”.

وأواخر آب/ أغسطس العام الماضي، تحدث أردوغان خلال حفل تخريج ضباط أكاديمية الدرك وخفر السواحل التركية في العاصمة أنقرة، عن مشروع “العودة الطوعية”، والذي يهدف إلى عودة نحو مليون لاجئ من تركيا إلى سوريا، واستمرار بناء مساكن دائمة في شمال سوريا لتسهيل العودة “الطوعية والآمنة”. وأضاف في حديثه “مع انتهاء بناء هذه المنازل، التي تبنى بدعم مالي قطري، سيتمكن ما يقارب مليون سوري من العودة إلى وطنهم براحة بال”.

كما وكشفت تقارير صحفية عدة ومنها صحيفة “صباح” التركية، خلال التوقيت ذاته من العام الفائت عن تشكيل الحكومة التركية بتعليمات من أردوغان، آلية ثلاثية للعمل على تسريع جهود “العودة الطوعية للاجئين السوريين” إلى بلادهم، بالتركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في محافظة حلب شمال غربي سوريا، فيما يُعرف بـ”نموذج حلب”.

وأشارت صحيفة “صباح” التركية إلى أن واحداً من أهم وأبرز الجوانب في خريطة الطريق التي تعمل عليها الآلية، هو التركيز على محافظة حلب، التي تعد العاصمة الاقتصادية لسوريا والعمل على إحيائها من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. وأنه من أجل ذلك، تواصل تركيا محادثاتها مع كلّ من موسكو ودمشق لضم حلب إلى خريطة الطريق، في خطوة تهدف إلى توفير فرص عمل لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين سيتم تشجيعهم على العودة إلى بلادهم. 

الرئيس التركي يرفع صورة مخيم للاجئين السوريين في تركيا بمقر «الأمم المتحدة» في سبتمبر 2022- “رويترز”

يبدو أن خطة “نموذج حلب” هي محاولة تركية كحل لأي اتفاق سياسي مقبل بينها وبين حكومة دمشق. ولا شك أن أردوغان لديه أهداف ومصالح براغماتية وتكتيكية في طرح هذه الخطة، وهي السيطرة على حلب عن طريق إرسال اللاجئين السوريين إليها، خاصة وأن تركيا لطالما كانت ترغب بالهيمنة على حلب، فأردوغان يرى أنه من حقه الاستحواذ على مناطق بسوريا وبموافقة دمشق، مثلما منح الأسد مرفأ طرطوس لروسيا، لمدة 49 عاماً، بجانب منحها قاعدة حميميم الجوية في الساحل السوري، إضافة لفتح الباب على مصراعيه لإيران وميلشياتها للتوسع في البلاد.

وفي العموم، “نموذج حلب” واضح أنه يهدف إلى إحداث تغيير ديمغرافي في شمال سوريا، وهو ما يعني فعلياً أن أنقرة لن تنسحب لاحقاً من سوريا.

كما أن تطبيق “نموذج حلب”، قد يصطدم برفض إيراني، نظراً لأن الأخيرة ترفض أي تواجد تركي مع الفصائل “السنية” التابعة لها في حلب، نتيجة وجود مناطق شيعية مثل بلدتي نبُّل والزهراء الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية برعاية إيرانية، وبالتالي شروط تركيا للتقارب مع دمشق سيكشف عن خلافات عدة بين أطراف الداخلة في الصراع السوري، وبالتالي إعادة العلاقات بشكل كامل ما بين دمشق وأنقرة قد لا يحدث خلال الفترة الراهنة على الأقل، ولكن ربما يتم التوصل إلى صيغ تفاهمية محدودة وضمنية، مثل إعادة فتح المعابر ما بين مناطق دمشق و”المعارضة”، وفتح “معبر أبو الزندين” اليوم، بهدف اعتماده “كمعبر تجاري رسمي”، يعزز من هذا الاحتمال.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات