في تطور مثير للجدل، تشهد محافظة عمران اليمنية حملة أمنية غير مسبوقة تستهدف الفن والفنانين، في ما يبدو أنه صراع بين التقاليد الفنية العريقة وسلطة جديدة تسعى لفرض رؤيتها على المشهد الثقافي.

منذ ما يقارب الشهرين، تواصل الأجهزة الأمنية الخاضعة لسيطرة جماعة “الحوثي” حملة اعتقالات واسعة طالت حوالي 15 شخصاً من أبرز الوجوه الفنية في المحافظة. من بين المعتقلين نجوم محليون مثل محمد النيساني وبلال العامري، إضافة إلى المنشد نجيب الشامي، في خطوة وصفها مراقبون بأنها “محاولة لخنق الإبداع الفني في المنطقة”.

وفي تفاصيل درامية، كشفت صحيفة “العرب” عن عمليات اعتقال جرت بطرق مختلفة، من اقتحام للمنازل إلى نصب كمائن عند نقاط التفتيش، وحتى ملاحقة الفنانين عقب عودتهم من حفلات الزفاف. هذه الحملة، التي تأتي بأوامر من القيادي الحوثي عبد العزيز أبو خرفشة، المعين حديثاً كمدير لأمن المحافظة، تستند إلى ذريعة مخالفة قرار سابق يحظر الغناء في المناسبات والأعراس داخل المدينة.

الأمر لم يقتصر على الفنانين فحسب، بل امتد ليشمل أصحاب صالات الأفراح، حيث لا يزال 20 منهم رهن الاعتقال منذ مطلع أيار/مايو الماضي، بسبب رفضهم التوقيع على تعهدات بمنع الغناء وتشغيل الزوامل التقليدية في حفلات الزفاف.

قائمة المعتقلين تضم أسماء لامعة في الساحة الفنية اليمنية، من بينهم المغني بسام عداعد والعازف مبروك عبدالله، إضافة إلى فنانين آخرين مثل ضياء مشعوف ومهيب بلوس وعلي العطير وزهير قشطر. كما طالت الاعتقالات الكوادر الفنية الداعمة، حيث تم اعتقال مهندسي الصوت يوسف الصلاحي وجمعان جمعان بتهمة “مخالفة القانون”.

هذه ليست المرة الأولى، فمنذ أن سيطرت جماعة “الحوثي” على صنعاء وبقية المحافظات، حاولت الجماعة منع الغناء والمعازف في الأعراس وحفلات الزفاف بحجة أنها محرمة، ففي آب/أغسطس 2014، أوقف مسلحون “حوثيون” حفل زفاف في محافظة عمران وخطفوا الفنان اليمني نبيل و أجبروه على كتابة تعهّد بعدم الغناء مرة أخرى.

“القاعدة” في صنعاء!

منذ عام 2021 أصدر “الحوثيون” تعميما يتضمن تعليماتٍ تقضي بمنع الفنانين والفنانات من حضور المناسبات والأعراس التي تُقام في صنعاء ومناطق سيطرة الجماعة، وذلك بهدف “الحد من ظاهرة الفنانين والفنانات في المناسبات والأعراس من خلال التوعية القرآنية للمجتمع”. 

بحسب أوساط يمنية اتّهمت القيادة الحوثية الفنانين بالاشتراك في ما تصفه بـ”الحرب الناعمة” وتمييع المجتمع وحمّلت أصحاب قاعات الأفراح والمناسبات المسؤولية في حال السماح للفنانين والمنشدين بـ”الغناء والإنشاد” في الأعراس وغيرها من المناسبات. 

وتحوّلت دعوة فنان للمشاركة في إحياء حفلة خاصة إلى جريمة يعاقب عليها القانون في دولة “الحوثي” التي منعت بثّ الأغاني العاطفية والوطنية في الإذاعة والتلفزيون وسمحت فقط ببث الأناشيد المتخصصة في مدح الجماعة وقائدها والدعوة إلى الحرب وسفك الدماء. 

وترجّح الأوساط أن تكون السلطات الحوثية بصدد العودة بقوة إلى تنفيذ قرار سابق كان قد صُدر في حزيران/يونيو 2021 يقضي بمنع الفنانين والفنانات من حضور المناسبات والأعراس التي تُقام في صنعاء ومناطق سيطرتها، في إشارة إلى مستويات التطرّف الديني والمذهبي والانغلاق الثقافي والاجتماعي الذي يمارسه “الحوثيون” في تماهٍ مع سلوكيات “طالبان” و”القاعدة” و”داعش” وغيرها من الجماعات الإرهابية.

وطالت قرارات التشدّد الحوثية مختلف أشكال الإبداع الفني، وسمحت فقط بالأعمال التي يمكن أن تندرج في حملات التعبئة أو في الترويج للفكر الكهنوتي الذي تتبناه الجماعة، وفي عام 2018 أصدرت ميليشيات “الحوثي” تعميما للمدارس الحكومية والأهلية في صنعاء والمحافظات الخاضعة لسيطرتها بمنع الغناء والفرق الموسيقية والاستعراضية أثناء الاحتفالات المدرسية، مشددة على ضرورة أخذ إذن مسبق بإقامة الاحتفالات من قِبلها. 

عودة الإمامية

يقول ناشطون إن حادثة اختطاف الفنان بسام عداعد تأتي في سياق سياسة القبضة الحديدية التي تمارسها ميليشيات “الحوثي”، والتي تدفع من ورائها إلى تكريس ثقافة جديدة تساعد على بلورة نمط مجتمعي منغلق، كما كان سائدا في أغلب مراحل حُكم الإمامية عندما تم اعتبار الغناء من المحظورات الدينية والاجتماعية.

يرى الباحث اليمني يوسف القاسمي في حديثه لـ”الحل نت”، أن جماعة “الحوثي” تتشارك مع “القاعدة” في قتل كل ما هو مصدر للبهجة لدى اليمنيين لأن تكوين هذه الجماعات تعتمد على القسوة والمعاداة للحياة. 

الزامل اليمني وفق القاسمي، هو الفن الوحيد الممكن لدى جماعة “الحوثي”، التي بطبيعة الحال تحرّم الفنون والموسيقي باعتبارها رجس من عمل الشيطان، شأنها في هذا شأن كل الجماعات المتشددة دينياً والرافضة للحياة. 

الزامل اليمني جزء متأصل في التراث الشعبي الأسطوري، ويعود تاريخه إلى مطلع القرن الثالث الميلادي المرتبط بالغزو الروماني لليمن، ويرجع إلى أسطورة التي تدور حول رجال القبائل حينها فرّوا إلى كهوف الجبال. 

وفي هدأة الليل سمعوا أصواتاً جماعية، تُردد إيقاعاً جميلاً وكلاماً بالغ الإثارة والحماسة، فبحثوا عن مصدر الصوت، لكنهم لم يجدوا أحداً، بينما كانوا يسمعون ضجيجاً ويشاهدون غُباراً. عندها أدركوا أن حرباً مشتعلةً بين الجان، فهيّجهم ما سمعوه فيها من زوامل حماسية، وتشجعوا، فخرجوا لمواجهة الغازي المعتدي، وهنا ترمز القصة إلى الشجاعة والقوة التي تعلّمها اليمنيين من الجان.

حملات مسعورة

فيما سبق دانت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات، اختطاف ميليشيات “الحوثي” لعدد من الفنانين اليمنيين والاعتداء على قاعات الأعراس واعتقال بشمال اليمن في حملة وصفتها بـ “المسعورة والهستيرية”.

يمنيون يهتفون بشعارات أثناء مشاركتهم في مظاهرة تضامنية مع الفلسطينيين ضد إسرائيل، في 19 أبريل/نيسان 2024، صنعاء، اليمن. (تصوير محمد حمود/غيتي)

الشبكة قالت في بيان لها إنها تلقّت بلاغاً عن قيام عناصر تابعة لميليشيات “الحوثي” بقيادة المدعو نايف أبو خرفشة مدير أمن محافظة عمران المعيّن من قبل ميليشيات “الحوثي” بمداهمة صالات الأعراس بأطقم أمنية وعربات مصفحة، واعتقال كلّاً من الفنان هاشم الشرفي والعازف مبروك الدحيمي والمهندس الصوتي محمد الدحيمي ونقلهم إلى جهات مجهولة. 

وعبّرت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات، عن استنكارها و استهجانها الشديدين لهذه الممارسات البشعة، واستمرار الاختطاف والاعتقال لكل من يعبّر عن رأيه بكل حرية كفلها الدستور والقانون. وطلبت الشبكة في نهاية البيان ‏المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمبعوثَين الأممي والأميركي ومنظمات وهيئات حقوق الإنسان بإدانة هذه الممارسات الإجرامية، وممارسة ضغط حقيقي على قيادات الميليشيا “الحوثية” لإجبارها على إطلاق سراح جميع المعتقلين والمختطفين دون قيد أو شرط وتحميل ميليشيات “الحوثي” كامل المسؤولية. 

كما دعا البيان المجتمع المدني، ومكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى إلى إدانة هذه الممارسات والضغط على هذه الميليشيا “الحوثية” للإفراج عنهم وكافة المختطفين تعسفيا والمخفيين قسرا والعمل على اتخاذ  اجراءات رادعة ضد الميليشيا “الحوثية”.

الإعلامي اليمني مأرب الورد في حديثه لـ”الحل نت”، قال إن بعض الأوقات يتم تصعيد حملات الاختطاف بحقّ الفنانين وإغلاق الصالات وتخريب المناسبات كلما كان هناك ضغوطاً سياسية أو لديهم أولويات يريدون توجيه الرأي العام للانشغال بعيدا عنها كما هو حاصل هذه الأيام. 

تحاول جماعة “الحوثي” وفق تأكيد الإعلامي اليمني، صرف التركيز عما يقومون به من حملة غير مسبوقة تجاه موظفي المنظمات الأممية والدولية والمحلية ولكنها في المحصلة لا تخرج عن موقف العدائي للفن.

زامل “الحوثي” بألف بيتهوفن!

جماعة “الحوثي” في حملاتهم الموجّهة على قاعات الحفلات ضد الشعب اليمني، يرون أنهم يستمعوا إلى الأغاني يستخدموا الزامل في هذه الحفلات، وهنا تبدو المفارقة غربية كلياً، فالزامل الذي بسببه اليوم يُسجن الشعب اليمني سبق وكان ومازال أداة من أدوات الاستنفار للمشاركة في الحرب ووسيلة من وسائل إعلان الانتصار لدى “الحوثيين”. 

مثلا: على وقع اشتداد المعارك بين “الحوثيين” والقوات الحكومية قرب مدينة مأرب في شمال اليمين، تفنن المتمردون في تأليف وتأدية “الزوامل”، والتي هي من الفنون الشعرية الغنائية عند اليمنيين، يهاجمون من خلالها أعداءهم و يرفعون معنويات مقاتليهم. 

والزامل في اليمن هو نمط من الفنون القبلية يتميّز بقصره، إذ لا يتعدى بيتين شعريين إلا نادرا، ولطالما كان يُقال في مناسبات مختلفة. 

لكن بعد ست سنوات على النزاع الدامي على السلطة، أصبحت الزوامل الشعبية بمثابة أداة حرب يهاجم المتمردون في كلماتها التحالف بقيادة السعودية الداعم للحكومة والسلطة والولايات المتحدة وكذلك إسرائيل. 

ففي بداية عام 2021 نشر حشد “الحوثي” قبل شنّ حملة شرسة للسيطرة على مأرب، المدينة الاستراتيجية التي تعتبر آخر معقل للحكومة في شمال اليمن، زاملا بعنوان “مأرب لنا” يقول “مأرب لنا ما هي لكم من منافق. اللي باع دينه والوطن بالريالات”. 

ولقد بزر في مجال أداء الزوامل لدى “الحوثيين” منشدون كثيرون مثل عيسى الليث الذي أطلق أغنية “استراتيجية الصبر الجميل” التي حملت كلمات قائد الجماعة، عبد الملك الحوثي. حتى أنه في مقال نشرته قناة “المسيرة” الناطقة باسم جماعة “الحوثي”، جاء أن “الزامل سلاح عابر للقارات”. وأن الزامل اليمني أصبح خلال فترة النزاع أداة رئيسية في “الحرب الناعمة”،”لن يستطيع أن يأتي بمثله ألف ألف بيتهوفن، وكلماته هي السوناتات التي يعجز عنها آلاف كشكسبير”.

وهذا يتفق مع ما قاله الورد من أن “الحوثيين يعتمدون على الزامل وهو فن حربي يمني قديم، للتجييش والتعبئة العامة واستقطاب المقاتلين وينتجون منه على شكل فيديوهات ويوزعونها على مواقع التواصل وقد حاولوا فرض هذا النوع في المناسبات الفرائحية بحيث يكون مقتصرا على الترحيب بالضيوف”. 

جماعة “الحوثي” بدأوا استخدم الزامل اليمني منذ عام 2011 بشكل واسع. وعقب ضربات تحالف “عاصفة الحزم”، صارت سياراتهم حاملة الميكروفونات تذيع أناشيدهم مثل “ما نبالي ما نبالي” الشهيرة، تحت وقع أصوات انفجارات قذائف الطائرات، بقصد شحذ معنويات السكان وتشجيعهم على تحمّل القصف. 

كما تقوم قناتهم، ببثّ تلك الأغاني القتالية بوتيرة عالية. ويقول القاسمي في هذا الصدد، لقد عملت جماعة “الحوثي” على استغلال كل ما هو يمني حتى التراث للاستفادة منه في حروبهم، ولهذا تطورت “الزوامل” وأضافوا إليها التوابل الخاصة بالقتال والجهاد لتقديم الخلطة الميليشياوية الخاصة بهم. 

وأصبح الزامل اليمني يؤدي دورا كبيرا و جوهريا في التحشيد لجبهات القتال، ودفع المقاتلين في المعارك، واستمالة القبائل، وتمجيد حركة “الحوثي”، وحتى الحركات خارج اليمن كـ”حزب الله” في لبنان، و”الحرس الثوري” في إيران، حتى أنه لم يعد سماع الزامل حصرا على الجبهات والمعارك، بل أصبح جزءا من المشهد اليومي في المدن الخاضعة لسيطرة “الحوثيين”، فلا تكاد تجد مكانا أو شارعا في صنعاء إلا وصوت “الزامل” يصدح من إحدى جنباته وزواياه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة