مع مرارة الوضع في غزة على المدنيين، منذ نشوب الحرب إثر هجمات حركة “حماس” ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، كان السؤال يتردد على استحياء بما وراء تلك الحرب واندلاع الصراع المباغت، والأطراف المستفيدة، وقد كانت الأصوات المعارضة للحرب في الأوساط العربية تلاحقها اتهامات عديدة ترقى حد “العمالة” والتخوين.

ومبعث هذا السؤال كان بسبب انهيار البنية التحتية لغزة وعدم وجود الحدود الدنيا للحياة الأساسية من تعليم وصحة وغذاء. فانعدام شروط الحياة التي لم توفرها سلطة “حماس” الحاكمة للقطاع، ودفعت به لحافة الهاوية في حرب بهذا الحجم، ومن المحتمل أن تمتد إلى الإقليم في حال حدوث معركة في لبنان أو غيرها من الجبهات المشتعلة، جعل السؤال عن ردود فعل الغزاويين تجاه الحرب، ورؤيتهم لـ”حماس” أو موقفهم منها، أمراً ملحاً.

ولم يكن السؤال على بساطته وبداهتة الذي طرح في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” وهو بالنص: “سؤال لشعب غزة وممنوع اي حد من خارجها يعلق، شو رأيكم في 7 أكتوبر؟”، سوى لحظة كاشفة من خلال ردود وأجوبة الفلسطينيين ويضيء على مواقفهم الحاسمة الرافضة للحرب، والممتعضة من التخريب الذي لاحقهم ومنشآتهم المدنية وتعطل الأمور الخدمية نتيجة الحرب.

ردود أهالي غزة من 7 أكتوبر

واللافت أن مثل تلك الردود التلقائية والعفوية أو قل العشوائية هي التي تعد مؤشراً هاماً للغاية عن القوى المدنية التي يتم قمع صوتها في غزة بواسطة الأجهزة الإعلامية الدعائية التابعة للحركة الإسلاموية، وآخرين موالين لهم، ويتم استغلال ظروفها الصعبة والمأساوية للتعمية عن ضلوع قادة الحركة في عمليات العدوان والتخريب، في صراع إقليمي قائم على أهداف ليس من بينها عدالة أي قضية لها صلة بالتحرير وحل الدولتين. وهذه الأصوات التي كشف عنها السؤال في الموقع الافتراضي لن تتمكن الذباب الإلكترونية لـ”حماس” من المزايدة عليها كما تفعل مع آخرين. فهؤلاء “ملح الأرض”.

سكرين شوت لأحد تعليقات أهل غزة على السؤال الذي تم طرحه على منصة “الفيسبوك”

كان لافتاً في الأجوبة ليس رفضها للحرب إنما تبديد سردية حركة “حماس” و”محور المقاومة” بخصوص ما جرى منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، واعتبار هذا الفصل من التاريخ هو “نهاية القضية الفلسطينية”. بل تخطت الأجوبة وتعليقات المتابعين مجرد الانفعال إلى التحليل الموجز الذي ينطق أهل غزة وكأنما المثل العربي يتحقق “أهل مكة أعرف بشعابها”.

ومن بين التعليقات: “دمرونا جوعونا رجعونا 70 سنة لورا دمرو حياة الأطفال فش تعليم فش تأسيس روضات خسرنا شباب وقرايب وحبايب من أعز الناس خسرنا دورنا وشغلنا وحياتنا كلها إرجعنا للصفر من أول وجديد”.

وعبر آخر عن وجود مصالح سياسية محدودة وشخصية وراء الحادث، فقال: “جبرونا نكون أضاحي بالمسالخ الوطنية لأهدافهم الشخصية أو السياسية إلي صغيرنا قبل كبيرنا بعرفها، لعنة حلَّت علينا بعد السابع من شبشبي”. وأبرز تعليق هجومي ضمن مئات الردود كان بتوقيع “مواطن من غزة..”، وقال فيه: بعيداً عن أي مزايدة.. بس شو استفدنا من 7 أكتوبر؟! وين المكسب أنك تطالب بالعودة لمكان أنت كنت فيه؟! حتى أنه لو رجعت للمكان مش رح تلاقيه؟!”.

وتابع: “شو استفدنا من يوم 7 كندرة المشؤوم وليش أنا اضطريت أطلع بأطفالي للنصيرات ورفح ودير البلح ؟! ليش أولادي ما راحو عالمدرسة؟ ليش بنضطر نسكن بخيمة واحنا كانت بيوتنا قخمة وفاخرة ؟! ليش بنشحن جوالاتنا بشيكل وبنتركها تخرب* واحنا كان عنا شوية كهربا وطاقة ومواتير ؟! ليش بنشرب مية مش *نظيفة ؟! وليش خايفين الغاز يخلص ؟! ليش الاسعار كل شوية بحال ؟! وليش المساعدات بتنباع؟!. احنا ليش هنا .. ليش مش ببيوتنا؟!. ليش المفاوض العنيد ابوراس مربعة فارد رجليه وبيتمغط وبيتشرط والناس منتظرة على نار؟!. احنا ليش مصيرنا مربوط بنرجسي وفاشي؟!.

تعليقات المواطنين في غزة، تبدو لافتة من ناحية تماسها التام مع الحقائق الواقعية على الأرض، وشعورها أو تعبيرها عن الشعور بالإفقار وعدم التنمية في ظل سلطة الحركة، وفوق كل ذلك، تندلع معركة في ظل بيئة رخوة وأوضاع متهدمة في قطاع التعليم والصحة ونقص الغذاء والموارد، بينما تفاقم مأساة المواطنين ويصبحون نهباً للجوع والمرض والموت في حين تعتبر “حماس” هذا الموت المجاني “شهادة” تنبعث منها “روائح الجنة” بحسب تعبيرات قادة “حماس” و”حزب الله”، وليس لشيء سوى أنه يخدم سرديتهم السياسية والأيدولوجية ويحقق الفائدة الإقليمية لمصالحهم الخارجية في السلطة والصراع على الحكم.

تأزيم الأوضاع

راكمت السلطة الحاكمة في غزة منذ انقلابها عام 2006، والمجازر التي تسببت فيها بدعوى مكافحة المتمردين التابعين لسلطة رام الله وحركة “فتح”، أزمات عديدة في القطاعات الخدمية الأساسية بغزة، وظلت المعاناة من نقص الدواء مستمرة وتتزايد حدتها بحجة “المديونيات” أو قلة الموارد والحصار، رغم أن كل تلك الحجج لم تكن لحظة عائقاً أمام توفير الأسلحة والمسيّرات والصواريخ واستكمال التدريبات وشن المعارك التي تتوافر لها القاعدة المالية وكافة اقتصاديات الصراع، والدعم الداخلي والخارجي لإسناد عمليات التهريب.

دمار هائل في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023- “وكالات”

وبحسب موقع “العربية”، عام 2011، كانت الحكومة المقالة في غزة قد اتهمت الحكومة الفلسطينية في رام الله بمنع قائمة الأدوية المطلوبة من الوصول إلى القطاع، وتحدثت عن نقص لديها وصل إلى قرابة مئة وثمانين صنفاً من أصل أربعمئة في الأدوية الطبية ومئتي صنف من المستلزمات الطبية. وعلق أشرف القدرة مدير الإعلام في وزارة الصحة التابعة للحكومة المقالة بقوله إن النقص الحاد يتصدر الأدوية الخاصة بمرضى الكلى والحليب العلاجي للأطفال ومرضى القلب.

وتابع: “كان مكتب منظمة الصحة العالمية في غزة قد أكد نقص الأدوية الحاصل في القطاع، حيث مشافي غزة أعادت جدولة العمليات الجراحية وأبقت فقط على الضرورية منها، والضفة الغربية والتي تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية تعاني بدورها من ذلك النقص، حيث وصل العجز في مخازنها هناك إلى قرابة الـ150 صنفاً”.

فيما ردت السلطة الوطنية الفلسطينية على اتهامات الحكومة المقالة بأن “إشكالية نقص الدواء ليست سياسية وإنما لعجز مالي تعانيه السلطة، حيث تراكمت الديون على وزارة الصحة لصالح شركات توريد الأدوية، ما منع بعضها من مد مخازن وزارة الصحة بما ينقصها من أصناف وكميات”.

بالتالي، ليس مستغرباً أن تكون حال كل من التعليم والصحة على نفس الوضع وينحدر من السيء إلى الأسوأ ويواجه ظروفاً معقدة في ظل المنعطفات الحادة التي يتسبب فيها حكم “حماس” للقطاع منذ نحو 18 عاماً تقريباً. ويقول الناطق بلسان “اليونيسف” في الأراضي الفلسطينية، جوناثان كريكس، إن مبادرة إقامة المدرسة التي أقدمت عليها مديرة مؤسسة تعليمية، “تسمح للأطفال خصوصاً بالتعامل مع الصدمة”، مشيراً إلى أن الوضع “مأسوي تماماً”. ويردف: “هناك 325 ألف طفل في سن الدراسة لم يحضروا ساعة صف واحدة منذ 6 أشهر”.

الاستعانة بفكرة المظلومية

كما أن عسكرة المشافي والمدارس من قبل “حماس” جعلها ضمن الأهداف العسكرية التي تطاولها المسيّرات والصواريخ الإسرائيلية. وقد سبق لجون كيربي، الناطق بلسان “مجلس الأمن القومي الأميركي”، أن أكد على معلومات حصل عليها “البيت الأبيض”، مفادها أن “حماس” ومسلحين آخرين في غزة يستخدمون المستشفيات والأنفاق تحتها للاختباء واحتجاز الرهائن. وذكر كيربي: “أستطيع أن أؤكد لكم أن لدينا معلومات تفيد بأن حماس والفصائل الفلسطينية يستخدمان بعض المستشفيات في قطاع غزة بما في ذلك مستشفى الشفاء والأنفاق تحتها لإخفاء ودعم عملياتهما العسكرية واحتجاز الرهائن.. أعضاء الفصائل الفلسطينية يديرون نقطة قيادة وسيطرة من منطقة الشفاء في مدينة غزة”.

كما وقد زعم آخرون أن “حماس” تضع المدنيين بالقرب من مناطق تمركز قواتها لعدة أهداف منها، الحصول على حماية وإحداث أضرار بالغة في حال مهاجمتها يمكن تسويقها إعلامياً، الأمر الذي تكرر عدة مرات، وآخرها في تحرير الرهائن الإسرائيليين من مخيم النصيرات.

نازحون من حي التفاح في غزة في 27 يونيو 2024 -“أ.ف.ب”

و”حماس” تستعين طوال الوقت بفكرة المظلومية التاريخية وعلى النحو الذي له صلة أو يخدم القضية الفلسطينية، من وجهة نظرهم، بينما تحاول تفخيخ الشعور الديني من خلال تثبيت سرديات العِداء بين المسلمين واليهود.

وهنا يصبح الصراع ليس سياسياً وليس في الحاضر وفي صورته المعاصرة، إنّما هو صراع تاريخي قديم وله صفة دينية مقدّسة. أي أمة في مقابل أمة (إسلام ويهودية). وذلك بما يعمّق الصراع ويجعل الطرف الإسلاموي يواصل الموت و”الاستشهاد” ليستعجل النصر “الإلهي” المحتوم، كما في السرديات الراديكالية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات