مرة أخرى، ثمة إلحاح لدى موسكو على إحداث انعطافة في العلاقات بين أنقرة ودمشق. ودور الوساطة الذي يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ظل السياق الإقليمي والدولي الراهن، سواء على مستوى حرب غزة، أو الغزو الروسي لأوكرانيا، وبما لهما من تداعيات جمّة ومباشرة في ملفات الإقليم، إنما يستهدف توسيع الدور الروسي بالمنطقة، وتعزيز مصالحه المختلفة. 

واقعيا، تستهدف موسكو من خلال وساطتها بين دمشق وأنقرة، الاستفادة من جملة ظروف، لإعادة العلاقات بينهما والتي توترت لحدودها القصوى منذ أن انخرطت الأخيرة في الحرب السورية، ثم الهيمنة على عدة مناطق في شمال غرب سوريا. 

روسيا التي تتخوف من نمو الدور الإيراني للحد الذي يقّلص ويهمّش من نفوذها ومصالحها، تميل باتجاه ترميم العلاقات مع تركيا لتشكيل جبهة تتماسك فيها المصالح باتجاه حلحلة الخصوم المشتركين، لا سيما “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، فضلاً عن محاولة بناء مقاربة مغايرة مع “المعارضة السورية” بوجود هذه الجبهة لإدارة التناقضات بين دمشق و”المعارضة” التي تبني معها أنقرة علاقة رعائية في إدلب وشمال غرب سوريا.

موسكو ومسعى التقارب بين دمشق وأنقرة

ورقة “المعارضة” التي تضغط عليها أنقرة، تبدو ضمن رهانات موسكو لإيجاد طرف خيط في هذه الانعطافة المطلوبة بين الرئيس التركي ونظيره بشار الأسد، ويضاف لها الخصومة ضد الوجود الكردي، واعتباره عدواً يتم التعاطي معه عسكريتارياً وأمنياً. ويقول وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إن “توقف الصراع المسلح بين دمشق والمعارضة في سوريا، يمثل في الوقت الراهن الإنجاز الرئيسي لتركيا وروسيا. في هذه الجمهورية العربية”.

وتابع فيدان: “أهم شيء تمكّن الروس ونحن من تحقيقه في سوريا هو أنه لا توجد حرب حالياً بين النظام والمعارضة. إن مفاوضات أستانا والأشكال الأخرى جعلت ذلك ممكناً في الوقت الحالي”، مردفا: “دمشق بحاجة لـ استغلال فترة الهدوء هذه بحكمة (…) يجب عليها أن تستغلها كفرصة لإعادة ملايين الأشخاص الذين فرّوا إلى الخارج وإعادة بناء البلاد. وشدّدتُ على ذلك خلال اجتماعاتنا مع زملائنا الروس في موسكو. يجب على سوريا أن تفعل ذلك بنفسها. نحن ندرس هذا الأمر، عودة اللاجئين أمرٌ مهم”.

اضطلع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدور غير خفي في الحرب السورية على مدار عقد تقريباً، وذلك منذ أن انخرطت قواته بشكل مباشر وقوات “فاغنر” في إدارة العنف بتوحش ضد السوريين والمنشآت المدنية، وتحويل الجغرافية السورية التي تتقاسمها أطراف إقليمية ودولية مختلفة، إلى مناطق نزاع وإبادة، ترقى وقائعها إلى جرائم حرب بحسب تقارير أممية عديدة. 

في نهاية 2016 تم التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين “المعارضة” والأسد، بما يمهّد للبدء في عملية تفاوضية وحل سياسي سلمي. وجرى تدشين ثلاث اتفاقيات، أولهما وقف إطلاق النار، وثانياً، تتضمن مراقبة نظام وقف إطلاق النار، والثالثة تشمل استعداد القوى المختلفة ومدى استجابتها للانخراط في عملية التفاوض والتسوية السياسية. 

تتزامن وساطة موسكو بين أنقرة ودمشق مع ميل جديد وتقليدي ويبدو مزمناً من الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى استمرار تهديده بشنّ حرب عسكرية على شمال سوريا، بينما يواصل بمسيّراته استهداف المنشآت المدنية تحديداً المرتبطة بالكهرباء والطاقة. 

وفي الوقت الذي تزعم صحف تركية مقرّبة من حزب “العدالة والتنمية” أن مطار السليمانية تحول لـ”قاعدة لوجيستية” لصالح حزب “العمال الكردستاني”، والأخير حصل مؤخراً على أسلحة في محاولة لشرعنة هجوم تركي ضد الحزب، فإن الجيش التركي بعث بتعزيزات عسكرية في منطقة “خفض التصعيد” بإدلب. 

وإثر اللقاء الذي جمع بوتين وفيدان، مؤخراً، ومهّد لاستئناف المحادثات المتوقفة بين تركيا وسوريا، لم يتردد إردوغان في مغازلة دمشق على خلفية معارضتها لانتخابات “الإدارة الذاتية” المحلية، وقال: “من دون شك، لن تسمح الإدارة السورية بإجراء الانتخابات أو القيام بخطوات في هذا الاتجاه”.

تأمين المصالح الإقليمية

بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، فإن القوات التركية استأنفت لليوم الثالث (حتى تاريخ 21 حزيران/ يونيو الجاري) تعزيز وجود قواتها في النقاط التي تتماس مع القوات السورية. وقال: تزامن ذلك مع تحرّكٍ من الجيش السوري لنقل دفعة من منظومات صواريخ “بوك” و”توشكا” من مطارَي الطبقة في ريف الرقة وصرّين في ريف حلب، إلى نقاطه التي تقع مقابل مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” والفصائل الأخرى.

وتتزامن هذه التحركات في منطقة “خفض التصعيد”، مع التحركات الروسية التي بدأت قبل فترة وجيزة، وضمت عسكريين روس وأتراك وسوريين بـ “قاعدة حميميم” الجوية التي تقع في قبضة موسكو. 

وكشف المرصد الحقوقي، ومقرّه لندن، عن “اجتماع سرّي”، قبل أكثر من أسبوع، بين عسكريين روس وأتراك في مدينة تل أبيض الواقعة ضمن منطقة “نبع السلام” الخاضعة لسيطرة القوات التركية وفصائل ما يعرف بـ “الجيش الوطني السوري” الموالية لأنقرة، وسط استنفار وتخبط بين الفصائل، ومخاوف من احتمال تسليم المنطقة، باتفاق روسي تركي، للجيش السوري بهدف بسط سيطرته على المنطقة. 

وزير الخارجية التركي هاكان فيدان – (إنترنت)

وقال المرصد، إنه “في الوقت الذي يبدو أن هناك اتفاقيات ضمنية بين الجانبين الروسي والتركي في المناطق الخاضعة لسيطرة الأخير ضمن مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات ونبع السلام لإعادة سيطرة الجيش السوري على تلك المناطق وإضعاف (قسد)، تشهد إدلب وريفها تعزيزات عسكرية تركية في الجهة المقابلة لخطوط التماس مع القوات السورية، تحسباً لتصعيد عسكري أو معارك محتملة”.

إذاً، روسيا تحتاج إلى تأمين خاصرة نفوذها الإقليمي على البحر المتوسط، وهو لن يكتمل ما لم تتحسن العلاقات بين أنقرة ودمشق. فالحضور العسكري الروسي الأبرز في الخارج هو في الساحل السوري، حسبما يوضح الكاتب والباحث اللبناني المختص في الشأن التركي، خليل حرب. ويوضح في حديثه مع “الحل نت”، بأن هناك قمة ستجمع بوتين وإردوغان على هامش قمة “منظمة شانغهاي” للتعاون في أستانا بعد نحو أسبوع.

لدى موسكو علاقات جيدة مع أنقرة ودمشق، وتصالحهما في صلب المصلحة الروسية. ربما لا يكون “الملف السوري” البند الأول في اجتماع الرئيسَين، لكنه في أغلب الظّن سيكون مطروحاً. صحيح أن الوزير لافروف أعلن في آذار/ مارس الماضي، تعثّر الوساطة الروسية، وأن التطبيع بين تركيا وسوريا “ليس ممكناً الآن”، إلا أن هناك عناصر أخرى تتبدل.

صعوبات إتمام التطبيع

يرجح الباحث المختص في الشأن التركي، خليل حرب، احتمالية تنفيذ إردوغان تهديده بشنّ عملية عسكرية كبيرة خلال الصيف الحالي باتجاه الشمالين العراقي والسوري، ويردف: “يدرك إردوغان أن أي هجوم مهما كان كبيراً، لن يحقق هدفه المتمثل باقتلاع حزب العمال الكردستاني ولا القوات الكردية السورية التي يتهمها بالارتباط بحزب الـ PKK، إذ يحتاج في رهانه العسكري الجديد، إلى تعاون جيوش البلدين والبيشمركة في إقليم كردستان”.

كما يحتاج إردوغان أيضاً إلى تفاهمات مع الإيرانيين الذين لهم نفوذهم وارتباطاتهم في مناطق “الشمالَين” المستهدفَين. إذاً، الهجوم المتوقع، يحتاج كمصلحة تركية، خطوط تواصل مع دمشق، وتشير المعلومات والتصريحات العراقية الرسمية إلى جهدٍ تقوم به بغداد لدفع جهود التواصل بين أنقرة ودمشق، وفق خليل حرب.

تحتاج أنقرة وبغداد “شمالاً هادئاً” أكثر من أجل المُضي قدماً في مشروع “طريق التنمية” الاستراتيجي من البصرة نحو الأراضي التركية، ومنه إلى أوروبا، وسوريا قد تشمل أيضاً في تفرعات “طريق التنمية” من الأراضي العراقية باتجاه الساحل السوري. 

إذاً، العواصم الأربعة بحاجة ماسة إلى هذه المصالحة. لكن “شروطها” لم تتزحزح حتى الآن. أنقرة أعادت طرح معاييرها المسبقة للتقدم في مسار التطبيع: دستور شامل وانتخابات حرة في سوريا، وضمان أمن الحدود التركية. وفي المقابل، تقول دمشق، مثلما أعلن وزير الخارجية المقداد في 4 حزيران/ يونيو الجاري، أن موقفها لن يتغير، وهو إقرار أنقرة بإنهاء الاحتلال التركي للأراضي السورية. 

ربما، تستجيب دمشق لتحركات بغداد وموسكو وطهران باتجاهها بمجال إقناعها بالسير في طريق الصلح، إلا أنه من الصعب تصوّر تراجعها عن شرط خروج الاحتلال التركي، كما أنه من الصعب تقدير طبيعة المغريات التي سيقدمها إردوغان لإقناع السوريين بجديته، بخلاف الرغبة بمحاولة قطع رأس حزب “العمال الكردستاني”، وفق الكاتب والباحث اللبناني المختص بالشأن التركي. 

فهناك “عنصر ضاغط” على أنقرة يتعلق باقتراب موعد الانتخابات الأميركية في ظل تزايد الحديث حتى في أروقة واشنطن حول الضرورة المرجّحة لخروج القوة الأميركية المتمركزة في شمال وشرق سوريا، وتحديداً في مناطق سيطرة الكرد الذين يعتزم أردوغان مهاجمتهم. 

حشد من دبابات تركية بمواجهة مناطق الإدارة الذاتية في شمال سوريا – (أرشيفية – وزارة الدفاع التركية

وبشكل عام، فإن القوى التركية المختلفة، تميل الى خيار انفتاح أنقرة على دمشق، لأن ذلك “قد يساهم في تخفيف ورقة النازحين السوريين التي أثارت الكثير من البلبلة والآراء الحادة في العامين الأخيرين. بعض تلك القوى، تميل بالأساس ومنذ سنوات إلى ضرورة المصالحة مع دمشق”. يقول حرب.

كعادته سيحاول إردوغان الاستفادة من علاقاته مع بوتين، المضغوط بسبب الحرب الأوكرانية وانكباب الغرب ضده، كما سيحاول الاستفادة من العلاقات التي تنشّطت مع بغداد، من أجل تحقيق أهدافه السورية. إلا أنه من دون معالجة حقيقية وعقلانية، لملفي “شرق الفرات” و”فصائل إدلب”، قد ينفذ إردوغان “تهديد الصيف” باللجوء الى خيار الحرب. 

ترابط “الملفين” واضح. وقبل أيام، أعلن ما يسمى “المجلس المحلي لمدينة الباب” شرق حلب، الواقعة على خط طريق “أم 4” الدولية، أنه سيتم فتح معبر أبو الزندين الواصل بين مناطق نفوذ الحكومة السورية والفصائل السورية التابعة لما يسمى “الجيش الوطني السوري” الممول والمسلح من جانب تركيا، أمام الأنشطة التجارية “على أساس تجريبي ليتم قبوله كمعبر تجاري رسمي”. 

في النهاية، ربما يبدأ العلاج للتطبيع التركي – السوري من باب التنسيق الميداني المحدود كبراهين على حسن النوايا بين الطرفين، لكن يبقى السؤال حول مصير شروط إردوغان التي تبدو عائقاً أمام الانفتاح والتطبيع بين البلدين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات