مع التطورات الأخيرة التي شهدتها ساحة وميادين الصراع المندلعة في إطار حرب غزة، لا سيما بعد مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، إسماعيل هنية في طهران، ثم مقتل فؤاد شكر (الحاج محسن) في قلب الضاحية الجنوبية بالعاصمة اللبنانية بيروت، وأعقب هذا الحادث الذي طاول ثاني أهم شخصية قيادية بالهرم التنظيمي لـ”حزب الله”، مقتل عناصر وقيادات أخرى، الثلاثاء، خفت دور “الجماعة الإسلامية” بلبنان، ويبدو أن الأخيرة تعاني تحديات جمة تبعاً لدورها الوظيفي والمحدود الذي تم تكليفها به كونها ضمن جبهة الإسناد الداخلية للحزب المدعوم من إيران.
وعلى ما يبدو أن الجماعة السنية التي عاودت نشاطها العسكري وظهرت ميلشياتها “قوات الفجر” بتنسيق مع آخرين في ما يعرف بـ”محور المقاومة”، رغم انحسار سلاحها منذ عقود، جاء في سياق محدد هو بداية تبعيتها لطهران خاصة بعد انتخاباتها قبل عامين والتي أفرزت أسماء في هيكلها القيادي التنظيمي معروفين بانتماءهم لـ”الولي الفقيه”، ومن ثم، تعويم وجودها بلبنان السياسي والعسكري الميداني بضوء أخضر من “حزب الله”، والذي هو بحاجة إلى ظهير سني يكون رافعة لمشروعه الإقليمي والمحلي بلبنان.
فمن ناحية، يملء فراغ السنة بعد غياب أو تغييب على نحو دقيق “الحريرية” السياسية، وقد باعد بين سعد الحريري العمل السياسي سيطرة الحزب على قرار السلم والحرب في لبنان، وانتهاك لسيادة البلاد التي باتت مرتعاً لقادة “الحرس الثوري الإيراني”، وتنقلاتهم المريبة، فضلاً عن عمليات التهريب المشبوهة للسلاح من وإلى سوريا، بما جعل الحدود متخمة بتحركات تجعل الأمن اللبناني والقومي والدولي على المحك.
مع احتدام الصراع للدرجة التي تبدو راهناً صراع إرادات وجودي، تكاد “الجماعة الإسلامية” تواجه معضلة غياب أي استحقاق من الحرب وتتلاشى رغم كل الصخب الإعلامي التي روجت له، ومع رفع الأطراف الرعائية يدها، تصبح بلا هيكل متماسك.
ومن ناحية أخرى، جاءت عسكرة السنة وضمهم لمحور الممانعة وسيلة لتصفية حسابات عديدة مع ما يعرف بـ”محور الاعتدال” إقليمياً ممثل في مصر والسعودية، وتنفيذ أجندة قوى أخرى رعائية للإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، كما هو واضح في التبعية لمثلث قطر تركيا إيران.
“الجماعة الإسلامية” تتخبط
بالتالي، فإن سياسة الاغتيالات ومروحة الاستهدافات الاسرائيلية النوعية والمركزة التي طاولت قادة مؤثرين في حركة “حماس” و”حزب الله” وآخرين في ما عرف بـ”غرفة عمليات” السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، وهي تضم قادة الفصائل الولائية التابعة “للحرس الثوري”، ومقرها لبنان، تجعل رهانات الحركة السنية التي تستمد رصيدها من الغطاء العسكري والحماية اللوجيستية من “حزب الله”، وهو الغطاء الذي يمنحها الإطار الشرعي الآمن والقدرة الأمنية والميدانية على الحركة والتموضع في عدة جبهات لتسويق دورها في الحرب.
غير أن هذا الدور الذي لا يتخطى كونه عمليات على هامش الدور المركزي لإيران، تستفيد منه الجماعة السنية بإدارة حملات إعلامية وتدشين عراضات عسكرية بين حواضنها لغرض التعبئة وتوليد “جهاديين” في معسكر يتم تجهيزه وإعداده وتسليحه برعاية إيرانية.
ومع احتدام الصراع للدرجة التي تبدو راهناً صراع إرادات وجودي، تكاد “الجماعة الإسلامية” تواجه معضلة غياب أي استحقاق من الحرب وتتلاشى رغم كل الصخب الإعلامي التي روجت له، ومع رفع الأطراف الرعائية يدها، تصبح بلا هيكل متماسك.
إذ تتخبط الجماعة بين عدة مشاريع في ظل الانقسامات الداخلية غير المحسومة. حتى وإن لعبت الانتخابات الأخيرة دوراً في تنحية وتحييد الأطراف التي تقف على الضفة الأخرى من تسليم مفاتيح التنظيم إلى إيران، بيد أن هذه الأطراف والتناقضات تظل مثل ألغام ترشح الصراع إلى الانفجار واتساع وتيرته، إلى أن يصل الفرع اللبناني لجماعة “الإخوان” لما يمكن وصفه بر الأمان أو المعادلة التي تضمن بقاءه.
وبحسب مصدر سياسي لبناني، فإن صعود محمد طقوش في الأمانة العامة للجماعة، يبعث بامتعاض وعدم رضا أطراف عديدة داخل الجماعة، ويصف ذلك بأنه يتسبب في “انشقاقات مكتومة” تنتظر الظروف المواتية لـ”الإعلان عن مواقفها أو أخذ الجماعة لمسار آخر، يحررها من قبضة يحيى السنوار وهيمنة حزب الله، ويوصف طقوش بأنه ضابط ارتباط لدى حزب الله وهي صيغة مخففة للكشف عن دوره لحساب الحزب الولائي وقد كان المكتب السياسي للجماعة مكشوفاً طوال الوقت بواسطة طقوش الذي مكن مهندسي الحزب من إدارة الانتخابات لحساب تصعيد القيادات التابعة لهم في توقيت متزامن مع شن “طوفان الأقصى””.
عدم استكمال دورها
ويشير المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ”الحل نت”، إلى أن “الجماعة الإسلامية” في لبنان لن تستكمل دورها الوظيفي مرجحاً “ظهور بوادر خلاف وربما انشقاقات في صفوفها، وأن يعلن عن الصدع في التنظيم قريباً، حيث إن الهدف الاستراتيجي من وجودها كغطاء سني لمواجهة أو تنفيذ عمليات عسكرية ضد إسرائيل بينما اليد الطولى هي لـ”حزب الله” وإيران، لا أفق له، في ظل التحولات الصعبة وارتفاع مستوى المواجهة والعمليات على مستوى الرد والرد المضاد بين إسرائيل وإيران ووكلائها.
وتعي الجماعة السنية أنها بحاجة لاستعادة مسارها ما قبل التبعية، وتشق طريقاً لها في ظل ما تبدو عليه الأطراف الرئيسية التي تتخلى عن فكرة الاصطفاف وترتكز على مصالحها، حتى وإن كلف طهران وميلشياتها تأجيل الرد على مقتل فؤاد شكر وآخرين، وأن تتنازل عن معادلة الضاحية مقابل تل أبيب.
دور “الجماعة الإسلامية” في لبنان، وتنشيط دورها العسكري بإخراجها جناحها “قوات الفجر”، يتمثل في بناء كتلة سنية قادرة على وضع قبضتها على سنة لبنان بعيداً عن رموزه التقليدية في “بيت الحريري”، وطرح بديل من خلال الإسلام السياسي.
إعادة إنتاج قوى سنية معتدلة
وفي ظل ابتعاد السعودية أو تململها إزاء دورها الداعم للقوى السنية سياسياً مع احتدام الصراع والتخريب الإيراني والضغط في اليمن لإبعاد المملكة عن الساحة اللبنانية، فإن إيران وحلفائها يبحثون عن تعزيز فرص الإسلامويين من خلال “إخوان لبنان” لصالح حساباتهم الميدانية والخارجية.
وبالعودة إلى المصدر السياسي اللبناني، فإن تعليق “تيار المستقبل” لعمله السياسي وابتعاده عن العمل في البيئة السنية “قد لا يطول، حيث إن المملكة العربية السعودية والإمارات لدى كل منهما رغبة إلى التدخل بتفاهمات دولية جديدة لإعادة إنتاج قوى سنية معتدلة، خاصة في ظل المزاج الشعبي الذي لا يرغب في الحرب، ويجد في الدور الإيراني وحزب الله مغامرة أو مقامرة على حساب لبنان، كما أن مقرات الحزب في بيروت قد تم إغلاقها، بل إن التطورات الأخيرة أرغمت الجماعة السنية على أن تغلق أبوابها وتراجع حساباتها في صمت”.
يتعين على القوى المعنية كافة بذل قصارى جهدها لمنع حدوث شقاق كبير داخل الطائفة السنية، وتجنب الوصول إلى وضع تشعر فيه شريحة من السنة بالاستبعاد والتهميش.
وهذا التباين أو التناقض الذي تعانه من آثاره “الجماعة الإسلامية” في لبنان، ألمح إليه مركز “كارنيغي”، والذي أوضح أنه “في الواقع، عبرت الجماعة الإسلامية عن أمور ذات دلالة مهمة مؤخراً على لسان نائبها الوحيد، عماد الحوت. ففي إشارة إلى الموقف السني التقليدي، قال الحوت إن الجماعة تسعى إلى بناء دولة قائمة على (المواطنة) و(إعادة انتظام) المؤسسات”.
لكنه أضاف أيضاً في تصريح ينسجم إلى حد كبير مع موقف “حزب الله”، أن الجماعة عازمة على “التصدّي للعدو الصهيوني، والأصل فيه أن يكون من خلال استراتيجية دفاعية للدولة”. إذاً، يدافع الحوت عن مشروع يجمع بين بناء الدولة والمقاومة. نظراً إلى هذا النهج، قد تصبح الجماعة الإسلامية، وحتى الطائفة السنية ككل، بمثابة جسر يربط بين هذين التوجهَين المتعارضين”.
لكن التوفيق على نحو متوازن بين المقاومة وبناء الدولة أمر صعب للغاية. فمن جهة، تحث القوى المسيحية والسياسيون السنة التقليديون في لبنان دول الخليج ومصر على تحييد السنة عن الصراع مع إسرائيل وعن تأثير “حزب الله” والأحزاب السنية التي تتشابه معه من حيث التوجه. ومن جهة أخرى، يبذل “حزب الله” جهوداً حثيثة لتحويل تنسيقه المؤقت مع الجماعة إلى تحالف طويل الأمد من شأنه جذب مجموعات سنية إضافية. نتيجة لذلك، يمكن القول إن المستقبل القريب للسنّة في لبنان مسألة دقيقة ولا يمكن التنبّؤ بها، في ظل احتمال حدوث انقسامات صارخة، بحسب “كارنيغي”.
ويردف: “وعلى الرغم من أن الجماعة الإسلامية ومعارضيها يعملون على تعزيز مكانة السنة في المشهد السياسي اللبناني الداخلي وتحسين موقعهم، يعرّض الصراع المتواصل مع إسرائيل واحتمالات تصعيده جميع القوى المعنية للخطر. وقد تواجه الجماعة وحلفاؤها صعوبة في تطبيق رؤيتهم وتوفير الموارد اللازمة لذلك، ما قد يضعف تأثيرهم وتأثير مناصريهم. وفي حال فشلت الجماعة في تأمين الموارد الضرورية، قد تطلب الحماية والدعم من حزب الله. في المقابل، سيصبح خصوم الجماعة الإسلامية، الذين يعارضون تنامي الرأي العام المؤيّد للمقاومة في أوساط السنّة، في عزلة عن قاعدتهم الشعبية، ما سيؤدي إلى تقليص دورهم التمثيلي داخل الطائفة بصورة إضافية. هذه الديناميكيات من شأنها مفاقمة تهميش السنة ورفع منسوب الإحباط داخل الطائفة. في مطلق الأحوال، يتعين على القوى المعنية كافة بذل قصارى جهدها لمنع حدوث شقاق كبير داخل الطائفة السنية، وتجنب الوصول إلى وضع تشعر فيه شريحة من السنة بالاستبعاد والتهميش”.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.