بين الحين والآخر، تسعى قوى عديدة محلية وأطرافها الرعائية الإقليمية أن تطوق مناطق “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، وتفرض عدة أعباء أمنية وعسكرية على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بهدف تأزيم وجودها السياسي وإعاقتها عن تطوير وجودها الذي يعزز الاستقرار بالمنطقة، ويتجاوز فكرة الحكم كأمر واقع إلى بناء عقد اجتماعي تشاركي مع القوى المختلفة بالمنطقة وبتمثيل عادل لا يهضم حقوق أي طرف لحساب سردية سياسية وقومية وطائفية محددة، كما ونقل عدوى تجربة “الحكم البعثي” و”آل الأسد” بتعميم السردية العلوية، أو نموذج “داعش” و”هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً” (فرع تنظيم القاعدة المحلي) الذي يفرض رؤية سنية متشددة.

بالتالي، فإن المحاولات المشبوهة والمحمومة التي تتكرر من دون كلل، تتأتى في توقيتات لافتة، بينما الأطراف الخارجية مشغولة مرة بالحرب في أوكرانيا، أو تصاعد الحرب في غزة. حيث إن تحريك قوى محلية عشائرية، مرة، أو عسكرية، مرة أخرى، لجر “قسد” في صراع استنزافي لا أفق من وراءه سوى تشتيت الجهود الكُردية وشركائها في الحكم من باقي الطوائف الاجتماعية بتبايناتها الهوياتية والقومية، وتشمل السريان والعرب وآخرين، عن بناء نموذج في الحكم آمن ومستقر، في ظل الإدارة القسرية للعديد من المناطق في سوريا سواء الواقعة تحت سيطرة الحكومة بدمشق، أو تلك التابعة لسيطرة المعارضة والمدعومة من تركيا بشمال غربي سوريا من إدلب وحتى عفرين. وهي قوى بعضها متهم على قوائم الإرهاب مثل “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة”، والبعض الآخر يحفل سجلها الحقوقي بانتهاكات حقوقية ترقى إلى “جرائم حرب”.

وسط التوترات والتصعيد الذي تشهده المنطقة والذي قد يؤدي إلى حرب إقليمية شاملة في أي لحظة، اشتعل فتيل الحرب من جديد بين “العشائر العربية”، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، في دير الزور، شرق سوريا، بعد توقف خلال الفترة الماضية.

في ظل تصاعد الأزمات المنخرط فيها “الملالي” بغزة، وإعادة تشكيل الواقع الإقليمي وتموضع القوى على خلفية هذه التداعيات كافة، فإن المحاولات قائمة ومستمرة لتحقيق نتائج، ميدانية وسياسية، في تلك المنطقة التي تبدو متماسكة وتقف بعيداً عن الخرق المحتمل من قبل أي قوى، لهز الاستقرار وتحييد الوجود الأميركي وإضعاف حكم “الإدارة الذاتية”.

ووقع فجر الأربعاء، اشتباكات دامية دارت رحاها بين ثنايا قرى وبلدات ريف دير الزور شرقي سوريا، الخاضع لسيطرة “قسد”، وذلك بعد تسلل عشرات المسلحين يقال إنهم من “قوات أو جيش العشائر”، بجانب قوات من “الدفاع الوطني” والموالين لإيران، وقد بدأوا بهجومهم بالأسلحة الرشاشة والقذائف الصاروخية انطلاقاً من الضفة الغربية لنهر الفرات الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية والميلشيات الإيرانية، مستهدفين نقاط ومقار “قسد” في بلدات الذبيان وأبو حمام واللطوة ونقاطاً أخرى قرب بلدة الطيانة وفي مدينة البصيرة وبلدة الصبحة، شرق نهر الفرات بدير الزور، لترد “قسد” بغطاء من المدفعية وقذائف الهاون، وفق شهود عيان وسكان محليين. ويبدو أن هناك أطراف خارجية تسعى إلى توتير الأوضاع في شرقي الفرت بمناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، لا سيما إيران وبالتعاون مع حكومة دمشق.

وقد أشارت العديد من التقارير ومنها “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، بجانب ما نشرته حسابات عسكرية تابعة لحكومة دمشق، إلى أن هجوم ما تسمى “قوات أو جيش العشائر” تم بتحريض من الحكومة السورية والميلشيات الإيرانية بهدف بسط سيطرتهما على مناطق ريف دير الزور الشرقي، المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” وبدعم من “قوات التحالف الدولي” بقيادة واشنطن.

ولذلك يبقى تساؤل هام يجب أن نطرحه هنا، ما الذي تسعيان إليه دمشق وطهران؟ لا سيما أن “قوات العشائر” وعلى رأسهم إبراهيم الهفل شيخ عشيرة “العكيدات” نفذت هجمات مماثلة قبل نحو عام، من أبناء قبيلته وعشائر أخرى، في دير الزور وشرق الفرات، ضد “قسد”، إلا أنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم.

إيران وراء هجمات “العشائر”

عقب الهجمات التي شنتها “قوات العشائر” بالأسلحة والرشاشات والقذائف الصاروخية، واستهداف عدة مقار ومواقع لـ”قسد”، استقدمت الأخيرة تعزيزات عسكرية وأعلنت حالة الاستنفار وحظر التجوال الكامل في تلك المناطق.

هاشم مسعود السطام زعيم ميلشيا “أسود العكيدات” ومقرب من إيران- “مواقع التواصل الاجتماعي”

إلى ذلك، استهدف “التحالف الدولي” مجموعة مسلحين من “قوات العشائر”، ما أجبرهم على الانسحاب والعودة إلى مواقعهم، بحسب مصادر محلية.

وبحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، فقد أسفرت تلك الاشتباكات عن مقتل 3 مدنيين وإصابة 15 آخرين في بلدات ذيبان وحوايج وغرانيج، كحصيلة أولية. في حين، قُتل 3 “مسلحين” محليين تابعين لـ”قوات العشائر” في الاشتباكات التي دارت مع “قسد” في بلدة ذبيان شرقي دير الزور، طبقاً لـ”المرصد السوري”.

وعقب هجمات “قوات العشائر” على نقاط “قسد”، أصدرت الأخيرة، بيان اتهمت فيه الحكومة السورية ورئيس “جهاز المخابرات العامة”، حسام لوقا، بتنسيق هذا الهجوم.

وعلى إثر ذلك، ذهبت “قسد” إلى قطع الطرق المؤدية إلى “المربع الأمني” التابع لقوات دمشق في كل من مدينتي الحسكة والقامشلي/ قامشلو. وهو ما أكده العديد من الناشطين المحليين، بالإضافة إلى تأكيد التلفزيون السوري الرسمي ذلك في نشرته الصباحية، الخميس.

وطبقاً لصفحات محلية ونشطاء، فإن الهجوم في ريف دير الزور من طرف المناطق الخاضعة لقوات الحكومة السورية بالضفة الغربية لنهر الفرات، يقوده هادي مسعود السطام، متزعم فصيل “أسود العكيدات”، وهذا الفصيل تشكل عام 2021، وهي ميلشيا محلية تمول وتتبع “الحرس الثوري الإيراني”، وتضم نحو مئات المقاتلين، ولا توجد أرقام دقيقة حول أعدادهم وعتادهم العسكري، لكن غالبيتهم يتحدرون من عشيرة الشويط، وينتشرون في مدينة الميادين وصحرائها الجنوبية، وسبق وشارك هذا الفصيل في هجمات ضد قوات “قسد” منتصف العام الفائت.

ماذا تريد إيران؟

بالنظر إلى أن إيران وبالتعاون مع حكومة دمشق حاولت عدة مرات تحريض وتأليب “العشائر العربية” ضد “قوات سوريا الديمقراطية” في دير الزور، فإن ذلك يشير إلى رغبة إيران في استغلال الظروف المتواترة في غزة والمنطقة بشكل عام، بهدف توسع دائرة الصراع بالمنطقة واشتعالها، بالإضافة إلى زيادة الضغط على الولايات المتحدة، وضرب استقرار وأمن مناطق نفوذ “الإدارة الذاتية” المدعومة من واشنطن.

ولا شك أن هدف طهران أيضاً من تحريض وتأجيج العشائر هنا وهناك ضد “قسد”، هو إثارة صراع هويّاتي بين العرب والكُرد، الأمر الذي يهدف تالياً إلى تحقيق ما تطمح إليه طهران ودمشق منذ فترة طويلة وهو إضعاف “قسد” والوجود الأميركي في مناطق دير الزور.

وبحسب مراقبين تحدثوا في وقت سابق لـ”الحل نت”، فإن دمشق والميليشيات الإيرانية تحاول تحريض العشائر ضد القوات الكُردية، بغية الاستحواذ على المنطقة هناك، وتحديداً على حقل “العمر” النفطي، وإخراج القوات الأميركية، وانكشف ذلك مع تنامي التوترات خلال الشهور الأخيرة التي شهدتها شرق دير الزور، بجانب الهجمات المتفرقة التي نفذتها ميلشيات طهران، تحديداً في منطقة التنف عند المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني.

ما أهداف دمشق؟

في سياق أهداف ومصالح حكومة دمشق من تأليب وتحريض “العشائر العربية” ضد “قسد”، فإنها دون شك تسعى في الحصول والسيطرة على حقول النفط وخاصة حقل “العمر” أكبر حقول النفط بسوريا، لإنقاذ نفسها من مأزقها الاقتصادي، وهو ما تريده إيران وروسيا بغية عدم تدهور وضع الحكومة السورية أكثر مما هي عليه، ومن جهة أخرى ليس لديهما القدرة على دعم دمشق مجدداً.

الوحدات الخاصة التابعة لقوى الأمن الداخلي لـ”الإدارة الذاتية” في شمال وشرق سوريا تكثّف من وجودها بمحيط المربع الأمني في القامشلي/ قامشلو- “عكيد جولي”

يمكن القول إن طهران ومن خلال الأذرع الأمنية لحكومة دمشق، تسعى إلى ابتعاث أزمات ظاهرها هوياتي أو وجود صراع بين الكُرد والعرب، بينما الخفي والحقيقي هو بناء فواعل اجتماعية تمتد سيطرتها في المنطقة ومن ثم، تقويض نفوذ “الإدارة الذاتية” نظراً للأهمية الجيواستراتيجية للمنطقة وكذا أهميتها من جهة وجود النفط والسلة الغذائية لسوريا.

وفي ظل تصاعد الأزمات المنخرط فيها “الملالي” بغزة، وإعادة تشكيل الواقع الإقليمي وتموضع القوى على خلفية هذه التداعيات كافة، فإن المحاولات قائمة ومستمرة لتحقيق نتائج، ميدانية وسياسية، في تلك المنطقة التي تبدو متماسكة وتقف بعيداً عن الخرق المحتمل من قبل أي قوى، لهز الاستقرار وتحييد الوجود الأميركي وإضعاف حكم “الإدارة الذاتية” لتكون مناطقهم ضمن جيوب إيران التي يتم استغلالها وتوظيفها في عمليات التهريب المختلفة وإدارة مصالحها الأمنية والعسكرية والاقتصادية بين سوريا والعراق ولبنان.

لكن ومع إعادة سيطرة “قسد” على كامل مناطق ريف دير الزور، فضلاً عن مساعي “قسد” بالتعاون مع “التحالف الدولي” لمعالجة بعض الأمور ونقاط الخلل هناك، يبدو واضحاً أن محاولات دمشق وطهران تتعثر مجدداً في تفجر شرق الفرات وزعزعة أمنها واستقرارها، خاصة وأن الجانب الأميركي يدرك جيداً أنه هو الطرف المستهدف.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة