مقتل زعيم ميلشيا “حزب الله” في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد وصوله من طهران لحضور اجتماع بالمقر المركزي للتنظيم، يمثل محطة لها ما بعدها، حيث إن التصعيد الإسرائيلي الأخير يلتمس حواف النهاية، ويذهب بالأطراف كافة عند مستوى المواجهة المباشرة، بغرض تغيير التكتيكات ومناورات “محور المقاومة”، وأن لا تكون إسرائيل في جهة الخط الدفاعي والتبعية لما تحدده خطوط النار من الناحية الشمالية، بل العكس هو الصريح.
فسلسلة الهجمات التي باشرت تل أبيب بتنفيذها وطاولت قادة الصف الأول والثاني في “حزب الله”، تحديدا، لم تكن تهدف لفضح ضعف بنية التنظيم الاستخبارية وانكشافه أمنيا للحد الخطير، أو وجوده من دون غطاء إيراني، فضلا عن احتمالات الخيانة المتعددة، ووجود عملاء في بيئة الحزب التي تبدو هشة وضعيفة، إنما كل ذلك، بالإضافة إلى رغبة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو “تغيير موازين القوى في الشمال”.
عندما قال بزشكيان إن “حزب الله”، “لا يمكنه البقاء بمفرده” في مواجهة إسرائيل، فإن هذا يكشف المواقف والحوادث العملية غياب أي دعم إيراني، سياسي أو ميداني، بل ووجود ممانعة من أطراف بالنظام الإيراني تجاه حدوث الدعم.
استبق نتنياهو طهران ووكيلها المحلي بلبنان في ظل تلك السيولة الأمنية، وقام بوثبة على التهديدات المحتملة، لجهة استئناف الضربات الدقيقة التي تشل قدرات “حزب الله“، وتقويض قدراته، وإضعاف عناصره وبعث الخوف داخل عناصره وحواضنه، لتصفية سرديات “قوة الردع” التي روج لها نصرالله ضد إسرائيل بالجنوب.
“حزب الله” أمام لحظة وجودية
وفي ما يبدو أن ضغوط ما جرى في “طوفان الأقصى”، غيّرت من مفاهيم واستراتيجيات إسرائيل بشأن التعاطي مع الجبهة الشمالية، ومسألة “قواعد الاشتباك” المعمول بها منذ حرب تموز/يوليو 2006. كما بددت هامش المناورة بينهما لتضحى الانعطافة المفصلية بتغييب زعيم “حزب الله” من المشهد، بما يعني فراغا مؤثرا وعنيفا في كل ما راكمته طهران في لبنان، بل وفي المنطقة الجيوسياسية التي شكلتها خلال عقد بين سوريا والعراق.
إذ إن فك الارتباط مع غزة يمثل أولوية وحلحلة “جبهة الإسناد” بلبنان، لكن ما هو أبعد من ذلك، يتمثل في الفراغ الطائفي/الشيعي المباغت، واحتمالات ملء ذلك وصعوبته وتعقيده. ثم انعكاسات المشهد اللبناني على باقي الأطراف الولائية التي هي ليست بنفس درجة القوة التنظيمية المفترضة لـ”حزب الله”، وزيادة التوترات في جهازها التنظيمي وبما يجعل قشرتها الظاهرية ضعيفة.
حتى الآن، لم ينجح القائد الإيراني بـ”فيلق القدس” إسماعيل قاآني أن يملأ فراغ قاسم سليماني، وهو ما ظهر في تمرد الكيانات المسلحة والميلشياوية بالعراق على قرارته في لحظات تأزم صريحة وواضحة، وغياب القدرة على التأثير والضبط. وسيكون الأمر ذاته في لبنان الذي عانى من مرحلة الشيعة السياسية وتسيد نصرالله مجال الحكم، وهندسة السلطة (والمحاصصة الطائفية) بما يخدم أجندته الولائية.
ومن هنا، سيبقى أفق المرحلة المقبلة مكشوفا على احتمالات عديدة بخصوص تخفيف حمولة الحزب (وتبعيته لطهران) على القاعدة السياسية بلبنان، ووجود شراكات مختلفة وازنة، محلية وإقليمية، تساهم في رفع الأعباء الأمنية والسياسية والإقليمية.
ولهذا، قال نتنياهو قبل أيام قليلة: “بالنسبة لأولئك الذين لم يفهموا بعد، أريد توضيح سياسة إسرائيل. نحن لا ننتظر التهديد، نحن نتوقعه. في كل مكان، في كل مسرح، في أي وقت”. مؤكدا أن سلاح الجو الإسرائيلي “يدمر آلاف الصواريخ الموجهة إلى المدن الإسرائيلية”. مشيرا إلى “أيام معقدة” تقع تحت وطأتها بلاده، بما يجعل سياساته تعمد إلى استباق التهديدات ومواجهتها. وقال نتنياهو “تعهدت بأن نقوم بتغيير موازين القوى في الشمال، وهذا ما يحدث تماما، وما نقوم به الآن”.
إذاً، لم تكن تفجيرات أجهزة الاتصالات اللاسلكية “البيجر” وقبلها اغتيال فؤاد شكر وإبراهيم عقيل وإبراهيم قبيسي، وهم قادة يمكن اعتبارهم من الجيل المؤسس للحزب، سوى استراتيجية لإنهاء الحالة المصنوعة وربما الأسطورية بشأن قدرات “حزب الله” الدعائية، وإمكانيات عناصره وقادته المتخفين في مناطق وأنفاق معتمة بعيدة عن الرصد والتتبع والمراقبة، ووجود مدن عسكريتارية بكامل جهوزيتها تحت الأرض يمكنها أن تهز الأرض تحت أقدام إسرائيل، وتتحول لقوة تدميرية في أي لحظة بينما تنفجر القشرة الأرضية.
من ثم، فإن الحزب في تلك اللحظة الراهنة أمام لحظة وجودية تتراوح فيها التهديدات، بين غياب الغطاء الإيراني وحليفه السوري الأقرب بمنطق الجغرافيا، واتجاه “الولي الفقيه” إلى مساومات سياسية تفاوضية وتجنيب طهران أي صراع وحرب مباشرة مع إسرائيل. ويضاف لذلك، مشاعر الريبة والخوف من فكرة الجواسيس والعملاء في بيئة التنظيم الولائي، وتفاقمها خسائره التنظيمية والتاريخية، على المستويين الميداني والسياسي، بينما قاعدته الاجتماعية تلملم شتاتها في مرارة وأسى.
إيران في وضع قلق
في المقابل، تبدو القيادة الإيرانية بداية من المرشد ومرورا بالرئيس وحتى القوى السياسية باختلافاتها وتنوعاتها من إصلاحيين ومتشددين، في وضع قلق، ليس أمنيا فقط وقد تم نقل المرشد الإيراني علي خامنئي إلى مكان آمن، لكن كذلك في مستوى الخطاب السياسي الذي لا يصل إلى حد الانفعال والغضب ولا يقترب من التماس التهدئة، بينما تشير مفرداته الفضفاضة والتقليدية إلى الارتجال السياسي السريع والمتهافت. فاتهم المرشد إسرائيل بـ”قصر النظر” و”السياسة الحمقاء”، وزعم أن الإسرائيليين “أضعف بكثير من أن يتمكنوا من إلحاق ضرر جوهري بالبنية القوية لحزب الله في لبنان”.
حديث خامنئي الارتجالي، فإنما يتناقض وإشارات سابقة واضحة بتفادي أي دعم إيراني لما يعرف بـ”قوى المقاومة”، حتى لا يتم الوقوع في فخ الحرب مع إسرائيل، وهو ما تضج به صحف إيران على لسان مسؤولين وبرلمانيين.
وقال: “لم تتعلم (أي إسرائيل) من حربها الإجرامية التي استمرت عاما كاملا في غزة”، حيث إن “القتل الجماعي للنساء والأطفال والمدنيين لن يؤثر على البناء الراسخ لجبهة المقاومة”. فيما شدد على دعم طهران لـ”كل قوى المقاومة في المنطقة تقف إلى جانب حزب الله وتدعمه”، وأن “مصير هذه المنطقة ستحدده قوى المقاومة، وعلى رأسها حزب الله”.
وقد أكدت وكالة “رويترز” للأنباء أن نقل المرشد الإيراني رافقته تشديدات أمنية قصوى، ونقلت عن مسؤولين من الشرق الأوسط، استمرار التواصل بين طهران و”حزب الله”. وواصل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي تهديداته مؤكدا: “هذا ليس آخر ما في جعبتنا.. الرسالة بسيطة.. أي شخص يهدد مواطني إسرائيل سنعرف كيف نصل إليه”.
وقال “أود التشديد مجددا في نهاية المطاف على أننا في جهوزية تامة على كل جبهاتنا. على جميع قواتنا أن تضمن مزامنة كاملة وجهوزية تماما، بما في ذلك بالتنسيق مع أجهزة أخرى”.
إيران لم تقدم الدعم لـ”حزب الله”
بالعودة إلى حديث خامنئي الارتجالي، فإنما يتناقض وإشارات سابقة واضحة بتفادي أي دعم إيراني لما يعرف بـ”قوى المقاومة”، حتى لا يتم الوقوع في فخ الحرب مع إسرائيل، وهو ما تضج به صحف إيران على لسان مسؤولين وبرلمانيين.
وقد سبق للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن “حزب الله”، “لا يمكنه البقاء بمفرده” في مواجهة إسرائيل، بينما تكشف المواقف والحوادث العملية غياب أي دعم إيراني، سياسي أو ميداني، بل ووجود ممانعة من أطراف بالنظام الإيراني تجاه حدوث الدعم. وهذا التباين والانقسام في طهران على مستوى النخبة الحاكمة، تبدو تداعياته واضحة على المسارات والسياسات الملتزم بها “الولي الفقيه” وخلو الساحات من أي “دعم” و”وحدة”!.
كما قال الرئيس الإيراني بزكشيان في حديثه للصحفيين، في نيويورك بالتزامن مع انعقاد جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة: “لا نرغب في أن نكون سببا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط لأن عواقبه ستكون لا رجعة فيها”. وأردف: “نريد أن نعيش في سلام ولا نريد الحرب. إسرائيل هي التي تسعى إلى خلق هذا الصراع الشامل”.
بل إن طهران وبالتزامن مع سلسلة غارات في صفوف قادة “حزب الله”، باغتت حلفائها في “محور المقاومة” بطرح استعدادها العودة للمفاوضات بشأن أزمة الاتفاق النووي.
وأكد الرئيس الإيراني أن “طهران مستعدة لإنهاء الأزمة النووية مع الغرب”. مشيرا إلى أن “طهران مستعدة للانخراط مع المشاركين في الاتفاق النووي لعام 2015. إذا ما جرى تنفيذ التزامات الاتفاق على نحو كامل وبنية حسنة، يمكن بعد ذلك الدخول في حوار بشأن القضايا الأخرى.. نسعى لتحقيق السلام للجميع وليس لدينا نية للصراع مع أي دولة. تعارض إيران الحرب وتؤكد على ضرورة وقف الصراع العسكري في أوكرانيا على الفور”.
- مقتل حسن نصرالله : هل تعمدت إيران خيانة “حزب الله”؟
- صهر سليماني وابن خالة نصر الله: من هو هاشم صفي الدين الزعيم المحتمل لـ”حزب الله”؟
- اغتيال حسن نصرالله.. ما الذي نعرفه عن زعيم ميليشيا “حزب الله” المنفي؟
- 🛑تغطية مباشرة: الجيش الإسرائيلي يعلن رسميا اغتيال حسن نصرالله زعيم “حزب الله”
- إغلاق مكتب تجنيد لـ”حزب الله” بدمشق: سوريا تنأى بنفسها وبداية تحجيم “الحزب”؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.