من الشيشان إلى سوريا إلى أوكرانيا، سلوك روسيا واحد: قصف همجي يحيل العمران إلى ركام تتناثر منه الأشلاء والأرواح. لكن مع بداية غزوها لأوكرانيا، كان لافتًا برودة النيران الروسية في سوريا، مستعيضةً عنها بأفخاخ السياسة وألاعيبها، عبر تكريس جهود إعادة تعويم حكومة دمشق من خلال تعزيز عمليات تطبيع علاقات الأخيرة مع محيطها الإقليمي، أو عبر تفعيل جلسات عبثية ماراثونية لاجتماعات “اللجنة الدستورية” ومسار “أستانا” وغيرهما.
لاحقًا، ومع اندلاع الصراع في غزة، حصرت موسكو جهودها السياسية الخاصة بسوريا في مربع تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، تاركةً ما سوى ذلك وراءها أو لأوقات أخرى.
إعادة دمشق إلى جامعة الدول العربية هل كان السبب الوحيد في ذلك، أم أن النقاط الملتهبة في غزة وأوكرانيا وراء ذلك؟ سيما وأن موسكو أملت سابقًا من تواصلها مع الدول العربية بخصوص سوريا مشاركتها في مفاوضات “أستانا”، مما يحفز مشاركة دول أوروبية كفرنسا وألمانيا، والتي انخرطت في حوار مع موسكو حول “اللجنة الدستورية” السورية، مما يخفف تاليًا من معارضتها للأسد، حسب باحث الدكتوراه في قسم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة “أكسفورد”، صموئيل راماني.
موسكو بين سوريا وأوكرانيا
الغزو الروسي لأوكرانيا كان قد زعزع موقف روسيا المهيمن في سوريا. سياسيًا، لم يعد الغرب يعتمد على موسكو في ملفه السوري. وفيه، وصلت علاقتها مع واشنطن إلى الحضيض، رغم البداية الجيدة نسبيًا في العلاقة مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
مع تعثر غزوها لأوكرانيا، بدأت موسكو بسحب أفراد ذوي الخبرة من سوريا عبر تناوب منتظم، أو سحب دباباتها القتالية الحديثة، مما قلل من قدراتها القتالية في المنطقة.
إلا أنه من الناحية العملياتية، فإن قصف مناطق في شمال غرب سوريا لا يشكل عبئًا حقيقيًا على القدرات العسكرية الروسية، حسب الصحفي والمحلل السياسي السوري فراس ديبة. فالأمر لا يتعلق بفتح جبهات أو خوض معارك، بل يكفي فيه إطلاق القذائف عبر المدافع أو الطائرات. وهذا لا يؤثر عمليًا على القدرات العسكرية الروسية في الحرب على أوكرانيا، قال ديبة لـ”الحل نت”.
ومرد غياب هذا القصف، بحسب ديبة، يعود إلى التفاهمات الروسية التركية في أستانا وسوتشي، والأهم هو تطور العلاقة بين الدولتين غداة الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي زاد من حاجة موسكو الاستراتيجية إلى أنقرة كأحد منافذ روسيا الأساسية تجاه العالم. إلى جانب كونها نقطة أساسية للتواصل غير المباشر مع أوكرانيا في عدد من الملفات، مثل ملف القمح وتبادل الأسرى، مع استضافتها لمباحثات سلام في بداية الحرب في أوكرانيا. ولذلك لا ترغب موسكو في إغضاب أنقرة في شمال سوريا.
ساحة مواجهة
نتيجة تشتت انتباه موسكو في أوكرانيا، رجّح تشارلز ليستر – وهو زميل أقدم ومدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط – عدم قيام موسكو بأي خطوات دبلوماسية جديدة في عام 2024، مما يبقي العملية السياسية في سوريا ميتة في الماء مع تجميد خطوط الصراع، كما كانت منذ أوائل عام 2020. وهو ما سيصّلب الجدران السياسية المميزة للمناطق المتنافسة في سوريا: الشمال الشرقي، الشمال الغربي، ومناطق سيطرة دمشق.

وفي هذا السياق، يشير الباحث في مركز “جسور” للدراسات، وائل علوان، إلى أن “الأصل هو توقف كل العمليات العسكرية باتفاق آذار/مارس 2020. لكن فعليًا توقفت المعارك الكبرى وتغيير خطوط التماس بين مناطق النفوذ، مع استمرار القصف في فترات متقطعة”. مضيفًا: “كان القصف الروسي بمعظمه للضغط على الطرف الآخر (تركيا)، أو للضغط على طاولة مفاوضات خاصة بالمسألة السورية أو بسواها”.
أحيانًا، تكون الإجابة على المواقف السياسية عبر القصف والتصعيد، تمهيدًا للجلوس على طاولة المفاوضات أو لحل إشكاليات عالقة. لذا كنا نشهد تواتر القصف قبيل جولات أستانا.
الباحث في مركز “جسور” للدراسات، وائل علوان
ومع افتراض استمرار إسرائيل في حربها على غزة حتى عام 2024، ستبقى سوريا جبهة ثانوية للأعمال العدائية الجيوسياسية، عبر مساعي وكلاء إيران الموجهين من قبلها لتحقيق هدفها بطرد القوات الأميركية من خلال هجمات الطائرات المسيّرة والصواريخ والقذائف، كما يرى ليستر.
حيث وفّر ضعف الموقف الروسي في سوريا فرصة لإيران لتوسيع وجودها داخل سوريا، ولإسرائيل أيضًا عبر تكثيف غاراتها الجوية المستهدفة للنفوذ الإيراني، مما قوّض تاليًا دور روسيا كطرف ثالث يعمل على تخفيف التصعيد المحتمل بين إسرائيل وإيران في سوريا. وقلل كثيرًا من قدرتها على مساعدة حكومة دمشق في استعادة الأراضي الخارجة عن سيطرتها.
ووفقًا لقتيبة إدلبي، وهو زميل أول ومدير برنامج سوريا في المجلس الأطلسي، فإن انشغال روسيا السياسي والعسكري في أوكرانيا فرض عليها التركيز على هذه الجبهة. وانكفاء روسيا عن الجبهة السورية عسكريًا وسياسيًا يشير بالدرجة الأولى إلى انتقال المواجهة الروسية-الأميركية إلى ساحة أكثر أهمية بالنسبة للطرفين، وهي الساحة الأوكرانية.
يضيف إدلبي خلال حديثه لـ”الحل نت”: “في الأصل، كانت الساحة السورية مهمة لموسكو كجبهة مواجهة مع واشنطن، ولمناكفتها بشكل خاص في ملفات الشرق الأوسط، وهو ما يجب أخذه بعين الاعتبار. وحاليًا، لم يعد الملف السوري يحظى بالاهتمام من قبل الولايات المتحدة. وبالمقابل، لم تعد روسيا معنية بمناكفة أو مواجهة واشنطن في هذا الملف، بعد أن أصبحت الساحة الأوكرانية جبهة مواجهة فعلية معها.”
علاقة غير متوازنة
تعرضت جهود روسيا للضغط على تركيا للانسحاب العسكري من سوريا لانتكاسة كبيرة في عام 2020، عندما هزمت القوات المسلحة التركية الجيش السوري فعليًا بعد الخسارة المؤسفة لأربعة وثلاثين جنديًا تركيًا، وهو ما كشف، حسب سنان حتاحت وعمر أوزكيزيليك – كلاهما زميل غير مقيم في مشروع سوريا في برامج الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي – حدود قوة روسيا وضرورة إعادة تقييم استراتيجيتها تجاه تركيا والأزمة السورية الأوسع.

يضيف زميلا المجلس الأطلسي: “تشكل أنقرة عقبة رئيسية أمام تحقيق نصر روسي حاسم في سوريا، وفق المنظور الروسي. وللتغلب على ذلك، يجب إشراك أنقرة بطريقة تتوافق مع مصالح تركيا ولا تتوافق مع مصالح الدول الغربية، حيث تعتقد موسكو باستقلالية الأجندة التركية في سوريا عن أهداف الدول الغربية”.
إلى جانب ذلك، تشعر روسيا بقلق بالغ إزاء إمكانية التوصل إلى اتفاق تركي-أميركي بشأن سوريا يضعف المصالح الروسية، لا سيما بالنظر إلى الانسحاب المستقبلي المحتمل للقوات الأميركية من المنطقة، وهو ما يدفع موسكو للتأثير على موقف أنقرة بنشاط. وفي أسوأ السيناريوهات بالنسبة لروسيا، يمكن استثمار المفاوضات بين أنقرة ودمشق كتكتيك للمماطلة وشراء الوقت حتى يستقر الوضع في أوكرانيا أو تنسحب الولايات المتحدة من سوريا.
وفي هذا السياق، أشار علوان إلى تداعيات غزو روسيا لأوكرانيا على العلاقات الروسية-التركية، بالقول: “باتت روسيا بحاجة كبيرة جدًا لاستجداء الموقف التركي، بالحرفية لهذه الكلمة على كبر مضمونها، استجداء الموقف التركي فيما يتعلق بفتح مضيق البوسفور، بما يتعلق بالحركة التجارية، وبعض الوساطات التي بادرتها أنقرة، والتموضع التركي ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو)”. معتقدًا أن الموقف الروسي تأثر بشكل كامل بحاجتها إلى المواقف التركية.
هذه الحاجة عمّقت المصالح المشتركة بين البلدين. حيث كانت العلاقات الروسية-التركية قبل الحرب الأوكرانية علاقة غير متوازنة، وكانت موسكو تمارس الاستعلاء دائمًا. في المقابل، أنقرة تنضوي تحت حلف “الناتو”، إلا أن هذا الحلف لا يساعدها، ولا يقدم لها شيئًا. لذا كانت مضطرة للتفاهم أو التعاقد مع موسكو بسبب خيباتها من هذا الحلف. بعد الحرب على أوكرانيا، أصبح موقع تركيا ومواقفها مهمًا جدًا لموسكو، وهو ما أعطى العلاقة بين الجانبين شيئًا من التوازن، حسب علوان.
وقد دعمت موسكو حكومة دمشق خلال الهجمات في أعوام (2017 – 2018 – 2019- 2020)، مما حقّق مكاسب لدمشق ضد القوى المعارضة لسلطتها في شمال غرب سوريا. إلى جانب مواجهات مباشرة من حين لآخر بين قوات حكومة دمشق أو القوات الروسية والتركية. إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا أضعف قدرة موسكو على مساعدة دمشق في استعادة الأراضي الخارجة عن سيطرتها، وأضعف أيضًا قدرتها على ممارسة الضغط على أنقرة لإجراء مفاوضات مع دمشق، نظرًا لاعتماد موسكو جزئيًا على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حربها ضد الغرب.
حرب أوكرانيا أم غزة؟
استضاف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت سابق من هذا العام نظيره السوري بشار الأسد في موسكو لإجراء محادثات حول العلاقات الثنائية والتصعيد الحاصل في المنطقة. الاجتماع جاء وسط جهود موسكو لاستئناف المحادثات المباشرة بين مسؤولين أتراك وسوريين رفيعي المستوى. حيث استضافت موسكو نهاية عام 2022 لقاء بين وزراء الدفاع الأتراك والسوريين، وهو أول اجتماع على المستوى الوزاري بين تركيا وسوريا منذ عام 2011. ولاحقًا، توسطت في اجتماعات بين مسؤولين سوريين وأتراك.

ومؤخرًا، عبّر أردوغان عن اهتمامه باستعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق. وفي الأسبوع الماضي، أضاف لاحقًا أنه دعا الأسد لزيارة تركيا أو الاجتماع في دولة ثالثة. فيما انحصرت ردود الأسد بأنه سيتعين على أنقرة سحب قواتها من شمال سوريا والتوقف عن دعم الجماعات التي تصفها دمشق بالإرهابية، من أجل عودة علاقات البلدين إلى طبيعتها.
المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أكدت أن تطبيع العلاقات بين الجارتين يحظى بأهمية حيوية فيما يتعلق بالتوصل إلى حل شامل في سوريا وتعزيز الأمن الإقليمي. “نحن نرحب بهذا الاتجاه”، قالت زاخاروفا وأضافت: “صيغة أستانا هي الآلية الدولية الفعالة الوحيدة في تطوير الحل السلمي في سوريا. نحن مصممون على مواصلة تعاوننا الوثيق مع شركائنا الأتراك وفق صيغة أستانا”.
ووفقًا لديبة، إن صح القول بأن روسيا كانت تمارس جهودًا سياسية لحل الأزمة السورية، فإن هذه الجهود قد توقفت مع غزوها لأوكرانيا، نتيجة انتفاء الرغبة الروسية في الجلوس على طاولة المفاوضات مع الغرب حول الملف السوري، حيث يقابله الغرب بوضع الملف الأوكراني على الطاولة، مع عدم الموافقة على منح نفوذ لروسيا في أوكرانيا مقابل حل سياسي في سوريا، وهو ما يرفع التكلفة على موسكو نتيجة اضطرارها لتقديم تنازلات في أحد الملفين.
لذا، اختارت موسكو قصر “جهودها السياسية” تجاه سوريا على مسار واحد، وهو مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق. هذا المسار خارج إطار التفاوض وخارج إطار التجاذبات الدولية والإقليمية، ومنخفض التكلفة جدًا على روسيا، “قد يكون صفري التكلفة”.
لم تكن روسيا غير قادرة على تصعيد أعمالها الحربية شمال غرب سوريا في أعقاب غزوها لأوكرانيا، بل فضلت أيضًا الحفاظ على هدوء نسبي واللجوء إلى الدبلوماسية. كما باتت أكثر حرصًا على المصالحة بين دمشق وأنقرة نتيجة افتقادها الرغبة في تغيير الوضع الراهن في الشمال دون تعاون مع تركيا.
وفي ختام حديثه لـ”الحل نت”، يستشرف علوان تداعيات الحرب الإسرائيلية في جنوب لبنان وقبلها في غزة على الساحة السورية، حيث يرى إمكانية امتداد آثارها إلى النفوذ الإيراني في سوريا، مما سيعزز التفاهمات الروسية-التركية. كما يستشف حاجة تركيا لتوسيع نفوذها السياسي والأمني في سوريا على حساب النفوذ الإيراني، بموجب تفاهمات جديدة مع روسيا، وهو ما يفسر إقبال أنقرة على تطبيع العلاقات مع دمشق، والجهود الروسية في هذا الاتجاه.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

انعكاسات محتملة.. ما مردود قرار تركيا رفع القيود عن الواردات السورية؟

روسيا باقية في حميميم وطرطوس.. انحدار بمسار السياسة السورية الجديدة؟

“قسد” تهاجم أنقرة: تدخّلَت ومنعَت توقيع الاتفاقية مع دمشق!

تركيا تكشف عن “خارطة طريق” لتطوير قدرات الجيش السوري
الأكثر قراءة

وعود حكومية بلا تنفيذ.. هل توقفت بوادر حلول الأزمات السورية؟

وزير النقل السوري يتحدث عن آليات جديدة لتسعير السيارات.. ماذا قال؟

وزير الداخلية السوري: التعاون مع روسيا يخدم دمشق

وزارة الداخلية دفعت محمد الشعار إلى تسليم نفسه.. ماذا قالت؟

وثّقَ تعذيب السوريين بسجون الأسد.. تفاصيل جديدة عن “قيصر”

واشنطن تتحدث عن سحب قواتها من سوريا.. و”قسد” تؤكد عدم تلقيها خططا رسمية
المزيد من مقالات حول سياسة

بعد أن أثار الجدل.. وزارة الصحة توضح قرارها

الشرع يتلقى اتصالاً من بوتين.. والشيباني يزور العراق قريباً

الحكومة تواجه درعا: بين التهميش والمضايقات

فرنسا تمنح ”استثناءات” للاجئين لزيارة سوريا.. تفاصيل

من الإمارات.. الشيباني يكشف عن الحكومة الجديدة وعقود الغاز والنفط

“الائتلاف”” والتفاوض” يسلمان العهدة للشرع.. إليكم كواليس الاجتماع

“سيحاكمون”.. الشرع يرفض الطلب الجزائري بتسليم المقاتلين الجزائريين في صفوف الأسد
