لم تكن نهاية بشار الأسد وهو يفر إلى موسكو عبر إحدى القواعد الروسية في سوريا سوى انكشاف لكل السياسات الهشة وانكشاف ضعف بنية الحكم، حتى أن الجهاز الأمني القمعي الذي اضطلع بحماية النظام، وتنفيذ خطط الموت والتبديد مع النهب والإفقار والتغيير الديمغرافي، لم يصمد أو تتبين ولاءاته بمجرد رفع الحماية عن “الأسد”. فقد تحولت خرائط البلاد التي تم تصنيفها لدى النظام السابق بـ”سوريا المفيدة” مقابل أخرى مهملة ومهمشة، إلى بيئات لقوى وفواعل إقليمية تستثمر في “سوريا المفيدة”، واستمرار محاصرة سوريا الطبيعية بامتداداتها الحيوية، وبقدر ما كان المجتمع رخوا وغير متماسك، فطاولت الأعراض ذاتها النظام بمؤسساته وأجهزته.

وفي ما يبدو أن الرئيس السوري المخلوع، كان منفصلا تماما عن الواقع، كما وصفه مقربون منه بعد سقوطه، إذ كان مستعدا لفعل أي شيء من أجل الحفاظ على كرسي الرئاسة، فبعد اندلاع “الثورة السورية” عام 2011، استعان بإيران وميلشياتها، ومن ثم بروسيا، وسلّمهم سوريا على طبق من ذهب، من أجل إنقاذ نظامه، لكنه في النهاية صار يحكم جزءا أقل ما يقال عنه “خراب وفقر”.

اعتماد “الأسد” كان على “سوريا غير المفيدة”

الأسد، حتى بعد أن هجر نصف سكان سوريا، لم يكن يكترث بذلك. بل ظهر في خطاب العام 2017 أمام مجموعة من دبلوماسيي نظامه، وقال: “خسرنا خيرة شبابنا وبنية تحتية كلفتنا الكثير، لكننا بالمقابل ربحنا مجتمعا أكثر صحة وتجانسا”. ومن وجهة نظر الأسد، فإن عدد السوريين الذين بقوا في مناطق سيطرته، والذي كان يبلغ نحو 8 ملايين نسمة، هو “سوريا المفيدة”. أي أنه لا حاجة لبقية السوريين أو المناطق الأخرى التي كانت خارج سيطرته، وخاصة في شمال وشرق سوريا.

صورة تظهر مضخات استخراج النفط الخام في حقل الرميلان النفطي، سوريا لعام 2013، “رويترز/ رودي سعيد”

هذه العقلية السلطوية بمنطقها الاستئصالي، ترتب عليها أن النظام بقدر ما كان انفصاليا عن الواقع، ولم يتمكن من التجانس أو التمثيل لكل سوريا، أيضا انعكس الوضع ذاته على المجتمع الذي عانى جزء منه وطأة الحرمان والتهميش والبعد عن المركز السياسي الطائفي، وبالتبعية فقدان الامتيازات الاجتماعية على أساس فئوي، في مقابل جزء آخر يشعر بتفوقه وسوريته من دون نقصان لأنه في حيز “سوريا المفيدة“.

إذاً، ومع استمرار خطابات الاستقطاب العنيف في المجتمع بناء على هذا المصطلح البعثي الرائج في الأوساط السياسية، ثمة مخاوف من أن ترتسم السياسات الجديدة على الأسس القديمة، وبما لا يفكك بنية الاستبداد والتجزئة لسوريا وفق منطق أقلوي طائفي وقومي. إذ إن الحراك الذي اندلع منذ عام 2011، سعى لأن تكون سوريا جديدة من دون ارتهان لحزب أو جماعة على حساب الكل، بل تصنع التشاركية وإدارة التنوع ضمانات للمواطنية والقبول بالتنوع والتعددية. 

بالتالي، فإن “سوريا المفيدة”، المصطلح البعثي المسيّس، مثّلت المنطقة الجغرافية الممتدة بين دمشق وحلب وحتى الساحل السوري. وعليه، كانت المناطق الشرقية، ضمن الحدود التي أدرك نظام الأسد وحلفاؤه (إيران وروسيا) أن استمرارية مناطق “سوريا المفيدة” تعتمد على آلياته في نقل خيرات مناطق “سوريا غير المفيدة” لمراكز الحكم، على اعتبار أن 70 بالمئة من ثروات سوريا تتركز هناك، وخاصة النفط، حجر الزاوية في الاقتصاد، بل مُحرك الحياة اليومية.

التحرر من هواجس عديدة في سوريا الجديدة مثل “الانفصالية” وبناء مجتمع ونظام حكم لكل المكونات على أسس طبيعية تتناسب وشروط الواقع السياسي مرحليا وبشكل دائم، ثم الكف عن سياسة العداء للكُرد، يحتاج لسياسات تتبنى العدالة والمساواة ونبذ وسائل الإقصاء.

لذلك وبعد انتهاء العمليات العسكرية بشكل شبه كامل في البلاد، سعى الأسد بتحريض من حلفائه إلى محاولة استعادة السيطرة على المناطق الشرقية (القامشلي والحسكة والرقة ودير الزور)، من أجل رفد اقتصاده واستعادة عافيته، إذ بدا واضحا أن طهران وموسكو لن تستمرا في إمداده بالطاقة والغذاء لفترة طويلة.

إضافة إلى أنه كان يدرك تماما، أن العقوبات الدولية لن ترفع، طالما لن يغير من نهجه وعقليته البعثية في إدارة البلاد، ولذلك صار لزاما استعادة المناطق الشرقية، ذات الموارد الطبيعية والتي من شأنها تحقيق الاكتفاء الذاتي مجددا لاقتصاد البلاد (التكيف مع العقوبات الدولية)، كما أن خيرات مناطق “سوريا غير المفيدة” تشكل حجر الزاوية في إعادة إعمار البلاد، وبمساعدة حلفائه، (إيران وروسيا وربما الصين أيضا).

“اقتصاد استبدادي”

نظام الأسد، الأب والابن، بنى خلال فترة حكمه الذي امتد لـ54 عاما، اقتصادا سلطويا مكتفيا ذاتيا، وذلك بغية استقلاله السياسي. ويمكن القول إن المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية في سوريا، التي سبق للنظام البعثي بدمشق تركيز جهوده أو آلياته ليراكم ثرواته ونفوذه، للهيمنة عليها وإفقارها، بحيث تكون ضمن مصادر قوته واقتصادياته، بينما يكون نصيب تلك المناطق من هذه الاقتصاديات هي أن تكون اقتصاديات للعنف بحق مكوناتها، وبيئاتها الاجتماعية، ما تزال حتى الآن بحاجة إلى ترميم وسد الفجوات بينها وبين الحكومات المركزية التي تعاقبت على السلطة من دون تغيير في نظرتها، وعمقت الشعور بالاغتراب. 

إذ إنه مع الإدارة الجديدة والطموح بسوريا جديدة مغايرة عن سابقتها، تبدو هناك ضرورة لحلحلة أمور عديدة، بداية من التمثيل السياسي، ومشاركة أبناء تلك المناطق في الحكم، ومنحهم القدرة على إدارة مناطقهم وتمثيلهم بما يتناسب مع حقوقهم وحجمهم الديمغرافي الطبيعي والتاريخي. مع الضمانات الدستورية.

وفي حال استمرار مفهوم “سوريا المفيدة”، والذي يعني عمليا تقسيم فعلي للخريطة السورية ضمن دوائر أو تقسيمات نفوذ، تتفاوت في قيمتها الاقتصادية والسياسية والديموغرافية، فإن النتيجة المقابلة، ستكون استئناف الحلول الأمنية والعسكرية، لجهة حفاظ طرف على امتيازاته التعسفية بينما الطرف الآخر سيظل تحت وطأة الشعور بتغييب استحقاقاته يواصل التمرد لمقاومة نهب موارده وإفقار مناطقه وتبديد ثرواته.

ارتسمت السياسات السورية على واقع جيوسياسي في ظل هذا المفهوم، بما ولد عداءات بين المكونات على رأسهم الكُرد، حيث كان عداء مطلوبا وملحا لجهة ضمان استمرار السياسات المركزية والتي بدورها تضمن بقاء أطرافها في السلطة والحكم. فالتمييز بين المكونات القومية والطائفية، لم يكن أمرا عفويا، إنما جزء من استراتيجية ضمان بقاء سياسات الإقصاء والتهميش، بداية من تجاهل الحقوق السياسية والثقافية ومرورا بالتوزيع العادل للثروة وحتى القتل خارج نطاق القانون والتغيير الديمغرافي.

التحرر من هواجس عديدة في سوريا الجديدة مثل “الانفصالية” وبناء مجتمع ونظام حكم لكل المكونات على أسس طبيعية تتناسب وشروط الواقع السياسي مرحليا وبشكل دائم، ثم الكف عن سياسة العداء للكُرد، يحتاج لسياسات تتبنى العدالة والمساواة ونبذ وسائل الإقصاء. من هنا، يمكن القبول بالتنوع وسوريا متعددة القوميات. بما يعزز التعايش الذي هو حجر الزاوية لضمان استقرار البلاد، (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا) ومستقبلها.

أحد مزارعي القطن في أرياف محافظة الحسكة – “ANHA”

ويقول “معهد واشنطن” في تقرير سابق، إن سوريا بدأت في التسعينيات بتحرير اقتصادها ببطء، وتسارع ذلك في ظل حكم بشار الأسد البائد، لكن الأسد استمر في تشديد قبضته على بعض القطاعات لضمان اكتفائه الذاتي في مجال الطاقة والغذاء. وهذا بدوره سمح له بالحفاظ على تجارة خارجية متوازنة وبالتالي عدم المعاناة من الديون الخارجية. ولهذا يمكن القول إن الأسد كان يسعى لإعادة السيطرة على المناطق الشرقية، حتى يضمن استمرار هذه العملية.

ويشير “معهد واشنطن” إلى أن معظم النشاط الاقتصادي في المدن الغربية في سوريا يرتبط باستغلال الموارد في الشرق. وحلب هي خير مثال على ذلك: “فعندما خسرت عاصمة الشمال منطقة الأناضول الخلفية بعد انفصالها عن الإمبراطورية العثمانية في عام 1920، كان عليها بناء منطقة خلفية جديدة، لذلك استثمر أصحاب المشاريع المحليون في المحاصيل الصناعية في الشرق. وقد ساعدهم ذلك على إقامة صناعات قوية في مجال الغزل والنسيج والأغذية الزراعية في حلب”.

وتابع: “بالنسبة لأماكن أخرى، لطالما كان اختصاص حماة في الثروة الحيوانية التي تم تربيتها في السهوب المحيطة بدير الزور، مركز سوق الأغنام في سوريا، والتي يتم تصدير معظمها إلى دول الخليج. وبالمثل، تعتمد مصفاة النفط والمصانع الكيماوية في حمص على النفط والغاز والفوسفات من الشرق. أما دمشق، فإن بيروقراطيتها المتضخمة ومجتمع الأعمال هما أول من يستفيد من إعادة توزيع الإيرادات الناتجة عن تصدير المعادن والمواد الخام الزراعية”.

الشرع بحاجة لموارد الشرق

من هنا، يتعين التأكيد على أن تولي زعيم “هيئة تحرير الشام” ورئيس الإدارة الجديدة في دمشق أحمد الشرع السلطة في سوريا، يتطلب ضرورة الانعطافة لبناء سوريا جديدة وتغيير بوصلة النظر إلى موارد الشرق باعتبارها استحقاقا لحكومة مركزية تنفذ سياسات ضمن نطاقها في “سوريا المفيدة”، والحاجة إلى الموارد الاستراتيجية من نفط وقمح وغيره ليس لبناء سياسات أو منظومة حكم فئوية لصالح طبقة جديدة، بل لكل السوريين على أساس مشاركتهم في رسم نمط السلطة الجديدة من دون انفراد أو سلطوية. 

فالحرب السورية التي قاربت الـ14 عاما، تكاد أن أدت إلى تأزيم اقتصاد سوريا وإنهاك البنية التحتية وقد دُمرت بشكل كبير، إذ ألمح مدير مشروع معهد صحافة الحرب والسلام، في تدوينة له مؤخرا، لهذا الأمر وقال إن “نظام الأسد استهدف معاقل المعارضة والمدارس المستشفيات والمناطق السكنية والمدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص وحماة، التي كانت تاريخيا تتمتع بفرص اقتصادية أفضل، تواجه أيضا تحديات كبيرة في إعادة البناء.

وبحسب تقديرات “البنك الدولي“، انكمش الاقتصاد السوري بنسبة 85 بالمئة خلال سنوات الصراع في سوريا. كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي من 67.5 مليار دولار عام 2011 إلى 8.98 مليار فقط عام 2023، إضافة إلى انهيار الليرة السورية أمام النقد الأجنبي، وارتفاع معدلات التضخم بنسب كبيرة، إضافة إلى وجود 90 بالمئة من السوريين في الداخل، تحت خط الفقر.

وبالتالي، فالنهوض بالاقتصاد السوري والتعافي من آثار الحرب، يكون بتجسير الصلات مع أبناء المناطق الشرقية، التي يتمركز معظم موارد الطاقة فيها، من نفط وغاز. لذا يجب على حكومة دمشق التوجه اليوم لمفاوضات جادة وطبيعية مع “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، فوجود “الأخيرة كجزء من السلطة في سوريا يصب في مصلحة الجميع. ومن خلال المشاركة الحقيقية معهم، يمكن البدء بالخطوات الأولى في إنعاش الاقتصاد السوري المنهار، فمثلا، اليوم، تشكل الثروة النفطية السورية، محرك “دينمو” تعافي الاقتصاد.

بالإضافة إلى حوار جاد يتجاوز أطره الشكلية، وأن يكون منصة تفاعلية تخلق آليات عمل واستراتيجية مع “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، من أجل التوصل إلى صيغة تفاوضية تضمن حقوق الجميع مكونات المنطقة، وليس كما كان يفعل النظام السوري البائد.

الثروة النفطية السورية، تشكل محرك “دينمو” تعافي الاقتصاد السوري اليوم- “رويترز”

وعليه فإن الدول ستعيد النظر في مسألة رفع العقوبات عن سوريا، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي قد تحقق انفراجا حقيقيا للبدء الجدي في خطط إعادة إعمار سوريا، على اعتبار أن أي تعثر سياسي بين حكومة دمشق و”الإدارة الذاتية” في شمال وشرق سوريا، ستعني استمرار الوضع المأزوم في سوريا، بل ربما تندلع حرب أهلية جديدة ستضر حتما بالبنية التحتية أكثر فأكثر، وخاصة حقول النفط والغاز والموارد الأخرى، التي تعتبر اليوم فرصة تاريخية للاستثمار بهم لصالح جميع السوريين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات