صوت عذب ينساب في أثير الإعلام، وروح شفافة تتجلى في نظراتها الواثقة. هي حنين غانم التي عشقت الموجات الإذاعية منذ نعومة أظفارها، فخطت بثبات نحو عالم ساحر أسر قلبها.
في ملامحها هدوء يخفي شغفًا جامحًا بالاستكشاف، وابتسامة رقيقة تحمل في طياتها ذكريات طفولة متأرجحة بين دفء الأسرة ووقع الصدمات المؤقتة.
تحمل في ذاكرتها صورًا باهتة لحصار قاس لم يمس براءتها الطفولية بشكل مباشر، لكنها استوعبت لاحقًا مرارة “مرحلة النار” التي تركت بصماتها على جبين الوطن.
في حديثها، تتنقل برشاقة بين محطات مسيرتها الإعلامية، من استوديوهات الإذاعة الدافئة إلى أضواء الشاشة المتلألئة، تاركة خلفها صدى مميزًا. هي امرأة تعتز بجذورها النجفية، لكن قلبها ينبض بحب مدينتها بغداد.
بين اهتمامها بالشأن السياسي وشغفها بالموسيقى، تبدو حنين غانم، كأنها لحن عذب يتراقص بين نغمات الواقع وأثير الخيال. في هذا الحوار مع “الحل نت”، تبوح حنين بما لم تقله من قبل.
عشق الأثير.. صفحات من الطفولة وذاكرة النار
لم يكن دخول حنين، عالم الإعلام قدرًا محتومًا، بل هو قرار اتخذته منذ نعومة أظفارها، ليقودها بخطى واثقة نحو اختبار إذاعة “ديموزي” في مرحلة الإعدادية. اختبار تفوقت فيه من بين 14 شخصًا، لتكون تلك المحطة بمثابة البوابة الأولى لدخولها عالم الأثير، عالم الصوت الذي ستحبه وتتفوق فيه.
ولدت حنين غانم في الثامن من شهر يونيو عام 1992، تحت برج الجوزاء الذي يشتهر بحب الاستكشاف، تحمل في قلبها شغفًا خاصًا بالرقمين 8 و6، اللذين تراهما مرتبطين بقدومها إلى الحياة، وتعتبرهما رمزيين للحظ، وإن كانت روحها العقلانية تتجاوز الإيمان بالغيبيات.
تستعيد حنين ذكريات طفولتها كشريط سينمائي يتضمن مشاهد حلوة وأخرى مريرة. الجزء الأول، الذي قضته في كنف عائلة دافئة ومترابطة بوجود الأب والأم والإخوة والأخوات، يحمل في طياته ذكريات حميمة. أما الجزء الثاني، فقد طبعته صعوبة وألم بعد قرار والدها الزواج بامرأة أخرى والرحيل، تاركًا فراغًا مؤثرًا في حياتهم، قبل عودته لاحقًا.
تذكر حنين، أنها كانت تسمع عن لجوء البعض إلى صبغ الملابس وتغيير مظهرها بسبب الحصار، لكن هذه الأمور لم تعرف طريقها إلى عائلتها.
في سياق الحديث عن هذه المرحلة، أشارت غانم، إلى أنها لا تتذكر شيئًا عن فترة الحصار التي عاشها العراق في التسعينيات وحتى سقوط نظام صدام حسين عام 2003، فقد حرص والداها وأهلها على حمايتها وتوفير كل احتياجاتها، لتكبر وهي تسمع عن قسوة الظروف التي مر بها الآخرون دون أن يمسها ذلك بشكل مباشر.
أما “مرحلة النار” التي عصفت بالعراق بعد عام 2003، تحديدًا فترة الحرب الطائفية التي بلغت ذروتها في الأعوام اللاحقة، فقد كان لها صدى مختلف في ذاكرة حنين. ففي ليلة سقوط بغداد في التاسع من أبريل، كانت برفقة عائلتها في النجف، مسقط والدها. وحتى يومنا هذا، تحتفظ برفضها لتصنيف تلك الليلة أو ذلك اليوم، مترددة في إطلاق مسمى محدد عليه، سواء كان سقوطًا، تحريرًا، تغييرًا للنظام، أو سقوطًا للديكتاتور.
بعد 3 أشهر من تلك الليلة، عادت العائلة إلى بغداد، وشاهدت حنين بنفسها الأجواء المظلمة التي خيمت على المدينة وسمعت دوي الانفجارات. لكن ما يفرق بتجربتها في تلك الفترة هو سكنهم في منطقة الكرادة، التي تتميز بتنوعها الاجتماعي والعرقي، مما جعلها أقل عرضة لمشاهد العنف والألم التي طالت مناطق أخرى من بغداد.
حنين غانم وبصَمات فارقة.. من الإذاعة إلى الانتشار الرقمي
في مسيرتها الإعلامية، تنقلت حنين غانم بين محطات إذاعية وتلفزيونية تركت في روحها بصمات لا تمحى. بدأت رحلتها في إذاعة “ديموزي”، التي تحتل مكانة خاصة في قلبها كمحطة الانطلاق الأولى التي تعلمت فيها أبجديات العمل الإعلامي، وتحمل لها تقديرًا كبيرًا وللعاملين فيها الذين ساندوها في بداياتها.
ثم كانت تجربتها في إذاعة “أور”، التي مثلت انطلاقتها نحو الشاشة المرئية بشكل غير متوقع، مما وسع شهرتها وتفاعلها مع الجمهور في الشارع، وكانت تجربة ناضجة وناجحة، بحسبها.
في قناة “الشرقية”، قدمت برنامج “شنو فلمك” الحواري الذي تعتبره علامة فارقة في مسيرتها، خاصة مع الدعم السخي الذي قدمته القناة للإنتاج، لا سيما وأنه كان برنامجًا مختلفًا عن برامجها الفنية التي سبقته.
كان “شنو فلمك” برنامجًا حواريًا يستضيف شخصيات متنوعة من مختلف المجالات، وكان مشروعًا هي من تبنّته بنفسها، أما تجربتها مع “IQ” فكانت لطيفة، لكن الحنين وفق حنين، يبقى دائمًا لإذاعة “ديموزي”، محطتها الأولى التي يميل إليها قلبها.
برنامج “بكلمتين ونص” يحمل في طياته جزءًا كبيرًا من روح حنين، فهو مشروعها الخاص الذي يشبهها والذي آمنت به، ويعكس ميلها الفطري للإيجاز والاختصار في التعبير، حيث تحب “ما قل ودل” وتسعى لتجنب الفضاءات الفارغة والإسهاب في التفاصيل.
وجدت حنين في فريق الإنتاج سندًا وعونًا لتحقيق نجاح هذا البرنامج الذي انتشر بشكل لافت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليصبح من أوائل البرامج الإذاعية التي تحقق هذه الشهرة الواسعة عبر المنصات الرقمية، وقد انتشر بشكل مفاجئ وأسهم في شهرتها.
حنين من “تشرين” إلى التشيلو.. السياسة كَواقع والموسيقى كَأثير
لاحقًا، لم يكن انتقال شغف حنين نحو عالم السياسة تحولًا مفاجئًا، بل تطورًا تدريجيًا نابعًا من كونها فردًا عراقيًا يعيش ويتأثر بالسياسة في حياته اليومية، حيث ترى أن السياسة تعيش مع بسلوك الإنسان العراقي. وقد تعمق هذا الاهتمام بعد انخراطها في قراءة وتحليل التنظيم السياسي، لتكتشف فيه عالمًا مختلفًا وجذابًا بعيدًا عن قبحه في الواقع.
رغم انشغالها بالسياسة، فإن قرار ابتعادها عن الشاشة لم يكن سببه هذا الشغف الجديد، بل إحساسها بالإحباط من التحولات التي طرأت على الإعلام، حيث بات تركيز المؤسسات الإعلامية العراقية على حسابات الفرد بمواقع التواصل الاجتماعي وعدد المتابعين يطغى على جوهر العمل الإعلامي المتمثل في نشر الوعي والفكر.
كان لـ “تشرين”، الانتفاضة الشعبية التي هزت العراق في عام 2019، تأثير عميق على وعي حنين السياسي وفهمها للشأن العام، فهي ترى أن ما قبل “تشرين” كان مجرد قشور، وأن ما بعدها كان تحولًا جذريًا في إدراكها للسياسة، ومحاولة فهمها والغوص في عالمها.
بين عالم السياسة وسحر الموسيقى، تجد حنين نفسها أسيرة للألحان، ففي صغرها كانت طالبة موسيقى وباليه. الموسيقى جزء أصيل من حياتها، تعشق آلة التشيلو، ولها تجربة في العزف عليها، لكنها تعترف بأن مشكلتها تكمن بميلها لمحاولة الإمساك بأكثر من خيط في وقت واحد، من الإعلام والسياسة إلى الموسيقى والتوعية بحقوق المرأة والعمل في مجال الترفيه، وصولًا إلى ريادة الأعمال.
حنين غانم، ورغم انتمائها لعائلة فنية معروفة، إلا أنها اختارت مسارًا مختلفًا، معلنة عن عدم شغفها بمجال التمثيل، بل ونفورها منه، موضحة في بوحها مع “الحل نت”، أنها لا تحب التمثيل ولا تشبهه ولا يشبهها، حتى تجربتها البسيطة انتهت بانسحابها منها، قبل أن تنجزها.
تجربة أفغانستان.. جذور بالنجف وقلب في بغداد
في تعاملها مع الشهرة، تصف حنين نفسها، بأنها “أسوأ إنسان في التعامل مع الشهرة”، مؤكدة أنها لا تحبها وكانت تفضل النجاح دون الأضواء. ورغم إدراكها لأهمية السوشيال ميديا، إلا أنها شخصيًا ترى أن سلبياتها كانت عديدة عليها بسبب شهرتها، مما دفعها للابتعاد عنها منذ أكثر من سنتين لتجنب الإرهاق الناتج عنها.
عن تجربتها في أفغانستان، تروي حنين أنها كانت ضمن مشروع وثائقي لمؤسسة عربية، مشروع يتناول تجربة العراق وأفغانستان ما بعد الاحتلال الأميركي. تعتبر حنين هذه التجربة من “أنضج التجارب” في حياتها المهنية، وقد كانت مميزة ومليئة بالمشاعر المتناقضة من إثارة ورعب ومتعة وحزن، بل وشجعتها على التفكير في المشاركة في أعمال وثائقية مستقبلية.
اللحظة الوحيدة التي شعرت فيها حنين غانم بالخوف، كانت حين صعودها إلى الطائرة المتجهة من طهران نحو كابول سرًا، خاصة أنها لم تخبر أحدًا بوجهتها الحقيقية، لا سيما عائلتها التي أبلغتها بأنها مسافرة لإيران، وفي لحظة الخوف تلك، قامت بمشاركة موقعها المباشر مع الأصدقاء كنوع من الاحتياط.
عن جذورها النجفية وانتمائها البغدادي، تؤكد حنين اعتزازها بأصولها النجفية وفخرها بعائلتها المعروفة هناك، تقول إنها “دائمًا ما تذكر أصلها النجفي عند بداية حديثها”، لكنها في الوقت ذاته، تعد نفسها امرأة بغدادية مع سبق الإصرار، كونها ولدت وعاشت في بغداد. تحب هذه المدينة وتشعر بالتشابه بينهما، رافضة الصورة النمطية السلبية عنها، ومؤكدة على حيويتها وتنوعها، وابقدرة على الحب فيها.
نظرة جديدة للريف.. محطات مفصلية ورسالة للدنيا
لدى حنين قصة مع الزرع والفلاحين، تقول إنها لم تكن لديها علاقة مباشرة بهذا العالم، لكنها تعرفت على شخصين صحفيّين خلال مشروع صحفي، وأصبحا من المقربين لها، وصداقتها لهما غيرت نظرتها عن الريف تمامًا.
الصحفيان، يحملان ذات الاسم، علي عزيز، أحدهما من البصرة، والآخر من الديوانية، وهما ينحدران من الريف، وعلاقتها بهما حطمت أحكامها المسبقة والمغلوطة عن القرية، مكتشفة أنهم أكثر حظًا، لأنهم يعيشون سلوك المدينة بهدوء الريف، والأكثر إثارة أن هذا التحول في التفكير، ألهمها لوضع هدف شخصي مستقبلًا، يتمثل بامتلاك مزرعة والعيش في هدوء القرية، وممارسة الأعمال الزراعية.
هل لا زلتِ تخافين الخسارات؟ كان هذا السؤال بمثابة نافذة إلى أعماق روح حنين الحساسة. أجابت بصدق: “أنا لست جبانة، لكنني لا أستطيع استيعاب فكرة الخسارات. لا أستطيع تقبل فكرة عدم وجود أب أو أخ أو أخت. صحيح أنني لم أمر بهذه التجربة بعد، لكنني أشعر بعدم التوازن حينما أسمع بأن هناك أشخاصًا، لاسيما من الأصدقاء، فقدوا هؤلاء الأشخاص”، وتضيف بعمق: الخسارة الكبرى هي الموت. كل الخسارات أمام الموت هي كذبة.
فيما يتعلق بالمراحل المفصلية في حياتها، فقد أشارت حنين إلى عدة محطات مهمة، مثل فترة طفولتها المزدوجة، وتجربة طلاق والديها قبل عودتهما، واستيعاب إخوة من زوجة الأب التي تحولت إلى علاقة دافئة ورائعة، وتجربتها في أفغانستان، وتفاعلها مع “انتفاضة تشرين” التي أثرت بعمق في وعيها السياسي، ففضلًا عن تجربة الارتباط والانفصال. كل تلك التجارب، تركت آثارًا عميقة في مسار حياتها.
في إجابتها عن سؤال “ماذا أعطتك الدنيا وماذا تريدين منها؟”، أجابت حنين بقلب ممتن لعائلتها العظيمة وأصدقائها الأوفياء، الذين يشكلون كنزها الحقيقي في هذه الحياة. أما ما تريده من الدنيا، فهو بسيط وعميق في آن واحد: تتمنى أن تتجنب المفاجآت السيئة، تلك التي تخشاها وتخاف منها. باختصار، رغبة في حياة أكثر استقرارًا.
في نهاية البوح، تتركنا حنين غانم مع صورة لامرأة عراقية عصرية، نشأت بين دفء العائلة وتأثير الأحداث الكبرى في تاريخ العراق الحديث. إنها إعلامية تجاوزت موجات الأثير، وهي قصة شغف ورحلة استكشاف. تحمل في طياتها حنينًا دائمًا للمحطة الأولى، وتطلعًا لمستقبل يحمل هدوء الريف ودفء العائلة والأصدقاء.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
الأكثر قراءة

هل تكون العملة الجديدة حلا سحريًا لاستعادة الثقة في الليرة السورية؟.. خبير يوضح

هل تستطيع سوريا النجاة من نيران الطائفية؟

نتائج زيارة الوزير الشيباني إلى نيويورك: بين الخلط والفشل!

محمد رمضان يتجاهل محاكمته بتُهمة إهانة العَلم المصري بأسلوب استفزازي!

ماهر مروان: سيرة مشبوهة وقرابة نافذة بالشرع.. ما أهليّته لقيادة دمشق؟

لا قرار رسمي.. نقل مراكز الامتحانات يثير مخاوف طلبة الحسكة
المزيد من مقالات حول مقابلات

حنين غانم.. بصمة تجاوزت الموجات إلى أفغانستان!

إلهام أحمد لـ”الحل نت”: اتصالنا مباشر مع دمشق ولا انسحاب أميركي من سوريا في ظل إدارة ترامب

شجن سعد: حملَت السعَد وكسرَت الشجَن!

د.أيمن سلامة: استحالة استخدام السلاح النووي في الوقت الراهن لأن التاريخ لن يرحم

د.أسامة القاضي لـ“الحل نت“: الأسوأ لم يأت بعد في الاقتصاد السوري

عقيل عباس: العملية السياسية العراقية ميّتَة سريرياً ولا مستقبل للنفوذ الإيراني

حسن الرداد: إيمي سمير غانم تمتلك حس كوميدي واستشيرها في بعض أدواري
